فى بطء شديد خرج الراهب الشيخ من باب قلايته الملاصقة للكنيسة ، خرج يتحسس طريقه ، يحمل معه عبء الستين عاما ويجر ما خلفت له من أمراض مختلفة . يلوح بعصاه تارة ذات اليمين وتارة ذات اليسار علها ترتطم بشئ فيتعرف على طريقه وليتأكد أنه ليس هناك ما يصطدم به .
وقبل ان يمشى بعض خطوات هرع إليه راهب شاب ، لثم يده وسأله عن طلبه ثم قاده فى اشفاق حتى وصل به إلى ( مصطبة ) قريبة أجلسه فوقها برفق ثم أستأذنه فى الانصراف وهو يطلب إليه أن يدعو له وقال الشيخ عبارته المشهورة : الله يساعدك على خلاص نفسك .
وفى جلسته لا يبد حراكا . لا شئ سوى صوته الذى يرتفع بين الحين والحين مرددا مديحة قديمة ورثها عن الذين سبقوه او ترنيمة حملها معه من قريته ، وهو فى ذلك له طريقة مؤثرة فقد جمع صوته بين رنتى الحزن والفرح معا ، ويشعر كل من يسمعه أن الصوت قادم من بعيد ، بعيد جدا ، من الأبدية . كما ان ترتيله له خاصة عجيبة فهو يبكت ويشجع فى آن واحد .
ويمضى الوقت وهو لا يعرف الساعة ولا المواعيد ، ولا يستطيع ان يفرق بين الليل والنهار ، فإذا دق ناقوس الكنيسة صحبوه إلى هناك وإذا دق ناقوس المائدة صحبوه إلى المائدة . لا يسأل عن الساعة ثم أنه لا يعرف مكانا فى الدير أقصد لا يعرف كيف يصل إلى أى مكان دون مساعدة آخر . الخلاصة انه محمول على عناية الله ورعايته .
وتطول جلسته على المصطبة فينهض بنفس البطء والهدوء ويتأهب لرحلة العودة وطولها عشرون مترا فقط ، حتى يصل إلى قلايته ، نفس العمل الشاق ويلمحه راهب آخر ويتطوع بمرافقته إلى القلاية .
فإذا جاء موعد النوم آتى راهب شاب يعينه رئيس الدير لخدمته يفتح هذا باب قلاية الشيخ فى هدوء ليطمئن إلى مرقده ثم يطلب بركته وصلواته ثم يخرج ويغلق الباب من الخارج .
إلى أن يحين موعد ناقوس صلوات تسبحة نصف الليل فيعود إلى القلاية ليصحبه إلى الكنيسة يضع يده فى يد الشيخ ويقتاده فى صمت مطبق إلى هناك والشيخ فى هذا وذاك مطمئن لا يسأل ولا يستفسر ، فهو يعرف أنه يقضون له حاجاته عندما يحين موعدها ، وهو موقن أنه بين يدى اخوته التى سبقت فأيدتها يد الله الأمينة.
كل وجبة طعام عندما يدق الناقوس يأتى الراهب ويصحبه من يده ويتجه به إلى المائدة يجلس ويأكل من يده فى صمت ثم يذهب معه ليغسل يديه وفمه ويناوله فنجان الشاى ثم يرجع مصحوبا به إلى قلايته أو إلى جلسته فوق المصطبة ، كذلك عندما يحين الموعد الأسبوعى يحضر نفس الراهب ويعد له حمامه ويغسل له ملابسه . وبالجملة يصبح الراهب الذى يخدم الشيخ بمثابة عين له .
ويدق ناقوس نصف الليل ذات يوم كعادته الساعة الرابعة من كل صباح ويمضى الراهب الشاب إلى قلاية الشيخ ويدفع بابها برفق ويناديه :
- هيا يا أبى فقد دق الناقوس ، بنا إلى الكنيسة لنسبح .
- اى ناقوس وأى كنيسة .
الراهب فى صبر :
- ناقوس تسبحة الليل يا أبى .
- باركك الله يا ولدى لعلك نسيت او تحلم .
- ابدا يا ابى .
- كيف ذلك يا ابنى وقد دق الناقوس منذ ساعات وذهبت إلى الكنيسة .
الراهب الشاب مداعبا :
اى ناقوس واى كنيسة
- لقد سبحت وصليت القداس .
- رباه .. انت تحلم ما فى ذلك من شك .
- ابدا صدقنى لقد كان القداس جميلا ، لا أذكر انى تعزيت مثلما شعرت بالتعزية هذا الصباح ولكن قل لى ألم تأت أنت وصحبتنى إلى الكنيسة
واسف الراهب الشاب فى نفسه ورشم ذاته بعلامة الصليب وأعتقد أن الشيخ قد لفحه هوس مفاجئ أو ان الأمر اختلط عليه ، انه لم يسأل مرة واحدة عن الساعة أو الوقت أو الناقوس ، بل قد تمضى ساعات وهو جالس لا يدرى كم مضى من الوقت ..
ومد يده ليلتقط يد الشيخ ولكن الشيخ سحب يده وزجره فى براءة وعاد ليقول : كان القداس جميلا كذلك الأب الذى صلى كان صوته ملائكيا ، الا تصدقنى لقد تناولت من السر المقدس . وتذرع الراهب بالصبر الذى تعلمه من بطء الشيخ وهم أن يعيده إلى صوابه ولكن الشيخ مد يده فى هدوء فشد طرف ثوبه ليفسح ليده مكانا فى جيبه ثم بعد مجهود قليل أخرج لقمة أولوجية ( بركة ) ثم دفعها إلى الراهب الذى انحنى بدوره وإلتقطها بأصابعه ، فإذا بها طازجة فى حين انهم حتى هذه الساعة من الصباح لم يكونوا قد قاموا بصنع القربان بعد .
واندهش ابلغ اندهاش وصمت قليلا ثم عاد ليقول للشيخ : ارو لى ما حدث بالتدقيق . أجاب الشيخ : ليس هناك أكثر مما قلت لك ولكن لماذا لم تأت معنا واضح انه صحبنى راهب آخر غيرك ، لماذا نمت حتى الآن
ولم يرد الراهب ، ولكنه انطلق إلى أب الدير يروى له ما سمعه وهو يلهث ، ويفطن الأب إلى ما حدث فيصحب بعض الآباء إلى الكنيسة الأثرية بالدير ، ليفاجأوا هناك بالبخور يعبئ المكان والأوانى متروكة على المذبح دون أن تجمع وقطرات من الماء فوق المذبح أمام كرسي الكأس .
وعاد الآباء وقد غمرتهم الفرحة وشملتهم التعزية إلى قلاية الشيخ يشرحون له ما حدث ، ويتلقى الشيخ الكلام بهدوء عجيب وصمت مطبق خال من الدهشة ، ولم يسأل عن شئ بل هز رأسه قليلا .
هذه القصة حدثت بالفعل فى أحد أديرتنا القبطية .
أما اسم الشيخ فهو : الراهب / اندرواس الصموئيلى .
من كتاب أجراء وأبناء / نيافة الانبا مكاريوس الأسقف العام .
[b]