وليمة عند طبرية
أو
العبور إلى الدهر الآتي
أو
العبور إلى الدهر الآتي
إذ خُتم الأصحاح السابق بالحديث عن غاية الكتابة من هذا السفر، ظن البعض أن هذا الأصحاح أضيف إلى السفر في وقت لاحق لكتابته. لكن لا يوجد دليل قوي على هذا الإدعاء، خاصة وأنه لم توجد أية مخطوطة للسفر خالية من هذا الأصحاح. هذا ولم تفصل الكنيسة بين هذا الأصحاح وغيره من الأصحاحات.
يتساءل البعض: ما الحاجة إلى هذا الأصحاح بعد أن بدا كمن ختم السفر بتقديم غاية كتابته. بدأ السفر بالكشف عن بدء الكلمة الأزلي الذي بلا بداية وانتهى في الأصحاح السابق إلى ظهوره قائمًا من الأموات في اليوم الثامن للفصح المسيحي حيث كان هذا اليوم رمزًا للأبدية ذاتها. أما في هذا الأصحاح، فيسير بنا الإنجيلي كما إلى تخوم الدهر الآتي. يختم الرسول يوحنا الحبيب إنجيله بلقاء السيد المسيح مع بعض تلاميذه عند بحر طبرية ليأكل معهم كما في وليمة، وكأنها دعوة للتمتع بالوليمة السماوية.
يعتبر هذا الأصحاح أطول عرض لظهور السيد المسيح في الجليل بعد قيامته.
v يليق بنا أن نلاحظ أن الرب يُوصف كمن يقيم وليمته النهائية مع سبعة من تلاميذه. لماذا فعل هذا لو لم يعلن بأن أولئك الذين وحدهم مملوءين بنعمة الروح القدس السباعية (إش 11: 2، 3)، يكونون معه في وليمته الأبدية؟... يعلن بولس الرسول بالحق: "إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رو 8: 9). ما يعنيه أنه لا يفرح أحد فيما بعد عند رؤية المجد الإلهي ما لم يقوده الآن الله الساكن فيه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
1. ظهوره على بحيرة طبرية 1-14.
2. حديثه مع بطرس 15-19.
3. حديثه عن يوحنا 20-23.
4. ختام السفر 24-25.
1. ظهوره على بحيرة طبرية
"بعد هذا أظهر أيضًا يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية،ظهر هكذا". (1)
يقدم لنا القديس يوحنا أحد ظهورات السيد المسيح القائم من بين الأموات، ولم يكن الظهور في يوم العبادة، ولا في داخل الهيكل، ولا حين كانوا مجتمعين للصلاة، وإنما ظهر لهم في أحد أيام العمل وهم منهمكون في عملهم: صيد السمك. مسيحنا مشتاق أن يعلن ذاته للبشرية حتى في لحظات عملهم، كما بعث بالملائكة إلى الرعاة الساهرين في حراستهم لغنمهم ليبشروهم بميلاد السيد المسيح.
لقد سبق أن ظهر السيد المسيح عدة مرات للنسوة كما للرسل في أورشليم وعند القبر. أمرهم أن يذهبوا إلى الجليل، واعدًا إيّاهم أن يلتقوا به (مت 28: 7؛ مر 16: 7). وقد تحقق هذا الوعد كما يخبرنا القديس يوحنا هنا. يرى البعض أن هذا هو الظهور السابع للسيد المسيح بعد قيامته، والثالث للتلاميذ (14)، وقد تم ذلك في اليوم الثالث من قيامته.
جاء الفعل "ظهر esti genoumenis" الذي تُرجم في العربية "أظهر" يعني صار ظاهرًا، أو "أعلن عن نفسه". وكأن الموضع الطبيعي للسيد المسيح بعد قيامته هو في العالم الآخر، وأن هذه الظهورات هي إعلان عن نفسه لتلاميذه وغيرهم ليتأكدوا من قيامته. يكشف هذا الفعل عن حالة ربنا يسوع السامية حيث لا يعود الالتقاء به في هذا العالم. فهو الذي يجعل ذاته حاضرًا فيه حين يشاء. وهو الذي يصير إذ ذاك منظورًا حسب ظروف الزمان والمكان. لم يأتِ إلى هذا الشاطئ ماشيًا كمن انطلق من موضع إلى آخر، بل وقف على الشاطئ فجأة وظهر للتلاميذ هكذا.
ربما يشير هذا الفعل "أظهر نفسه" أيضًا إلى ما يختلج في نفوس التلاميذ من جراء ذلك، إذ لم يكونوا بعد قد تمتعوا بمعرفته بعد قيامته كما هو. لذلك تحدث معهم كمن هو غريبٍ عنهم مناديًا إيّاهم باسم عمومي: "يا غلمان" (5).
v ألا ترون أنه لم يبقَ معهم على الدوام، ولا بنفس الطريقة التي كانت قبلاً؟ لقد ظهر إلى لحظات، في المساء ثم اختفى، بعد ذلك ظهر مرة أخرى بعد ثمانية أيام واختفى أيضًا، وبعد هذه الأمور ظهر عند البحر، مرة أخرى في مهابة عظيمة. ماذا يعنى "ظهر"؟ واضح من هذا أنه لم يكن يُرى إلا عندما يتنازل، لأن جسده غير فاسد، وفي نقاوة (جسد روحاني) بلا اختلاط.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v استعادهم إلى الرجاء الذي لم يكن بعد قد بدأ يحل بهم من جهته، لكنه إذ فعل ذلك نحسب هذا قد تم بناء على أثر اليأس التي تملك علي أذهانهم. أما الآن بعد عودته إليهم حيًا من القبر، بعد الشهادة العظيمة للحق الخاص بتجديد جسده الذي قدمه لأعينهم وأياديهم، ليس فقط يُرى، بل وأيضا يُلمس ويُمسك بعد فحص علامات الجراحات نفسها. وذلك لكي يعترف الرسول توما الذي رفض قبلاً أن يؤمن بعد أن نفخ عليهم الروح القدس، وبعد أن سكب من شفتيه في آذانهم: "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا، من غفرتم لهم خطاياهم غُفرت لهم، ومن أمسكتموها عليهم أُمسكت". صاروا فجأة مرة أخرى صيادين لا للناس بل للسمك.
القديس أغسطينوس
تحقق هذا المشهد عند بحر طبرية في الجليل، فقد رحل التلاميذ شمالاً ربما إلى منازلهم حيث التقى بهم في الجليل.
بحر طبرية Tiberias: كان بحر الجليل يدعى في أيام السيد المسيح بحر طبرية. في العهد القديم كان يدعى بحر كنارة Chinnereth، وجاء في لوقا 5:1 "بحيرة جنيسارت". وفي حوالي عام 20م تأسست مدينة على شواطئه دعيت طبرية Tiberias على اسم الإمبراطور، ودُعي البحر "بحر طبرية"، وقد تم هذا التغيير خلال عدة سنوات. استخدم الإنجيلي يوحنا الاسم الشائع وقت كتابته للسفر.
"كان سمعان بطرس وتوما الذي يقال له التوأم،
ونثنائيل الذي من قانا الجليل،
وابنا زبدي، واثنان آخران من تلاميذه مع بعضهم". (2)
لقد جاء سبعة تلاميذ إلى شاطئ بحر طبرية. ظهر لهم معًا، ربما لأنه كما يقول البعض أن القانون الروماني يتطلب سبعة شهود للشهادة. أظهر السيد المسيح نفسه هنا لسبعة من تلاميذه من بينهم نثنائيل الذي لم يشر إليه القديس يوحنا بعد لقائه مع السيد المسيح في الاصحاح الأول. يظن البعض أنه هو برثلماوس أحد الاثنى عشر تلميذًا. أما التلميذان اللذان لم يشر إلى اسمهما هنا فربما هما فيلبس من بيت صيدا وأندراوس من كفرناحوم.
"قال لهم سمعان بطرس:
أنا أذهب لأتصيد.
قالوا له: نذهب نحن أيضًا معك.
فخرجوا ودخلوا السفينة للوقت،
وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئًا". (3)
مما لا شك فيه أن الفترة التي عاشها التلاميذ ما بين الصلب حتى الصعود، كانت تمثل غموضًا، وإن كانت ظهورات السيد المسيح لهم فتحت أمامهم أبواب الرجاء، وكشفت لهم عن الكثير من الأسرار الإلهية. كانت الحالة النفسية للتلاميذ متقلبة، والمستقبل بالنسبة لهم لم يكن واضحًا. لم يكن ممكنًا لهم أن يدركوا طابع حياتهم الجديدة بعد مفارقة السيد المسيح لهم بالجسد. لقد تسلموا الالتزام بالإرسالية للعالم كله، لكنهم لم يكونوا بعد قد تمتعوا بالروح القدس الذي يقودهم للعمل الجديد. حقا لقد تبدل حزن جمعة الصلب ببهجة القيامة في الأحد، ولكن ما هي خطة الله بالنسبة لهم؟ هل يبقوا في بيوتهم، أم يجتمعوا معًا؟ هل يعيشوا في الجليل، أم ينطلقوا للشهادة القيامة؟ كان الموقف غاية في الصعوبة، لهذا إذ دعاهم بطرس للرسل للتصيد تحركوا معه لممارسة أي عمل. لم يكن قد حان وقت الكرازة بالمسيح وعمله الخلاصي، إذ كان يلزم الانتظار حتى صعوده وحلول روحه القدوس على الكنيسة.
لم يعرف التلاميذ حياة الخمول والكسل، فخرجوا للتصيد، ليس كنوعٍ من الترفيه، وإنما للعمل، حتى يجدوا ما يسد احتياجاتهم المادية. دعاهم بطرس للرسول للتصيد كمورد رزق لهم، لأنهم كانوا يعيشون قبل الصلب على ما يقدمه البعض في الصندوق (لو 8: 3). لهذا كما يخبرنا القديس يوحنا كاسيان عن الرهبنة المصرية أن الرهبان كانوا ملتزمين بالعمل لسد احتياجاتهم، بل والاهتمام بالفقراء، مع التطلع إلى العمل كتدريبٍ يمس نموهم الروحي. يجدر بالراهب ألا ينشغل بالأعمال الكثيرة، وفي نفس الوقت لا يعتمد على أقربائه أو غيرهم في المئونة الضرورية له.
v بفضل الزهد في كل غنى نختار الحصول على قوتنا اليومي بعمل أيدينا دون أن نعتمد على غنى أقربائنا، لئلا نميل إلى التأمل في الكتاب المقدس مع كسل، فتصير قراءتنا عقيمة. لكن الأفضل أن يكون لنا الفقر العامل. حقًا لو أن الرسل علمونا هذا بمثالهم أو رأينا هذا في قوانين آبائنا لكان هذا مبهجًا لنا.
هذا ويجدر بك أن تعلم أن هناك خطر آخر لا يقل عن السابق، وهو أنك تقتات بمعونة الغير وأنت سليم الجسد قوى البنية، هذا لا يليق إلا بالضعفاء... لذا يلزم بالكل أن يعيشوا بالعمل اليومي الذي من أيديهم، ويجدر بنا أن نعود إلى وصية المحبة التي أوصانا بها الرسول الذي يمنع مساعدة الأغنياء للكسالى قائلاً: "فإننا أيضًا حينَ كُنَّا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 10:3).
هذه هي كلمات الطوباوي أنطونيوس التي نطق بها مع هذا الإنسان، وقد علمنا الطوباوي هذا بمثاله.
الأب إبراهيم
ما أجمل أن يجتمع الاخوة معًا ليس فقط في العبادة الكنسية والكرازة، بل وفي الحوار المملوء حبًا، وأيضًا في العمل، فتزداد المحبة المتبادلة بينهم، ويجدون مسرّتهم في الوحدة العملية.
قرار القديس بطرس طبيعي، وإن كان البعض يشعرون بأنهم قرار ليس حسب مشيئة الله، إذ ذهب هو وزملاؤه دون استشاره الله بالصلاة، لذلك قضوا الليلة كلها ولم يصطادوا شيئًا. على أي الأحوال كان هذا درسًا عمليًا عن فشل كل جهود بشرية، مهما كان هدفها، مادامت لا تستعين بالعون الإلهي، خاصة في اصطياد النفوس لحساب ملكوت الله.
v قال يسوع، الحق: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). لماذا عاد بطرس إلى ما قد تركه؟ نحن نعرف أن بطرس كان صياد سمك بينما كان متى عشارًا. عاد بطرس لصيد السمك بعد تحوله للإيمان. أما متى فلم يجلس بعد في مكان الجباية، لأن المعيشة خلال صيد السمك شيء، وإضافة الربح خلال الجباية شيء آخر. توجد أعمال كثيرة لا نستطيع ممارستها جزئيًا ولا بالكامل دون أن نخطئ. لا يسمح لأحد أن يعود إليها بعد إيمانه، تلك التي ترتبط بالخطية.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يجيب القديس أغسطينوس على التساؤل: "إن كان الرب قد وعد قائلاً: "اطلبوا ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تزاد لكم" (مت ٦: ٣٣)، فلماذا لم يُوجد للتلاميذ ما لقوتهم حتى التزموا بالذهاب للصيد؟ إنه هو أيضًا وضع هناك السمك الذي يُصطاد، وجاء بالتلاميذ إلى العوز لكي يلزمهم أن يصطادوا، فيكشف لهم المعجزة التي أعدها لهم، فيُشبع الكارزين بإنجيله، وفي نفس الوقت يعزز الإنجيل نفسه بالسرً العظيم الذي ينطبع على أذهانهم بسبب كثرة عدد السمك.
v لم يُطلب منهم أن يمتنعوا عن طلب الاحتياجات اللازمة خلال المهنة، مادامت هذه المهنة شرعية في ذاتها ومسموح بها، وماداموا يحتفظون بعملهم الرسولي دون مساس به، وذلك متى لم يكن لهم وسيلة لكسب القوت اليومي. وإلا يتجاسر أحد ظانًا أو مؤكدًا أن الرسول بولس لم يبلغ كمال الذين تركوا كل شيء وتبعوا المسيح، إذ رأى أن يعمل بيديه لسد احتياجاته حتى لا يكون ثقلاً على أحد ممن يكرز لهم بالإنجيل. إنما بالأحرى نجده يحقق كلماته: "تعبت أكثر من جميعهم" مضيفًا: "ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (١ كو ١٥: ١٠).
القديس أغسطينوس
"ولما كان الصبح، وقف يسوع على الشاطئ،
ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه يسوع". (4)
لم يعرفه التلاميذ ربما لأن نور الصباح لم يكن بعد كافيًا للرؤية، أو لأنه كان بعيدًا عنهم، أو أخذ شكلاً آخر كما في مر 16: 12.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يعلن لهم ذاته حتى يمكنهم الدخول في حوارٍ معه.
v قبل القيامة مشى يسوع على أمواج البحر أمام نظر تلاميذه (مت 14: 25). إلى ماذا يشير البحر إلا للعصر الحاضر الذي يضطرب بضجيج الظروف وفوضى هذه الحياة الفانية؟ ماذا تعني صلابة الشاطئ إلا استمرارية السلام الأبدي غير المنقطع؟ وحيث أن مخلصنا قد عبر فعلاً إلى ما وراء الجسد الفاني، لذلك وقف بعد قيامته على الشاطئ كمن يتحدث إلى تلاميذه بتصرفاته الخاصة بسرّ قيامته.
البابا غريغوريوس (الكبير)
"فقال لهم يسوع:
يا غلمان ألعل عندكم إدامًا أجابوه لا". (5)
"غلمان" باليونانيةPaidia تعبير يُستخدم لمن لهم علاقة قوية مع عاطفة وحنو نحو المتحدث إليهم. الكلمة اليونانية pais معناها حرفيًا الأطفال الصغار أو المحبوبون. استخدمها الإنجيلي يوحنا للابن الصغير لأحد النبلاء (4: 49)، وللطفل المولود حديثًا (16 :21). لكن يمكن استخدامها للبالغين، بل وتستخدم أحيانا بالنسبة للجنود. هكذا تحدث السيد المسيح معهم بروح الأبوة نحو أبناءٍ أعزاءٍ لديه، فمع أنه بالقيامة تمتع بالجسد الممجد، فإن هذا المجد يُعلن بروح الحب الأبدي والحنو الفائق. بحسب عمرهم لم يكونوا في طبقة الأبناء، لكنهم صاروا أبناء للَّه يتمتعون بالبنوة الإلهية.
كأبٍ مملوء حنوًا يهتم حتى بطعامهم الجسدي، يُشبع كل احتياجاتهم الروحية والجسدية. يبقى مسيحنا القائم من الأموات يعبر خلال مؤمنيه عند كل بيت، خاصة الفقراء والمحتاجين، ويسأل: يا أولادي ألعل عندكم طعامًا؟ إنه يعلم أنه ليس لديهم طعامًا، لكنه يثير فيهم الرغبة في الصلاة بإيمان ليطلبوا منه شبعًا. يشبعهم بالطعام لا من يدٍ بشريةٍ، بل من مخازنه، يرويهم بنفسه بوسيلةٍ أو أخرى بينابيع حبه، ويفتح عيون قلوبهم ليروه ويتعرفوا على أسراره.
v بالأحرى تحدث معهم بطريقة بشرية كما لو كان يود أن يشترى منهم شيئًا. ولكن عندما أشاروا أنهم لم يصطادوا شيئًا أمرهم أن يلقوا شباكهم إلى الجانب الأيمن من السفينة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
جاءت إجابتهم لهم بالنفي "لا"، للتعبير عما عانوه من مرارة، إذ قضوا الليل كله بلا صيد. لم يريدوا الحديث عن هذه الليلة في شيء من التفصيل، إذ يصعب على الشخص أن يتحدث عن فشله.
"فقال لهم: القوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا،
فألقوا، ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك". (6)
يبدو أنه حسب خبرتهم كصيادي سمك كان يلزمهم إلقاء الشبكة في الجانب الأيسر من السفينة في ذلك الموضع من البحيرة. مع عدم معرفتهم لمن قدم لهم المشورة أطاعوا الأمر بروح التواضع والاجتهاد وطول الأناة دون مناقشة، وبغير اعتداد بخبرتهم الطويلة في الصيد، ولعل رقة حديث السيد ولهجته ألزمتهم بالطاعة والخضوع.
صيد السمك الكثير كان عملاً معجزيًا، ليس لإبراز سلطان السيد المسيح حتى على السمك والبحار، وإنما لإعلان رعايته واهتمامه باحتياجات الناس، خاصة الذين تركوا كل شيء من أجله. هذا وقد حمل ذلك عملاً رمزيًا، فجهاد التلاميذ طوال المساء يشير إلى جهاد الأنبياء ورجال العهد القديم لكي يصطادوا النفوس لحساب مملكة المسيح، لكن لم يصطادوا شيئًا، حتى جاء السيد المسيح، وفتح بصليبه أبواب الفردوس، وأعطى التلاميذ سلطانه للصيد، فامتلأت سفينة الكنيسة بالسمك.
لقد جاهد التلاميذ طوال المساء وبدا لهم كأنهم فاشلون لم يصطادوا شيئًا، لكن السيد المسيح الذي لن ينسى تعب أبنائه، ففي لحظات عوّضهم عن تعب الليل كله. هكذا يبعث فينا روح الرجاء. فقد نتعب لسنوات في الخدمة، لكن يظهر الثمر في اللحظات الأخيرة من حياتنا على الأرض.
حقًا حينما يوجهنا السيد المسيح للعمل لحساب ملكوته، ونطيعه لن توجد بعد الشباك فارغة. هو وحده يعرف أين توجد النفوس المتعطشة للتمتع بالخلاص، حتى وإن لم توجد علامات ظاهرة عليهم؛ وهو الذي يوجهنا إليها، ويجتذبها إلى شباك كنيسته المقدسة.
v نقرأ مرتين في الإنجيل المقدس أن الرب أمر أن تًلقى الشباك للصيد.
في الصيد الأول (لو 5: 4-6) قبل الآلام، لم يقل إن الشباك تلقى على الجانب اليمين أم اليسار، وقد جاءوا بسمكٍ كثيرٍ حتى كادت الشباك أن تتخرق. وفي الصيد الأخير، بعد القيامة أمر بإلقاء الشبكة على الجانب اليمين، ومع أنها قد جاءت بسمكٍ كثيرٍ لم تتخرق الشباك.
يًشار للأبرار بالجانب اليمين والأشرار الشمال (مت 25: 33). الصيد الأول يشير إلى الكنيسة في الوقت الحاضر حيث تأتي بالصالحين والأشرار. إنها لا تختار الذين يدخلون فيها، لأنها تجهل الذين يمكنها أن تختارهم. تحقق في الصيد الأخير على الجانب اليمين حيث أن كنيسة المختارين وحدها التي لا يوجد فيها شيء من أعمال الأشرار، سترى مجد بهائه.
في الصيد الأول تخرقت الشبكة بسبب الأشرار الذين دخلوا مع المختارين، فمزقوا الكنيسة بهرطقاتهم. في الصيد الأخير أصطيد السمك الكبير ولم تتمزق الشبكة، لأن كنيسة المختارين المقدسة تبقى في سلام خالقها الذي لا يُعاق، وليس من انشقاقات تمزقها.
البابا غريغوريوس (الكبير)
"فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس:
هو الرب.
فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب،
اتزر بثوبه، لأنه كان عريانًا،
وألقى نفسه في البحر". (7)
"اتّزر بثوبه" أو بسترة الصيّاد أو الثوب الخارجي ependuteen، وهو أشبه بمعطف للرجال في عصرنا الحالي.
"لأنه كان عريانًا"، تعبير خاص بالشخص الذي لا يرتدي الثوب الخارجي، كما قيل عن شاول حين خلع ثيابه himatra الخارجية وانطرح عريانًا النهار كله وكل الليل (1 صم 19: 24). وقيل عن داود وهو متمنطق بأفودٍ من كتّان أنه قد انكشف في أعين إماء عبيده (2 صم 6: 14، 20).
"ألقى نفسه في البحر"، واضح أنه كان قريبًا من الشاطئ على بعد حوالي 200 ذراعًا (حوالي 132 ياردة إنجليزية) وأن المياه كانت ضحلة، إذ ارتدى الثوب الخارجي ليعبر إلى الشاطئ، فلو كانت غير ضحلة ما كان يرتدي الثوب الخارجي حتى يقدر أن يسبح إلى الشاطئ.
أدرك يوحنا الذي كان يسوع يحبه أنه هو الرب، فإن الرب يكشف أسراره لمحبيه. حقًا إن اللَّه لا يحرم أحدًا من التمتع بمعرفته، فكل من يضع رأسه على صدر السيد المسيح يتمتع بالأسرار الإلهية. ومن يرافق السيد المسيح آلامه حتى الصليب يتمتع بنقاوة القلب وصفاء العينين ليسبق غيره في التعرف على السماويات. هكذا إذ تلامس القديس يوحنا مع شخص ربنا يسوع المسيح لم يستطع أن يخفي معرفته فأعلنها، حتى وإن سبقه بطرس ليلتقي مع السيد. مسرته أن يتمتع الكل بما يراه ويختبره.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن بطرس الرسول اتسم بالحماس والغيرة المتقدة، واتسم يوحنا بالهدوء، لذلك تعرف يوحنا بهدوء على شخص المسيح أولاً، لكن بطرس هو الذي جاء إليه أولاً حيث ألقى نفسه في البحر وسبح إليه، ولم ينتظر أن يأتي مع التلاميذ بالسفينة.
v عندما تعرف عليه بطرس ترك السمك والشباك واتزر.
انظر شعوره بالمهابة والشوق، فإنه مع أن المسافة كانت 200 ذراعًا لم يستطع أن ينتظر السفينة أن تأتي إليه بل ذهب إلى الشاطئ سابحًا.
منقول يتبع القديس يوحنا الذهبي الفم