القديس يوحنا الذهبي الفم
مع أن القديس بطرس قد أنكر السيد المسيح ثلاث مرات، لكنه إذ قدم دموع التوبة شعر بدالة حب وصداقة لن يقدر الزمن أن ينزعها. إذ عرف أنه الرب لم تستطع السفينة أن تحتمله ولم يستطع هو أن ينتظر حتى تبلغ الشاطئ، بل ألقى بنفسه في البحر ليسرع باللقاء مع محبوبه.
v بينما لم يعرف الآخرون قال التلميذ الذي يسوع يحبه لبطرس: "هو الرب". لأن البتولية هي أولاً تعرف الجسم البتولي أنه "يسوع" هو بعينه، لكن لم يره الكل بذات النظرة.
القديس جيروم
"وأما التلاميذ الآخرون فجاءوا بالسفينة،
لأنهم لم يكونوا بعيدين عن الأرض إلا نحو مائتي ذراع،
وهم يجرون شبكة السمك". (8)
مائتا ذراع أي حوالي 100 ياردة.
"فلما خرجوا إلى الأرض،
نظروا جمرًا موضوعًا وسمكًا موضوعًا عليه وخبزًا". (9)
كما أن صيد السمك كان عملاً معجزيًّا، هكذا وجود جمرٍ موضوعٍ عليه سمك مع خبز فجأة هو من إعداد السيد المسيح معجزيًا. لقد وجد التلاميذ جمرًا (19) كما في دار رئيس الكهنة (يو18:18)، لكن هذه المرة يوجد فوق الجمر سمك وبجانبه خبز. يعبر المشهد عن طابعه "الاحتفالي".
بينما سألهم إن كان لديهم طعام فيبدو كمن هو جائع، إذا به يقدم لهم طعامًا لا يعتمد على مجهودات بشرية ضعيفة. حقا إن كان قد دعانا للعمل لحساب ملكوته، لكن الثمر المفرح والطعام السماوي الذي يسر الآب هو من صنع السيد المسيح نفسه، ومن عمل روحه القدوس.
v ذاك الذي رغب أن يُشوي بأتعاب آلامه في بشريته يقوتنا بخبز لاهوته، إذا يقول: "أنا هو الخبز الحي النازل من السماء" (يو 6: 51). وهكذا أكل سمكًا مشويًا مع خبز لكي يظهر لنا بهذا الطعام أنه حمل آلامه في بشريته، وقدم لنا طعامًا بلاهوته.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v طلب سمكًا مشويًّا على فحم لكي يثبت للتلاميذ الشاكّين الذين لم يجسروا أن يقتربوا إليه، إذ ظنّوا أنهم لا يرون جسدًا بل روحًا.
القديس جيروم
"قال لهم يسوع:
قدموا من السمك الذي أمسكتم الآن". (10)
v أمر السيد المسيح تلاميذه أن يقدموا من السمك الذي اصطادوه، موضحًا أن الأعجوبة الكائنة لم تكن خيالية.
v سارت الأمور على غير الطبيعة، ما هي هذه؟
أولاً: أنهم اصطادوا سمكًا كثيرًا.
ثانيًا: الشباك لم تتخرق.
ثالثًا: وقبل وصولهم إلى البر كان الجمر معدًا والسمك عليه، ومعه الخبز. فإنه لم يعد يُوجد الأشياء من مادة موجودة فعلاً، وذلك بتدبير خاص كما فعل قبل الصلب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فصعد سمعان بطرس وجذب الشبكة إلى الأرض،
ممتلئة سمكًا كبيرًا مائة وثلاثًا وخمسين،
ومع هذه الكثرة لم تتخرق الشبكة". (11)
رأينا في الصيد الأول (لو 1:5-11) شباكهم صارت تتخرّق حيث كانت خاضعة لسُنن هذا العالم، أما هنا فمع وفرة الصيد "لم تتخرق الشبكة" حيث تخضع لسُنن الأبدية.
اهتم الإنجيلي يوحنا بالأعداد لكنها لم تكن في ذهنه علامة لكميات بل لنوعية كيان. فنراه يحدد عرس قانا الجليل "في اليوم الثالث" (يو 1:2). كما ذكر سبع آيات وسبع مواعظ، وجاءت كلمة "اللَّه" في مقدمة الإنجيل ثمان مرات، وفي الإنجيل كله 80 مرة. أما كلمة "لوغوس" فوردت 4 مرات في المقدمة و40 مرة في كل السفر. أما رقم 153 فقد انكبّ على تأويله عبر القرون معلقون لا يُحصون.
يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لهذه المعجزة، جاء فيه: إن عدد التلاميذ الذين خرجوا للصيد سبعة وهو الرقم الذي يشير إلى كمال الأزمنة (٧ أيام الأسبوع)، وقد جاءهم السيد في الصباح أي عند نهاية الأزمنة. وأن سحب الشبكة إلى الشاطئ يشير إلى تحقيق الدينونة في اليوم الأخير. أما محاولة الصيد طول الليل فيشير إلى الخدمة ما قبل قيامة السيد المسيح حيث لم يتمتع أحد ببركات القيامة وانتشار الكلمة، وإلقاء الشبكة على الجانب الأيمن للسفينة يشير إلى كسب الكثيرين بعد قيامته. غير أن الشبكة جمعت الكثير من السمك الكبير والصغير إشارة إلى وجود مؤمنين صالحين وأيضًا وجود أشرار داخل الكنيسة، ويتم الفرز في يوم الرب. وأما عدد السمك الكبير فهو ١٥٣ سمكة إشارة إلى رجال العهد القديم (١٠ رمز الناموس) مع رجال العهد الجديد (٧ رقم الكمال) فالمجموع ١٧. رقم ١٥٣ هو محصلة جمع الأرقام من ١ إلى ١٧.
تُسمى بعض الأعداد بأنها مثلثة. مثل رقم 10 هو العدد المثلث للعدد 4 (1+2+3+4=10) والعدد 153 هو العدد المثلث للعدد 17، وهو يحوي 7، 1 أي ثمانية. عدد التلاميذ على البحيرة 7، وعدد 8 يشير إلى الأبدية.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن كل عمل في العهد القديم يرتبط بالوصايا العشرة، وأنه يكمل في العهد الجديد بالروح القدس الذي يقدم سبع نعم "روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة والتقوى، روح مخافة الرب" (راجع إش 11: 2، 3). فالعهدان معًا يشار إليهما برقم 17 [7+10]، فكل أعمالنا في العهدين هي 17، فإذا ضربت في رقم 3 تكون المحصلة 51 حيث يُحتفل باليوبيل (50) ونبدأ بالسنة 51... هذه هي راحة العهد القديم. أما في العهد الجديد فنضرب 51 في 3 (إشارة للثالوث القدوس) فتكون المحصلة 153، وهي إشارة إلى المختارين من رجال العهدين معًا في الكنيسة السماوية أي بيتنا السماوي.
يقدم لنا القديس أغسطينوس مقارنة رائعة بين معجزتي صيد السمك الواردتين في إنجيل لوقا ٥: ٣-٧، وإنجيل يوحنا ٢١: ١-١١. وقد نقل عنه ذلك البابا غريغوريوس (الكبير). يمكننا أن نلخص مقارنته في النقاط التالية مع شيء من التصرف:
1. تمت المعجزة الأولى (لو ٥) قبل قيامة السيد المسيح، أما الثانية فتمت بعد قيامته. لهذا يرى أن المعجزة الأولى تشير إلى الكنيسة في العالم الحاضر، وهي تتمتع بنعمة المسيح، أما الثانية فتشير إلى الكنيسة في العالم القادم، أو فيما بعد القيامة، حيث تتمتع الكنيسة بمجد المسيح.
2. في إنجيل يوحنا تمت المعجزة في الصباح المبكر بعد ليلٍ طويلٍ، إشارة إلى ظهور الكنيسة في كمال مجدها مع مجيء المسيح الثاني الذي يشرق عليها بصباحٍ جديدٍ.
3. في إنجيل لوقا لم يُطلب منهم إلقاء الشبكة على الجانب الأيمن من السفينة بل أن يدخلوا إلى العمق ليلقوا الشباك، فامتلأت الشباك بالسمك الجيد والرديء. إما في إنجيل يوحنا فطُلب إلقاء الشبكة على الجانب الأيمن، وجاءوا بسمك كله جيد. المعجزة الأولى تشير إلى الكنيسة المملوءة من المؤمنين، لكن ليس الجميع صالحين، بل يختلط الصالح بالشرير، ولا يمكن فرزهم هنا. ففي الكنيسة مؤمنون صادقون يتمتعون بالشركة مع الله في المسيح يسوع بعمل روحه القدوس كما يوجد مؤمنون شكليون ومراءون لا يبالون بخلاص أنفسهم ولا خلاص اخوتهم، إنما كل ما يشغلهم هو مجدهم الذاتي أو الملذات وشهوات الجسد والارتباط بالزمنيات. أما في إنجيل يوحنا فنجد الكنيسة مع بدء الدهر الآتي يُفرز المؤمنون الحقيقيون عن الأشرار. حيث يقف الصالحون عن يمين السيد المسيح كمباركي الآب لهم حق الميراث الأبدي، أما الأشرار فلا نصيب لهم عن يمين المسيح بل على اليسار كمن لا وجود لهم، وليس لهم نصيب مع المخلص.
4. في إنجيل لوقا نجد الشباك كادت أن تتخرق، أما في إنجيل يوحنا حيث امتلأت الشبكة جدًا لم نسمع هذا التعبير. فالكنيسة في هذا العالم تتعرض إلى هجمات أصحاب البدع والهرطقات ومحبي الانشقاق، حتى تبدو الكنيسة كأنها تكاد تتمزق من الانقسامات، لكن الكنيسة الحقيقية تبقى مخفية بلا انقسام في عيني الله، حيث يكون كل أعضائها أعضاء في جسد المسيح الواحد. أما في كنيسة السماء (بعد القيامة) فنرى شبكة واحدة لن تتعرض إلى تمزيق، بل تحمل بهاء الوحدة كعروس المسيح الواحدة للعريس السماوي.
5. تحققت الأولى خلال سفينتين حيث يوجد أهل الختان (رجال العهد القديم) وأهل الغرلة (الأمم الذين دخلوا الإيمان)، ففي العالم ظهرت كنيسة العهد القديم كما كنيسة العهد الجديد، وفي كلاهما يعمل المسيا بطريقٍ أو آخر. أما في السماء فلا فصل بين الكنيستين، إذ صارا سفينة واحدة تضم الجميع.
6. يرى القديس أغسطينوس أن السفينة تبعد حوالي ٢٠٠ غلوة. ولما كانت تضم أهل الختان وأهل الغرلة معًا، فإن رقم ١٠٠ يشير إلى الوقوف عن يمين السيد المسيح، فيكون رقم ٢٠٠ إشارة إلى وقوف الفريقين معًا على ذات المسافة، أو يتمتع الفريقان بذات المكافأة والمجد.
7. بالنسبة لعدد السمك ١٥٣ سمكة فقد قدم كثير من الآباء تفاسير رمزية مختلفة عن هذا الرقم.
8. قيل عن السمك أنه كبير، لأن المؤمنين يُحسبون عظماء في ملكوت الله.
"قال لهم يسوع:
هلموا تغدوا.
ولم يجسر أحد من التلاميذ أن يسأله من أنت،
إذ كانوا يعلمون أنه الرب". (12)
"هلموا تغدّوا"، جاءت كلمة "تغدّوا" ترجمة حرفية للكلمة اليونانية aristeasate، ويرى البعض أن أصل الكلمة استخدم لتعني "الإفطار" كما جاء في هومير Homer وإكسنوفون Xenophom وبلوتارخ Plutarch، أو لوجبة مبكرة، كما تُستخدم لطعام الغذاء. وكأن السيد يدعوهم "هلموا لطعام الإفطار"، إذ كان الوقت صباحًا مبكرًا.
كصديق شخصي "قال لهم يسوع: هلموا تغدّوا" (12). لقد دعاهم للوليمة التي أعدّها لهم، فأكلوا وشبعوا، وبقي سمك كثير كبير يبيعونه، لكي ينفقوا على احتياجاتهم اليومية.
تمت معرفتهم للرب بدون كلامٍ من قبل الرب ولا من قبلهم، وكأنه قد رفعهم إلى سكون السماء حيث لا نسمع لغة بشرية، بل نتحدث بلغة الحب السماوي.
v لم يتجرأ أحد من تلاميذه أن يسأله، ولا تقدموا إليه فيما بعد بكلام، لكنهم جلسوا ناظرين إليه بصمتٍ وخوفٍ كثيرٍ واستحياء "إذ كانوا يعلمون أنه الرب". ولهذا السبب لم يسألوه "من أنت؟" وأبصروا صورته، فتبينوا فيها تغيرًا، فكانوا خائفين جدًا، وأرادوا أن يسألوه عن هيئته، لكن لخوفهم ومعرفتهم أنه لم يكن أحدًا آخر، بل هو الرب، ضبطوا سؤالهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ثم جاء يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم،
وكذلك السمك". (13)
تصرف معهم الرب كصديقٍ، وقدم لهم احتياجاتهم، وأما هم ففي حياء لم يجسروا أن يسألوه: من أنت؟ إذ علموا أنه الرب. ولكي ما يفتح لهم باب اللقاء في دالة حب قوية تقدم وأخذ الخبز وأعطاهم، وهكذا فعل بالسمك.
لم يذكر الإنجيلي يوحنا إن كان السيد المسيح قد شاركهم الطعام أم لا، فإنه حتمًا لم يكن جسمه القائم من الأموات محتاجًا إلى طعام، لكنه ربما أكل لتأكيد أنه يحمل جسمًا حقيقيًا وليس خياليًا.
v أوضح أن الأعجوبة الكائنة لم تكن خيالاً، لكن البشير لا يقول هنا إن السيد المسيح أكل معهم. قول لوقا البشير في هذا الموضع غير واضح: "فأخذ وأكل قدامهم" (لو 24: 43). أكل السيد المسيح هنا ليس عن طبيعة جسده إذ لم يكن محتاجًا إلى طعام، لكن لتواضعه أكل برهانًا على القيامة الكائنة.
v لم يعد يمارس ما كان يفعله قبلاً... هنا لم يعد بعد ينظر إلى السماء (ليبارك الطعام)، ولا تمم الحركات البشرية مظهرًا أن ما كان قد فعله قبلاً كان من قٍبَلْ تنازله. ولكي يظهر لهم أنه لم يعد يبقى معهم على الدوام، ولا بنفس الطريقة التي كان بها معهم قبلاً. لهذا قال: "هذه هي مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه...".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعدما قام من الأموات". (14)
"هذه هي مرة ثالثة" ظهر فيها لتلاميذه وهم مجتمعون بالكامل أو أغلبيتهم. فقد ظهر لعشرة منهم (يو 20: 19)، ومرة أخرى لإحدى عشر (يو 20: 26)، وفي هذه الدفعة لسبعة منهم (يو21: 2). ويرى البعض أن هذا الظهور هو السابع بوجه عام بعد قيامته حتى صعوده إلى السماء:
1. لمريم المجدلية (مر 16: 9؛ يو 20: 15-16).
2. للنسوة القادمات للقبر (مت 28: 9).
3. لاثنين من تلاميذه في الطريق إلى عمواس (لو 24: 13 الخ).
4. لبطرس وحده (لو 24: 34).
5. للعشرة تلاميذ بدون توما (يو 20: 19).
6. للإحدى عشر في اليوم الثامن حين آمن توما (يو 21: 26).
7. لسبعة تلاميذ (يو 21: 2)، ما بين 8 أيام و14 يومًا من قيامته.
8. للتلاميذ على جبل معين في الجليل (مت 28: 16).
9. لأكثر من 500 أخٍ دفعة واحدة (1 كو 15: 6)، إن لم يكن ذلك هو بعينه الظهور السابق.
10. رآه يعقوب (1 كو 15: 7).
11. لكل التلاميذ عند صعوده إلى السماء (مر 16: 19-20؛ لو 24: 50-53؛ أع 1: 3-12؛ 1 كو 15: 7).
هذه هي الظهورات التي وردت في الكتاب المقدس، لكننا لا نستطيع أن نجزم إن كانت هناك ظهورات أخرى تمت ولم ترد في الكتاب المقدس.
v لإيضاح أن السيد المسيح لم يقم مع تلاميذه إقامة متصلة، وعلى شبه ائتلافه بهم فيما سبق قال البشير: "هذه مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه".
v ربما عندما تسمعون هذه الأمور تلتهبون وتحسبون أن الذين كانوا معه كانوا سعداء، وأيضًا الذين سيكونون معه في يوم القيامة العامة. لنبذل كل الجهد حتى نرى ذاك الوجه العجيب. فإننا إن كنا ونحن الآن نسمع نلتهب شوقًا لو كنا في تلك الأيام التي قضاها على الأرض، وسمعنا صوته، ورأينا وجهه، واقتربنا إليه ولمسناه، وخدمنا تحت قيادته. فلتحسبوا كم تكون عظمة من يراه ليس بعد في جسدٍ قابل للموت، ولا وهو يمارس أعمالاً بشرية، وإنما بجسدٍ تحرسه الملائكة، فنكون نحن أنفسنا في شكل نقي بلا اختلاط.
نراه ونتمتع ببقية البركات التي تفوق كل اللغات. إني أتوسل إليكم أن نستخدم كل وسيلة حتى لا نفقد بركة مجدٍ كهذا. فإنه ليس شيء صعبًا إن أردنا، ليس شيء ثقيلاً إن كنا نهتم بذلك. "إن كنا نصبر فسنملك معه." (1 تي 2: 12)
القديس يوحنا الذهبي الفم
2. حديثه مع بطرس
أكد لهم السيد المسيح أنه خالق الجسد والروح. اهتم أن يقدم لهم إفطارًا من صنع يديه لإشباع احتياجاتهم الجسدية، والآن يهتم بالطعام الروحي لإشباع احتياجاتهم الروحية.
تم هذا الحوار بين السيد المسيح والقديس بطرس بعدما تغدّ التلاميذ وشبعوا. وربما تم أثناء الأكل حيث مال السيد نحو سمعان بطرس يتحدث معه. لقد سبق أن التقى السيد المسيح بتلميذه بعد القيامة على الأقل مرتين أو ثلاثة، ولم يفتح معه هذا الحديث، ربما لأن السيد المسيح أراد أن يعطي سمعان بطرس نوعًا من الطمأنينة أن توبته قد قُبلت، وأن ما حدث لن يؤثر على علاقة السيد به. وبعد أن اطمأن سمعان بطرس فاتحه السيد في الأمر. ويرى البعض أن سمعان بطرس لم يشر إلى هذا الأمر خشية أن يعلن له السيد عن ضعفات أو سقطات أخرى ستحدث معه، إذ أدرك أن السيد المسيح يعرف أعماقه أكثر مما يعرفها هو عن نفسه. كان بطرس الرسول محتاجًا إلى هذه الجلسة لترجع إليه الثقة في عمل اللَّه فيه.
"فبعدما تغدوا، قال يسوع لسمعان بطرس:
يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟
قال: نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك.
قال له: ارعَ خرافي". (15)
في مبادرة الحنان الشخصية هذه نحو سمعان بطرس العزيز عليه لاستعادته إلى الشركة الكاملة، شركة الذين أصبحوا الآن مختومين بختم القيامة، لم يشر السيد المسيح إلى اسم سمعان الجديد "بطرس" الذي وهبه إيّاه، وكأنه يعيد تجديد العهد معه.
"أتحبني أكثر من هؤلاء؟" يرى البعض أنه يقصد: هل تحبني أكثر من حبك لهؤلاء جميعًا، لكن الواضح أنه يسأله إن كان يظن أن حبه للسيد المسيح أكثر من حب بقية التلاميذ له كما كان يظن قبلاً، حين أعلن أنه مستعد أن يسير حتى إلى الموت، حتى إن أنكره الجميع. لم يجسر سمعان بن يونا في إجابته أن ينطق ويقول: "أكثر من هؤلاء" لأنه خشي أن يحمل في داخله ضعفًا هو يجهله، ولأنه يقدم توبة عما سبق فأعلنه أنه لن ينكره حتى إن أنكره الجميع. تحدث في أسلوب مملوء حياءً وخشوعًا! إذ تعلم القديس بطرس ألا يتكل على ذاته، بل يسلم الأمر بين يدي مخلصه، قائلاً: "أنت تعلم". إنه لم يعد يثق في شهادته الخاصة، ولم يكن ممكنًا أن يطلب شهادة بقية التلاميذ، إنما طلب شهادة السيد المسيح نفسه العارف القلوب والقادر أن يسند الضعفاء.
لم يسأله السيد عن توبته بخصوص جحده له ثلاث مرات، لكنه اكتفى بالسؤال عن حبه له، فالتوبة في جوهرها هي ممارسة حب للَّه. هذا ما يطلبه السيد المسيح من كل تائبٍ حقيقيٍ. لذلك عندما مدح المرأة الزانية التائبة قال لسمعان الفريسي: "لأنها أحبت كثيرًا مغفورة لها خطاياها الكثيرة" (لو 7: 47).
لكي يرد السيد المسيح سمعان بطرس إلى خدمة النفوس سأله: "أتحبني؟"، فإنه لا يأتمن إنسانًا على هذه الخدمة ما لم يكن قلبه مملوء حبًا لشخص المسيح. لأن ما يقدمه للبشرية لأجل خلاصها، إنما يقدمه للسيد المسيح نفسه. من لا يحب السيد المسيح لن يقدر أن يخدم النفوس ويهتم بخلاصها، لأنه لا يعرف قيمتها، هذه التي مات المسيح عنها، وقدم دمه ثمنًا لخلاصها. استخدم السيد المسيح كلمة "أغاباس"، وهو أسمى أنواع الحب وأكرمه، أما بطرس فخجل من استخدام ذات الفعل لكن بروح التواضع استخدم كلمة "فيليو" وهي تستخدم لمحبة الأصدقاء.
v قال السيد المسيح لبطرس: "ارع خرافي" وما ذكر جحوده، ولا عيَّره بما فعله، وكأنه يقول له: إن نفسك التي قلت إنك تبذلها من أجلي ابذلها من أجل غنمي.
v توجد بالحقيقة أمور أخرى كثيرة قادرة أن تهبنا دالة لدى الله، وتظهرنا بهيين ومزكين، وأما أكثر الكل مما يجلب إرادة صالحة من الأعالي، فهو الاهتمام بقريبنا في حنوٍ، الأمر الذي طلبه المسيح من بطرس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v عندما يلبس المائت عدم الموت، والفاسد عدم الفساد، ويُبتلع الموت في نصرة المسيح، عندئذ يصير اللَّه الكل في الكل. عندئذ لا تكون الحكمة وحدها في سليمان، والعذوبة في داود، والغيرة في إيليا وفينحاس، والإيمان في إبراهيم، والحب الكامل في بطرس الذي قيل له: "يا سمعان بن يونا أتحبني؟"، وغيرة الكرازة في الإناء المختار، وفضيلتان أو ثلاثة في آخرين، بل يكون اللَّه بالكامل في الكل. وتفرح صحبة القديسين في كل فرقة الفضائل، ويكون اللَّه الكل في الكل.
القديس جيروم
"قال له أيضًا ثانية:
يا سمعان بن يونا أتحبني؟
قال له: نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك.
قال له: ارعَ غنمي". (16)
في المرة الأولى قدم السيد السؤال ليقارن بين نفسه واخوته إن كان يحب السيد أكثر منهم، وإذ تعلم سمعان بطرس روح التواضع ولم يجب في اعتزاز بذاته لم يعد في المرتين الثانية والثالثة يقارنه باخوته.
v إن كنا نرعى بخوف، ونخاف على القطيع، فكم يليق بالقطيع أن يخشى على نفسه؟ نصيبنا نحن هو الاهتمام بالرعاية، ونصيبكم هو الطاعة. نصيبنا هو السهر الرعوي، نصيبكم هو تواضع القطيع. إن كنا نحن نبدو كمن نتحدث من مكان مرتفع نضع أنفسنا بخوفٍ عند أقدامكم، إذ نعرف مدى خطورة هذا الكرسي السامي.
القديس أغسطينوس
v إن كان إيمان الرسول بطرس قد اهتز بآلام ربه، فبالدموع المرّة سمع الكلمات الرقيقة "ارعَ غنمي".
القديس جيروم
"قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني؟
فحزن بطرس، لأنه قال له ثالثة أتحبني،
فقال له: يا رب أنت تعلم كل شيء،
أنت تعرف إني أحبك.
قال له يسوع: ارع غنمي". (17)
في المرتين الأولى والثانية استخدم السيد المسيح كلمة agapas واستخدم سمعان بطرس كلمة philo في الإجابة وهي تحمل الحب الذي فيه دالة بين الأعزاء. وجاء سؤال السيد للمرة الثالثة مستخدمًا كلمة philo. وكأنه في المرة الثالثة يقول له: "أتحبني أيها الصديق العزيز؟"
شغل التمييز بين التعبيرين كتابات الكثير من دارسي السفر، ورأى الكثيرون إن تعبير agapao عامة يشير إلى الحب القائم على تفكير عقلي متزن مع تكريس عملي للحياة من أجل المحبوب، أما Phileo فيشير إلى الحب العاطفي الحامل حنوًا شخصيًا نحو المحبوب. وكأن السيد يسأل تلميذه: هل تكرس حياتك لي؟ فيجيب التلميذ: بكل عاطفتي أحبك.
يميز William Hendrikssen بين التعبيرين قائلاً بأن تعبير agapao هنا كما في بقية الأناجيل بوجه عام يشير إلى الحب بكل كيان الإنسان، الذي يحتل ليس فقط العواطف، وإنما العقل أيضًا والإرادة يلعبان دورًا بارزًا، ويقوم الحب على تقدير الشخص المحبوب وبمسببات واضحة. أما Phileo فيشير إلى عاطفة طبيعية عفوية أو تلقائية، حيث تقوم العاطفة بدور رئيسي أكثر من العقل والإرادة. بهذا يمكننا التمييز بين التعبير، فالسيد المسيح في السؤالين الأولين يسأل بطرس إن كان يحمل نوعًا من الحب السامي والغني بالعاطفة مع التعقل والإرادة الحية، وقد جاءت إجابة بطرس أنه لا يدَّعي الحب في هذه الصورة الرائعة، لكن ما هو متأكد منه أنه يحمل عاطفة قوية أصيلة نحو السيد، وإن كانت أقل من الحب الذي طلبه السيد.
يرى C. H. C. MacGregor إن الفعل الأول يشير إلى وجود تقدير واحترام بين الطرفين، والثاني يشير إلى وجود عاطفة شخصية بين عضوين في ذات الأسرة.
حزن القديس بطرس إذ تذكر بالسؤال الثالث جحوده ثلاث مرات، لأن تذكار الخطايا حتى التي نلنا عنها الغفران مؤلم للنفس. ولعله حزن خشية أن يكون سيده يرى في داخله ضعفًا لم يعلم هو به، كما سبق فحدث قبلاً حين أعلن أنه مستعد حتى إلى الموت معه.
دعاه لسيد المسيح ثلاث مرات أن يرعى غنمه، ويهتم بهم خلال حبه لصاحب القطيع. وقد شبه السيد الرب نفسه بالراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11). كما يقول عنه إشعياء النبي: "كراعٍ يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات" (إش 40: 21).
v ليكن دور الحب هو الذي يطعم خراف الرب... من كان لهم هذا الهدف في رعاية خراف المسيح أن تصير الخراف كما لو كانت ملكًا لهم وليست ملك المسيح، فإنهم يُدانون على محبتهم لذواتهم لا للمسيح، والرغبة في الافتخار أو نوال سلطانٍ أو مالٍ وليس عن حب للطاعة والخدمة وإرضاء الله... ماذا يعني هذا إلا إن كنت تحبني فلا تفكر في أن تطعم ذاتك بل غنمي بكونها خاصة بي، وليست خاصة بك؛ أطلب مجدي فيهم وليس مجدك أنت؛ أطلب سلطاني لا سلطانك؛ أطلب ربحي وليس مكسبك أنت، لئلا تجد نفسك تتبع الذين ينتمون إلى الأيام الخطيرة المحبين لذواتهم، وكل ما يتبع ذلك في بداية الشرور هذه؟
القديس أغسطينوس