رد: أقدر أقوله يا بويا
وعلى أثر قطع الشجرة تحققت أثر ما عملت، لأنه بزوالها توارى مجد الله عني. ولمدة طويلة كنت أقف قرب النافذة أنطلع إلى الفراغ الذي أحدثه زوال هذه الشجرة إذ لم أعد أسمع هتاف الأولاد ونداءاتهم بعضهم لبعض. وقلت أن حالتي تشبه هذه الشجرة، ولا تختلف كثيرًا عنها. وقد كان هذا التغيير الذي حصل لي نابع من روح الله. فطلبت من الله أن يستمر في ظهوره لي، لأني أحسست أنه ساعة أمرت بقطع الشجرة ابتعد روح الله عني لأني حرمت هؤلاء الصبية من متعتهم المفضلة. ووجدت أنه في وسعي الآن أن أعمل شيئا جديدا أجذب إليه الأولاد وأستعيد لهم أفراحهم. فحديقتي كانت مملوءة بالأشجار التي تعطي ثمرا طيبا إثناء الصيف، فوجهت دعوة لأولاد القرية أن يقصدوا حديقتي، ويقطفوا من الأثمار ما شاءوا. فلبوا الدعوة فرحين ورغم أنهم حالوا عدم تكسير الأغصان إلا أنهم بعد تلك الزيارة كنت ترى الكثير من الأغصان المهشمة تغطي جنبات الحديقة.
لقد أدركت أن البستان كان الحاجز الذي وقف بيني وبين ظهور الله لي، لذلك أفسحت المجال لأولاد القرية أن يمتعوا أنفسهم بأثماره اللذيذة. أجل أنهم أساءوا إلى البستان وإلى الأشجار لكن هذا البستان هو ملك لله وأنا أعطي ثمره لهؤلاء المحتاجين عن طيبة نفسي. وهذه كانت وسيلة من أبي السماوي ليخرجني عن نطاق أنانيتي الضيقة إلى أفق أوسع، ومجال أنبل..
وحدث أنه في أحد أيام نوفمبر الباردة أن دخل محمود غرفتي وكان قد بلغ الثامنة من عمره، ودلت ملامحة على أنه فتى وسيم الطلعة، وحاصل على مقومات الرجولة الحقة وقال: هناك سيدة تريد أن تراك يا ماما! هي تحمل طفلا بين ذراعيها وحالتها تستدعي الشفقة والرحمة. قلت له: أنت تعلم أنني لا أقابل أحدا في مثل هذا الوقت المخصص لراحتي. وكنت قد نسيت ما قلته لريشام ونورجان ألا يمنعوا أحدا من مقابلتي. وهكذا أنا ندمت لقولي لمحمود هذا. وقلت في نفسي ماذا يكون موقف الله مني في مثل هذه الحالة التي فيها أطرد امرأة محتاجة مع طفلها من بيتي؟! وعلى الأثر ناديت محمودا وكان لم يبتعد كثيرا عني وقلت له: أتعرف ماذا تريد هذه المرأة؟ أجاب: ربما يكون الطفل مريضا! فقلت له دع المرأة تنتظرني في غرفة الاستقبال مع طفلها. فنزلت إلى الطابق الأسفل وما هي إلا لحظات إلا وكنت مع المرأة وطفلها ومحمود.
كانت المرأة قروية، وترتدي زيّ فلاحة، وملابسها رثّة وحالتها تدل على أنها فقيرة ومعوزة. وسألتها وقلبي يتفطر شفقة ولوعة عليها وعلى طفلها، ماذا تريدين مني أن أعمل لك؟ قالت: لقد سمعت عن أعمالك النبيلة والخيرة وأنا جئت من قريتي التي تبعد 12 ميلا عن هذا المكان وقد أتيت ماشية على أقدامي من هناك لأقصدك لمساعدتي. وبالفعل كانت المرأة تعبة، وقد بدأ عليها أنها منهوكة القوى. فطلبت من الخادمات أن يجلبن لها بعض الطعام والشاي. وسألتها أن كانت ترضع طفلها، وفي بعض القرى من هذه البلاد تستمر الأمهات في إرضاع أطفالهم حتى الثالثة من عمرهم. أما الطفل فقد جذب انظاره الشمعدان البلوري الذي كان معلقًا في غرفة الاستقبال. وعند رؤيتي هذا الطفل الهزيل صليت من أجله، وحالما حسست خده شعرت بالحرارة العالية التي عليه فعرفت أنه مصاب بالحمى. وبدأ فمه ناشفا وجسمه هزيلا. وتصورت عند ذال الأجيال من عائلتي وهم يتطلعون إليّ وأنا أقترب من هذه الطفل الهزيل وأعاشر هذه الفلاحة المسكينة، مع أنهم لا يرضون بأن يسمحوا لظل أحد من هؤلاء التعساء أن يقع في طريقهم.
تلوعت متحسرة على هذه المرأة المسكينة وطفلها المريض. وطلبت من الله أن يشفي هذا الطفل البريء الناشئ. كما طلبت من الخادمة أن تجلب بعض الفيتامينات للمرأة لتقوي جسمها ما دامت لا تزال ترضع طفلها. وأخبرتني كيف أن زوجها حدث له حادث أقعده عن العمل مدة طويلة. وبقيت تحدثني قرابة النصف ساعة وعندما أرادت ترك المنزل لوحت لها بيدي أن تتريث قليلا علنا نهتدي إلى طريقة لمعالجة الطفل، ولحصولها على عناية أفضل. وفكرت ماذا يقول الناس في واه عني؟! فعادت إليّ شخصيتي القديمة وغدوت عصبية ومتهيجة، لأني تأكدت من أقوال الناس عني.. كيف أن هذه السيدة ذات الجاه والأطيان والممتلكات تعطف على مثل هذه الفلاحة وقد يتقاطر عليّ على أثر هذه المعاملة الرقيقة معها الكثيرون من البؤساء والمعوزين. بيد أنه كان لا مناص لي من تقديم هذه المساعدة لهذه المرأة المحتاجة. وتذكرت أنني وعدت الله أن أكرس كل ما لديّ له. وقبل أن تنصرف حدّثت إدارة المستشفى أن يقبلوا هذا الطفل المريض عندهم، وأن يساعدوا أمه بتقديم بعض المقويات لها. وطلبت من إدارة المستشفى أن تحاسبني عن كل هذه المصروفات.
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
رد: أقدر أقوله يا بويا
ولم أعد لأسمع عن هذه المرأة شيئا وسألت الخدام عندي إن كانوا يعرفون ماذا جرى لها، وإذا كان زوجها قد عاد إلى العمل. وكما هي العادة أن الخدام يعرفون الكثير من الخفايا التي نجهلها نحن، وكان الجواب مشجعا بأن المرأة ذهبت إلى المستشفى وقد عولج طفلها وأخذت بعض المقويات الجسدية، وأن زوجها قد تعافى وعاد يزاول عمله. وكنت في قلبي قد لمت هذه المرأة لعدم شكرها لي عما عملته تجاهها من خير وإحسان. لكن الله أنبني في ضميري، وقال: هل أنت تنتظرين شكرا على أعمال الرحمة والرأفة والإحسان؟! وها هو المسيح يقول: من عمل خيرا لأحد هؤلاء الأصاغر فكأنه عمله لي، وطلبت المسامحة من الله على تفكيري الخاطئ، وقلت أنني أزعجتك يا إلهي من كثيرة ما أطلبه منك من الغفران والمسامحة..!
والظاهر أنه في تلك الأيام كانت لي أوقات قليلة من النجاح في أن أمكث طويلا مع الله، وقريبة منه لأني كثيرا ما كنت أزوغ عن الطريق القويم وأعود إلى حياة العالم. وقلت في نفسي هل هذا هو المنهاج الذي يجب أن نسلكه نحن المؤمنين الحقيقيين؟! وها أنا كثيرا من المرات لا أصارح الله فيما يجب أن أعمله، وأبقي خططي مخفية عنه، فأرتكب أخطاء جسيمة أعود فأندم عليها، وأطلب من الله الغفران لأجلها.
وذات يوم ونورجان تمشط شعري إذا بعصفور صغير غريب يرفرف قرب النافذة. فصرخت انظروا ماذا بعث الله لنا هذا الصباح! وساد السكون برهة. ثم قالت نورجان بحياء: أنك يا سيدتي عندما تبدأين بالكلام عن الله تتغير هيئتك كثيرا. ويبدو أن هذه الملاحظة كانت لدى جميع من كان يسكن معي في المنزل. ووصلتني في ذلك اليوم كتب مقدسة مصورة كنت قد أوصيت عليها من مركز الإرسالية في إسلام أباد. وكنت قد اختبرت فائدتها من محمود، وكان الخدام يسرون بها، ويحبون رؤية الصور التي فيها. ففكرت أن أعطي نورجان نسخة منها. وذات يوم جاءت لتحدثني عما حصل لها. قالت ووجهها يطفح بالبشر والإشراق: أن هذه الكتب المصورة تخبرنا عن يسوع. قلت لها: وما أحلى أن يفتح المرء قلبه لهذا الملك السماوي ويسمح له أن يحل فيه. أجابت نورجان: لقد فتحت له أبواب قلبي. وقد جاء ليسكن فيه وأنا أشعر بالحب يملأه وبالسعادة تغمره. وهذا شعور لم أشعر به طوال أيام حياتي السابقة.
ولم أستطع أن أصدق ما سمعت فرميت بذراعي عليها وعانقتها معانقة أخوية. وقلت: هذا خبر سار يا نورجان! وقد أصبحنا الآن ثلاثة من المسيحيين في هذه الدار، ريشام وأنت وأنا. فلنفرح وتبتهج لأننا أخوات في المسيح. وشربنا الشاي معا ولم يكن هذه أول مرة أشرب فيها الشاي مع الخدام، ولم أكن لأعمل هذا قبل اهتدائي إلى المسيحية. وفرحت لأننا غدونا مسيحيات مؤمنات. وسررت في أعماق قلبي لأنني اكتسبت نفسا ضالة للمسيح. وقلت في نفسي، ماذا حدث لهذه السيدة بلقيس الشيخ التي تسكن هذا القصر المنيف والتي تتمتع بثروة كبيرة، وبأملاك واسعة، والتي كانت تحب الأثرة والانعزال ماذا جرى لها الآن وهي قد ولدت ولادة جديدة، وتسلك سلوكا متواضعا مع الخدام وعامة الناس. أليست هذه عجيبة من الله؟! أنا في الماضي كنت أصدر الأوامر وأتحاشى عِشرة الطبقات الوضيعة من الناس، وإذا رأيت غبارا على أثاث بيتي أو تأجر الطعام عن وقت ميعاده انفر في الخدام وأوبخهم. بيد أنني الآن قد خلقت خليقة جديدة، والله القدير هو الذي صنع هذا. هو أبي السماوي وأنا أشعر بشركة روحية معه، وأتمتع برضاه وأحظى بحضوره.
أنا لا أصبو أن أصبح قديسة بيد أنني بدأت أشعر بمسئولياتي المسيحية. وما دمت قبلت المسيح سيدا لحياتي ترتب عليّ أن أعمل أعمالا ترضيه، ولا تحط من اسمه. وقد علمني أن الأعمال هي التي تتكلم ولها تأثير أكثر من الكلام. وأخذت أتفهم معنى الشهادة الحقيقة للمسيح. وعندما لاحظت أن نورجان لا تحضر اجتماعاتنا المسائية يوم الأحد، سألتها عن السبب. فأمتقع لون وجهها اصفرارا وقالت وهي مذعورة، أنا لا أستطيع حضور اجتماعات عامة لأني متزوجة لرجل مسلم متعصب، ولديّ منه أربعة أولاد فإذا قلت له أنني غيرت ديني وتركت الإسلام فسيطردني من البيت ويطلقني حالا. فأخبرتها بأن المؤمن الحقيقي عليه أن يعلن إيمانه جهارا، إذ لا مناص من هذا. وتركتني نورجان وهي تقول بكلمات غير واضحة: أنا مؤمنة بالكلام لكن لا أستطيع أن أعلن هذا جهارا، أو أطبق ذلك علنًا.
وحدث بعد بضعة أيام أن ذهبت لأزور الأم راعوث، وكانت مبشرة في مستشفى العائلة المقدسة. وكنت قد تعرفت عليها وأخذت التذ كثيرا بأحاديثها. وإثناء الحديث قالت لي أن الكثيرين في الباكستان هم من جماعة المؤمنين بالسر مثل نورجان. وتعجبت كيف يمكن أن يكون مثل هذا، لأن المؤمن الحقيقي لا يستطيع أن يضع نوره تحت المكيال ويبقيه في الخفاء. بل عليه أن يجاهر به علنا. قالت الأم راعوث: لنذكر نيقوديموس فقد كان من المؤمنين لكنه ظل محافظا على إيمانه سرًا. ولنرجع لقراءة ما ورد في الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا عنه، ففتحت كتابي المقدس وقرأت عن ذلك الفريسي الذي جاء إلى المسيح خلسة في الليل ليخطي بمعرفة أوفى عن ملكوت الله. وكنت قد قرأت ذلك الفصل عدة مرات من قبل لكنني لم أتأكد أن نيقوديموس كان من جماعة المؤمنين بالمسيح سرًا. وعلقت الأخت قائلة، ربما كان نيقوديموس قد أعلن عن إيمانه بصراحة لكنه كما يذكر الإنجيل أنه كان حريصا. ألا يعرف بذلك الإيمان أخواته من الفريسيين..
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفي اليوم التالي دعوت نورجان إلى غرفتي وقرأت لها ما ورد عن تيقوديموس وقلت لها: إني أعتذر لك لأنني سببت لك هذا الانزعاج الفكري. وإني أعتقد أنه مع الوقت سيظهر لك الرب الطريق الذي فيه ستعلنين إيمانك بالمسيح جهارا. وفي الوقت الحاضر من المستحسن أن تظلي حريصة على أن تصغي إلى إرشاد الرب وتسيري بموجب ما يوحيه إليك رب المجد. ولمع وجه نورجان من شدة الفرح، وقد زال عنها ذلك الارتباك الذي أزعج أفكارها، فأخذت تردد كلمات بعض الترانيم وتطلب من الله أن يرشدها لتعمل العمل الصحيح. وقلت لها: نحن لا تودّ أن تفرض عليك الأمور فرضا، بل تصرفي بموجب وحي الله وإرشاده، وكل شخص مسئول عن أعماله، والله ديان عادل بدين المرء حسب نواياه. وكنت قد اكتشفت الصعوبة التي تعترض أي شخص يريد أن يعتنق المسيحية في ذلك الجزء من البلاد.
وحدث ذات يوم أن دق جرس الهاتف. وكان المتكلم أحد أعمامي الذي خالفني بشدة لإعتناقي المسيحية. وظل مقاطعا إياي حتى صوته بصفة الأمر إذ قال: يا بلقيس أسمع أنك تعقدين اجتماعات مسيحية في بيتك، وتعملين على حمل غيرك لاعتناق المسيحية. أجبته: ربما كانت هذه وجهة نظري في الحياة! وتصورت وجهه يحمر من شدة الغيظ، وأوداجه تتضخم وبصوت خشن قال: ألا يكفي لك أنك اتخذت قرارات نابية بشأن معتقداتك! إنما المطلوب منك الآن أن تتركي أمر هداية الآخرين والتأثير عليهم. قلت: أستحسن أيها العم اهتمامك بهذا الأمر لكن لا تنسى بأن كل إنسان حر في أن يسير دفة حياته كما يشاء، فهو سيد نفسه وربان سفينه حياته. فأنت تسير كما تشاء، والمفروض أن أسير أنا بدوري كما أشاء.
وفي اليوم التالي كان سائق سيارتي الجديد يرجعني إلى بيتي بعد أن قمت بزيارة لابنتي توني وإذا برجل يعترض السيارة ويبغي إيقافها عنوة. ومن عادة هذا السائق أن يتوقف ليساعد بعض الركاب المقطوعين لكنه في هذه المرة لم يتوقف وقال لي لا تطلبي مني أن أقف هذه المرة، لأن ذاك الرجل الذي أعترض سبيل السيارة يضمر لنا شرًا. ولسنا ندري ما هو مزمع أن يعمل! وبعد أسبوع من هذا الحادث وكنت مستريحة بعد الظهر في غرفتي إذا بإحدى الخادمات تدخل عليّ وقالت هامسة: الرجاء ألا أكون قد أزعجتك يا سيدي! إنما عليّ أن أحذرك من أمر خطير. فأخي كان حاضرا اجتماعا صاخبا في جامع راولبندي البارحة، وسمع بعض الشباب يتذمرون من الأعمال التبشيرية التي تقومين بها، وقد أصروا علي أنه لا بد من اتخاذ أجراء صارم لإيقافك عند حدك. وأرتج صوت الخادمة من الخوف والاضطراب، وتابعت قولها بأنه يجب علينا أن نكون صريحين وحذرين. ونحن جماعة الخدام هنا نخاف عليك وعلى حفيدك محمود كثيرا.
وتراءى لي بعد أن سمعت عن هذه التهديدات أنه ربما كان من الأفضل لي أن أظل مؤمنة بالمسيح، ولكن لا أعلن ذلك جهارًا. ففي هذه البلاد وحتى بيت أفراد عائلتي، فذكر المسيح في عرفهم كفرًا، والدعوة إلى المسيحية زندقة. فلنكن حكماء كالحيات ولأجعل مسيحيتي أن تظل سرًا، وإن كانت أعمالي تُظهر بأنني مسيحية
رد: أقدر أقوله يا بويا
مضي شهران منذ سمعت التقرير عن إنذار الشباب إليّ سوى تلك النظرات المعادية التي كان يوجهها إليّ أولئك الشباب المتعصبين. وبتّ متحيرة إن كانت هذه الإنذارات حقيقية أو إنها لا أساس لها. وأقترب عيد الميلاد، وهو ثاني عيد أحتفل به بعد أن اهتديت إلى المسيحية. وكان بعض الأفراد من عائلتي يزوروني إلا أن العلاقات مع العائلة ما برحت متوترة هكذا أفادني أحد أعمامي. وفكرت أن أقيم حفلة غداء أو عشاء عامة يوم عيد الميلاد، وأن أدعو إليها بعض الأقارب والأصحاب، عساي أستطيع تسوية العلاقات المتوترة بيننا، وإزالة روح العداء من نفوسهم. وقضيت بعض الوقت وأنا أعدّ قائمة المدعوين. وبعد أن فرغت من أعدادها وضعتها ضمن الكتاب المقدس. وفي اليوم التالي وكنت مزمعة أن أوزع الدعوات حصل أنه لما سحبت القائمة من طيات الكتاب المقدس أن وقع نظري على حفلة العرس المذكورة في الإنجيل. وقلت في نفسي: إن أقمت الحفلة وجعوت إليها أصدقائي وأقاربي الأغنياء فهؤلاء بدورهم سوف يدعونني إلى حفلة مماثلة، وكأنني ما عملت شيئا، لكن الأفضل أن أدعو لهذه الحفلة الفقراء والمساكين، والعرج والعمي، فهؤلاء يشعرون بالفرح الحقيقي لأن ليس لديهم الوسائل أو الإمكانيات لدعوتي. وسيكون لي ثواب يوم القيامة، ووقت الدينونة الأخيرة.
وسألت ربي: هل هذه هي إرادتك أيها الأب السماوي؟ وأمسكت الكتاب المقدس بيد، والقائمة الجديدة الحاوية على أسماء الفقراء والمساكين باليد الثانية، فإذا إصبع الله الخفي يشير إلى حفلة العرس التي ورد ذكرها في الإنجيل ولم يحضرها المدعوون من الإغنياء فأضطر صاحب الدعوة أن يدعو عامة الناس. فقلت يبدو أن هذه هي إرادة الله. وحوت القائمة الجديدة أسماء بعض الأرامل والأيتام والمعوزين والقرويين وحتى بعض المتسولين العائشين في بلدة واه. وبعثت هذه الدعوات بنفسي وكلفت الموظفين عندي أن يوزعوا البعض الآخر. وهكذا انتشر خبر هذه الحفلة. وعلمت أن القرية بأجمعها عازمة على الحضور.
وأخذت أفكر كيف استقبل كل هؤلاء الناس. وماذا يحل بالسجاجيد العجمية التي جلبتها مؤخرًا لغرفة الاستقبال؟! وكيف يصمد الأثاث أمام أقدام جماهير القرويين، وجماعة الفقراء والمتسولين؟! قلت أستطيع إزالة بعض الأثاث والمفروشات من الطريق، وبذلك أضمن عدم تلويث هذه القطع الثمينة من الأثاث والمفروشات.
وعندما بدأنا بتهيئة الهدايا تحمس حفيدي محمود للعمل، وكان قد بلغ الثامنة من عمره. فشرع يلف الهدايا للذين سيحضرون حفلة عيد الميلاد. وكنت قد جلبت قمصانا صوفية للأولاد، وفساتين ملونة للفتيات، وقطعا من القماش الأرجواني أو الزهري للسيدات، وسروايل سميكة للرجال، مع أنواع من الأحذية المختلفة الألوان والمقاييس. وأستغرق لف هذه الأغراض ضمن طرود بعض الوقت، وساعدني للخدام باللف، ومن ثم ربطنا كل هدية بشريط ففضي، وأعددناها لتكون جاهزة يوم الاحتفال بمولد ملك المجد، ذكرى لتقديم المجوس هداياهم للطفل يسوع مخلص العالم. وكنت قد طلبت من الفخاريين في القرية أن يعدوا لنا 500 سراج، كتلك الأسرجة المستعملة في الباكستان للإضاءة والتنوير، وطلبت من بعض النساء اللواتي توافدن عليّ أن يعدوا فتائل لها من خيطان قطنية. وإثناء عملنا كنت أنتهز الفرصة لأتحدث للعاملين عن يسوع المخلص، وعند إضاءة الاسرجة تحدثت عن مثل العذارى الجاهلات والحكيمات. وكانت الاستعدادات للحفلة قائمة على قدم وساق، والجميع مستعد للمساعدة والعمل.
وتقدمت نساء القرية لمساعدتي في صنع بعض الحلويات الباكستانية من الجوز واللوز، ثم زيناها بورق لامع وشفاف. وحين أقترب ميعاد الحفلة توافد الكثيرون إلى البيت، وظلوا يأتون طوال أسبوع ليتفرجوا على الزينات الجميلة، والاسرجة المضاءة، وليأخذوا هداياهم الميلادية. وقضى محمود وقتا ممتعا مع أولاد القرية. وكانت عيون هؤلاء الصبية تلمع من شدة الفرح بحفلة الميلاد. وظل محمود يرحب بالأولاد ويفسح لهم المجال الاشتراك في تلك المناسبة المجيدة. وانتهزت الفرصة لأتحدث مع القرويين كيف علّمنا يسوع أن نعامل بعضنا البعض بهذه الطريقة الحية وبروح المحبة، وسأل الكثيرون: هل فعلا أن يسوع كان يعاشر أمثالنا من الطبقات المنحطة من الناس؟ وكنت أجيب: ما نصنع الآن ليس سوى صورة مصغرة عما صنعه ابن الله مع بني البشر أمثالنا في سالف من الزمن.
وبعد انتهاء موسم العيد جلست لأنفّس عن عواطفي المكبوتة وأفسح بعض المجال لتأملاتي وخيالاتي. وسألت الله بخشوع إذا كان هذا ما يريده الآب مني؟ وأحسست بأنني أسمع صوته يقول لي: نعم هذا ما أريده أن تهيئي للملكوت الإلهي على هذه الأرض. وظل كثيرون من الفقراء يتذكرون هذه الحفلة المباركة يوم العيد. وفيما أنا جالسة أتأمل في الأحوال العامة للبلدة تذكرت ما سمعته من أحد الخدام، وكان قد حضر جنازة في بلدة واه أن زوجة الأمام ذكرت له بأنني ارتكبت خطأ فظيمًا بتركي دين الإسلام. ولكن أحد الحضور الذين سمعوا تذمرات زوجة الأمام قال: هل رأيتم هذه السيدة مؤخرًا؟ وهل أنتم تعملون مثل ما تعمله هذه السيدة من الإحسان وما تظهرة من العطف على المعوزين لا سيما بعد أن أصبحت مسيحية؟ وإذا كنت ترومون معرفة شئ أوفي عن الله تعالوا للاجتماع بها والتحدث إليها.
بيد أنه كانت جماعات أخرى في لبدة واه ممن نظروا إلى الحفلة الميلادية التي أقمتها بعيون شزراء، وبعدم الرضي. وسمعت من أحد العمال الذين يشتغلون في حديقتي أنه سمع حديثا عني، تلوكه الألسن من أنني أصبحت مشكلة لهم. وصرح البعض أنه لا بد من القيام بعمل حاسم لوضع حدّ لمثل هذه الأمور! ولشدّ ما بدأت تصلني إنذارات في بعض الأوقات المتقاربة أو المتفرقة، كلها تنذر بسوء المصير أن لم أرتدع عن أعمالي الخيرية والاجتماعية تجاه أوليك المنبوذين، وظلت هذه الإنذارات تتوارد عليّ بانتظام طوال ذلك العام.
ويبدو أن الله كان يحاول أن يهيئني للأوقات الصعبة، وللظروف القاسية التي تنتظرني. وجاء مرة ثلاثة من أولاد القرية إلى بيتي، وتصورتهم مبعوثين من الله إليّ لأنهم كانوا في حالة تدعو إلى العطف والشفقة، وقد تعوّد أمثال هؤلاء أن يجيئوا ليلعبوا مع محمود. وجاء محمود بعد أن فرغ من اللعب معهم وهو مرتعب وخائف وقال: أتعرفين يا أماه ماذا يقول هؤلاء الأولاد البسطاء؟ إنهم سمعوا أن بعض الناس في القرية يعملون الخطط لقتلك. وللحال بدأ بالنحيب والبكاء وقال: إن متِ فسأقتل نفسي!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وماذا أستطيع أن أجيب محمود أو أعمل له في مثل هذه الحالة وكان قد بلغ الثامنة من عمره؟ وما أسرع ما قربته مني واحتضنته وعانقته؟ ثم مررت بأناملي على شعره، وحاولت نهدئة روعه، وأخذت أروي له ماذا حدث ليسوع في الناصرة بلدته، وكيف قام أهل تلك البلدة عليه ورغبوا في طرده، ورجموه بالحجارة لكنه اجتاز من وسطهم واختفى عنهم وأبوه السماوي لم يتركه فريسة في يد الأشرار وقساة القلوب. وهذه كانت إرادة الله أنه سمح بذلك, ولكنه في النهاية تقدم لمساعدته وإنقاذه. وهذا ينطبق عليّ وعليك يا محمود لأن لنا حماية تامة تحت جناحي الإله القدير والأب السماوي. وسأل محمود متلهفًا: أتعنين أننا لا نؤذى أبدًا ولا ينالنا شئ من الشر كالذي ذكره أولئك الأولاد؟ أجبت: لست أعني هذا إذ إن يسوع نفسه في النهاية تألم ولم يحصل ذلك إلا عندما حان الوقت لذلك. فعندما سمح الأب السماوي له أن يموت تقدم للصليب فداء عن كل خاطئ أثيم، وكان هذا بإرادة الله ونحن لا يترتب علينا أن نعيش أيامنا تحت كابوس الخوف الدائم، وضمن تصورات أن أمورًا فظيعة ومؤلمة ستحدث لنا بل علينا أن نعيش بثقة وبإيمان بأن مشيئة الله ستتم، وإن الله القدير لن يتركنا أبدًا!
وتطلع محمود إليّ ببراءة الطفولة، وقد أخذ الخوف يزول عنه، وما عتم أن أبتسم وأنطلق يعدو ويقفز ويتابع لعبه مع رفاقه. وليتني حصلت على هذه السكينة والاطمئنان التي حصل عليها محمود، وما أحلى براءة الأولاد وبساطة إيمانهم! وتركت غرفتي وأخذت أتجول في جنبات الحديقة وأنا حاملة الكتاب المقدس بين يديّ. ولم أكن مرتاحة البال أو فرحة، لأنني أخذت أفكر بمصيري إذا طردوني من بيتي. وهذه الفكرة بدأت تعكر عليّ صفاء الحياة. وكان الفصل خريفًا، والطقس جافًا، وكنت وأنا أسير في الحديقة أسمع صوت الأسماك عندما تقفز في الغدير الجاري، أو زقزقة الطيور على الأشجار، واقتراب أسراب منها إلى البيت. وكانت الأزهار ما زالت تفوح بعبيرها وتنشره فوق ذلك المكان. وتنفست الهواء العليل المنعش وقلت: هذه بلادي! وهذا شعبي! لقد خدمت عائلتي هذه الأمة طوال سبعة قرون وهذه البلاد بلادي وأنا لا أستطيع أن أفارقها. هذه كانت مشاعري تجاه موطني وبلادي، إنما حدثت أمور كانت خارجة عن نطاق سيطرتي مما اضطرتني بعد ذلك أن أفارق هذا الفردوس الأرضي الذي نشأت وترعرت فيه. إن أمورًا حاسمة وظروفًا شاذة اضطرتني لترك هذا التراث المجيد رغم تصميمي بأن أظل قريبة منه، وسيدة لقصري وممتلكاتي.
وجرت في الباكستان عام 1970 انتخابات عامة، وكان قد مرّ على اهتدائي للمسيحية أربعة أعوام، وكان أولا انتخاب للبلاد بعض التقسيم، الذي فيه نالت البلاد استقلالها. وظهرت الجبهة الوطنية كأكبر حزب سيأسى على مسرح الانتخابات. ولم يكن معظم اصدقائي أعضاء في ذلك الحزب. وكان الشعار الذي اتخذته تلك الجبهة لباكستان هو: الإسلام ديننا، والديموقراطية سيأستنا، والاشتراكية اقتصادنا. وبالطبع فالشعب الباكستاني بعد الاستقلال أخذ يشعر بإحساس جديد، وبيقظة واعية. والرجل العادي أخذ يشعر أن له حقوقًا في الانتخابات ومسئولا عن أمور دولته. ولقد أحببت هذه الروح الجديدة التي دبت في عروق هذه الأمة الناشئة لكن شيئا ظل يخيفني وهو أن هذه الشعارات ستشحذ همة المتعصبين، وتقوي فيهم تعصبهم للإسلام، لا سيما وأن الحكومة التي دينها الإسلام ستدعمهم. وهذه الاشتراكية لم تكن لتتمشى مع تقاليد عائلتنا. ولكوني لم أعد مسلمة فهم سينظرون إليّ بأنني خائنة.
وأخذت أراقب الأحوال السياسية وتطوراتها عن كثب. وجاء ذاب يوم لعندي صديق قديم كان لوالدي، ورغم يأسه واسفه لأنني تركت الإسلام وديني القديم فأنه ظل قريبًا مني وصديقًا مخلصًا لي. وكان يكرر مثل هذه الزيارات لي ليرى إن كنت بخير أو أحتاج إلى مساعدة. جاء هذا الصديق من بلدة سردار وجلس بالقرب مني على الديوان الحريري وشربنا الشاي معا، وقد أخبرني إثناء الحديث أن الجبهة الشعبية هي التي فازت في الانتخابات، وذكر لي إسم زعيمها ذي الفقار علي بوتو. قلت: إنني أعرف هذا الزعيم جيدا. وسأل: إن كنت أتابع قراءة الصحف أو سماع أخبار الإذاعات؟ وقال لقد تغير وضع الحكومة الآن وأشك أن كنت تستطيعين الاعتماد على القادة الجدد الذين تسلموا إدارة دفة البلاد. وقد ضاع الزمان الذي كان لك فيه نفوذ في الدوائر العليا من الحكومة.
وبعد هذه الزيارة من ذلك الصديق المخلص القديم أدركت أن شيئا جديدًا قد حصل في البلاد. وكان الله أراد أن يوحي على لسان هذا الزائر الآن أن أعدّ نفسي لقبول الفكرة بأن أصدقائي القدماء، الذين كنت أتوقع منهم عونا أو حماية، قد زالوا ولم يعد لهم ذلك النفوذ في الدولة الجديدة. ومعنى ذلك أنه ترتب عليّ الاعتماد بالكلمة على الله. وقد مضى بعض الوقت عندما بدأت أتحسس روح العداء التي أخذت تتكون ضدي. وقد بدأت أتلمسها في عيون الناس عندما كنت أسير في شوارع بلدتي واه. وظهر تغيير في معاملة صغار الموظفين عندما كنت أتحدث إليهم عن أمور الضرائب على أملاكي. ففي السابق كان أولئك الموظفون يكلمونني بلطف، ويحنون رؤوسهم احتراما لي. أما الآن فقد تغيّر الوضع كثيرا عندما كنت أحدثهم صاروا يتجاهلون وجودي ويشيحون بوجوههم عني، ويتطلعون إلى الأفق البعيد وكأنهم يراقبونه. وكنت أعلّق على هذه الحالة بقولي: إن سلوكنا يشبّه سلوك الأولاد الجهلاء لا الناس الناضجين والرجال الحكماء.
المشاركات: 9,349
رد: أقدر أقوله يا بويا
لم يكن للحكومة الجديدة والأوضاع المستحدثة في الدولة تأثير كبير على المستخدمين عندي في البيت. فمعظم الخدام كانوا من المسلمين، عدا ريشام التي كانت مسيحية ونورجان التي بدأت تشعر بالفرح والسلام القلبي لأنه بدأت تعرف طريق المسيح. وفي كثير من المرات قال لي الخدام المسلمون: لا تضطربي بشأننا يا سيدة! فإذا قررتِ أن تتركي البلدة ففي سمعنا أن نجد لنا أعمالا جديدة بسهولة. وغدت العلاقات مع الموظفين الذين يعملون عندي تختلف عما كانت عليه قبل أربع سنوات، ولا عجب في ذلك فأحوال البلاد تغيرت وعالمنا تطور والباكستان استقلت.
ولعبت الأحلام دورا هاما في حياتي لا سيما تلك الأحلام التي مهدت لاختباراتي المسيحية وظهور الله الأب السماوي لي. وما زلت أتذكر كيف أني التقيت بالمسيح الأول مرة عن طريق الحلم إذ تراءى لي هذا السيد يجلس معي على المائدة وتناولنا طعام العشاء سوية. وما أسرع ما غدت هذه الرؤى والاختبارات الصوفية فعالة في حياتي. ففي أحد الأيام وجدت حالي محمولة بالروح، ومجتازة الأوقيانوس، وشعرت أنني انتقلت بسرعة مثل سرعة البرق إلى ولاية إنكلترا الجديدة في الولاية المتحدة، ومع أنني لم أكن قد زرت أميركا أو معالم العالم الجديد قبلا، إلا أنني وجدت نفسي أقف أمام بيت للتمريض ودار إيواء العجزة والمسنين. ولما وخلت تلك الدار وجدت في إحدى غرفها سيدة في منتصف عمرها، وجهها مستذير، وعيناها زرقاوان، وشعرها يخطه سواده الشيب، وكانت مضطجعة على سرير مغطى بغطاء قطني جذاب المنظر، وكانت تلك السيدة مريضة وعلمت أنها مصابة بالسرطان. وبالقرب منها جلست ممرضة تقرأ لها بعض القصص المسلية. وفيما أنا في تلك الغرفة تراءى لي سيدي الرب واقفًا في إحدى الزوايا. فركعت وسألته ما هو المطلوب مني أن أعمله. أجابني صلي من أجل هذه المريضة فاقتربت من السرير وصليت بحرارة من أجل شفاء تلك السيدة المريضة. وعند الصباح أفقت من حلمي وبتّ مذهولة من ذلك الحلم الذي حملني عبر البحار.
وسألت نفسي لما طلب مني السيد الإله أن أصلي من أجل تلك السيدة المريضة ما دام هو حاضرا في الغرفة؟ وإذا بالوحي الإلهي يذكرني بأن صلواتنا أمر ضروري وحيوي. لأن ذلك الإله يعمل بواسطتها. وقادني هذا الحلم إلى مراجعة الإصحاح الخامس من رسالة يعقوب الرسول حيث يقول: إن صلاة الإيمان تشفي المريض (15:5) وحقا أن الصلاة تولد قوة في الشخص الذي نصلي من أجله. ومرة أخرى حلمت أني أسير على ممر خضبي لأصل إلى مركب. وعندما دخلت إحدى غرف المركب رأيت المسيح واقفا هناك. وأشار لي بيده إلى العودة على الممر الخشبي وهناك رأيت سيدة ترتدي ملابس غربية تنتظرني. فاقتربت مني وأمسكت يدي، واقتادتني بعيدا. وسألتها: إلى أين؟ وأين المصير النهائي؟ لكنها لم تجب ولم أحصل على أي جواب منها. وكأن هذه الرؤيا شاءت أن تنبئني بأني سأذهب في رحلة إلى مكان مجهول. وكأن هذه الأحلام كانت تمهد إلى تغيير في أوضاعي وتجعلني على استعداد لأن أتقبل فكرة مباركة دياري، وألا أفزع عن الأخبار التي أخذت تتوارد عليّ من تغيير الأوضاع في ظل الحكم الجديد للباكستان.
وجاءني عام 1971، وكان ذلك بعد تسلم الزعيم بوتو زمان الحكم ببضعة أشهر، أن زارني صديق قديم باسم يعقوب. وكان هذا مقربا ن عائلتنا لعدد من سنين. وفي الوقت الذي كان فيه زوجي وزيرا للدولة عانت البلاد أزمة اقتصادية وتقصا في الميزان التجاري. وعند ذاك فكرت مع ذلك الصديق يعقوب أن نبدأ مشروعا لتحسين الأحوال. فبدأنا بمشروع يساعد الإنسان فيه نفسه بنفسه، وسميناه: (مشروع العيش البسيط‘. والفكرة الأساسية في ذلك المشروع هي تشجيع الصناعات الوطنية، وأن يعتمد المواطنون على الإنتاج المحلي والصناعات المحلية، والعمل على التقليل من التوريد الأجنبي. ومن أجل ذلك أخذنا نجوب القرى والأرياف نشجع العمال على نسج الأقمشة بالأنوال، ودعونا الجماهير لاتخاذ برنامج تقشفي للحياة. وقد بدأنا نحن بتطبيق هذه البرامج. وسرعان ما انتقلت العدوى للآخرين وهكذا كتب لمشروعنا النجاح والازدهار. وعلى الأثر أخذت الحالة الاقتصادية تتحسن، والمصانع المحلية يزيد انتاجها، وبفضل مشروع العيش البسيط ارتفع مستوى المعيشة، وازداد مدخل البلاد.
ولمدة سنة من ذلك العهد ظل يعقوب يزورني وكان يحدثني عن الشؤون العائلية، والسياسة الدولية، وأحوال الحكومة، وعن المشاريع الجديدة التي أخذت بلادنا الناشئة تستهدف إليها. ولكون يعقوب قد تجول كثيرا، فإنه يعرف ما لنا من ثروة متجمدة وما لنا من ثروة مسجلة في الأطيان والعقار في شتى المقاطعات الباكستانية. ومرة قال لي: يا سيدة بلقيس! هل فكرت في بيع قسم من ممتلكاتك إذ ليس من المستحسن أن تجعلي كل ثروتك في الأراضي والممتلكات، ومن المستحسن أن تحصلي على نقود، فهذه السيولة في النقد ستكون نافعة لك لا سيما وان الزعيد بوتو يفكر بأجراء بعض الإصلاحات في توزيع الأراضي. وكانت خطوة جريئة من يعقوب أن يفكر في أموري، ويقدم لي هذه النصائح المفيدة. وخشيت علية من الانتقاد والملاحقة ن قبل الحكومة لتردده علي. فشكرته على زياراته وقلت له أنا مصممة على البقاء في بلادي. ولا قوة تستطيع أن تجبرني أن أترك موطني أو تجردني عن ممتلكاتي.
هكذا كانت بلقيس القديمة تبدو بروحها المتمردة وأفكارها المتصلبة، وسلوكها العنيد. وهذا الوضع لم يكن مستهجنا لدى يعقوب لأنه كان يعرفني معرفة جيدة. وقال لي عند ذاك: سيأتي يوم فيه تفكرين بترك هذه البلاد، وتذكري وعدي باستعدادي لمساعدتك دوما. وشكرته على وعده بالمساعدة وقلت له: إذا استدعت الشرورة لأن أطلب مساعدتك فتأكد يا صديقي بأني سأذكر وعدك الصادق هذا واستعدادك لمساعدتي. وسوف آتى لطلب العون منك والمشورة من لدنك.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وحلمت ريشام حلمًا وجاءت ترويه لي وهي تذرف الدموع وقالت: ربما تعذّر علي أن أرويه لك. أجبتها، وهي راكعة أمامي وأنا جالسة على الديوان في الغرفة، تكلمي وسأصغي لك باهتمام. قالت الخادمة: رأيت بعض الأشرار يفدون على هذا البيت ويلقون القبض عليك. وعلى الأثر صرخت اهربي يا سيدتي! وشاهدتك في منامي وأنت تركضين، وتتخلصين من هؤلاء المعتدين. وامتلأت عينا ريشام بالدموع، فأخذت اعزيها، وخلت نفسي وأنا أصغي إلى تفاصيل هذا الحلم وإلى الكلمات التي تقوهت بها ريشام أن هذا كان نذيرا لي من الله، ونصيحة يتوجب علي الأخذ بها لعمل الترتيبات لدرء الإخطار المتوقعة. وأخيرا قلت: لقد سمعت الكثير يا عزيزتي ريشام من الله عن إمكانية ضرورة التأهب لترك المكان والهرب من وجهه هذه الإخطار. وفي بادئ الأمر لم أكن أصدق ما تراءى لي لكني الآن بعد سماع حلمك الغريب هذا بدأت أفكر جديا في المسألة. وقلت في نفسي هل هذا ممكن أن يحدث لي؟ وهل أجبر أخيرا على ترك هذا الوطن ومباركة هذه الديار العزيزة علي قلبي؟! ولا شك أنه يترتب أن أقبل ما رتبه الله لي، وأستسلم لمشيئته الربانية!
وصمتت ريشام برهة وقد هدا روعها قليلا وقالت: ما أعجب الطريقة التي تعيشينها يا سيدتي إذ تسلمين أمورك لله وتضعين دفة حياتك في يديه، قلت لها: إنها الطريقة الوحيدة التي يمكن للمؤمن أن يتخذها. فكل شئ مرتب من قبل الله ولم يعد شئ تحت سيطرتي. ومع أني صدقت ما قالته ريشام وما تراءى لها في ذلك الحلم المريع، غير أنني لم أستطع السيطرة على عواطفي. وبدأت أفكر جديا في الهرب وأخذ الترتيبات اللازمة للفرار ومباركة هذه الديار.
وفي خريف عام 1971 دخلت على نورجان وهي منفعلة في عواطفها، وكانت قادمة لتمشط شعري كعادتها فسألتها: ماذا جرى يا نورجان ليجعلك مضطربة وخزينة. وللحال أخذت تبكي وتصرخ أنا لا أريد الأذى لك يا سيدتي! ثم أخذت تسرد لي ما سمعه أخوها في جامع البلدة في اليوم السابق إذ صرح بعض المتعصبين من المواطنين أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات ضدك، وقد نعتوك بالكافرة والمرتدة! وسألتها: هل صرح هؤلاء عن نوع الإجراء الذي سيتخذونه؟ قالت: لا، وأصبحت أخشى مما قالت نورجان: لا سيما وهذه البلاد قد تغيرت أوضاعها ولم تعد كما كانت عليه قبل خمس سنوات.
قلت في نفسي إن حلم ريشام المريع، وما سمعته نورجان عن حديث الشبان المتعصبين هي من سلسلة الإنذارات التي أخذت تمر عليّ في هذه الأيام. والأفضل أن نكون حريصين، ونتخذ الاحتياطات الضرورية لدرء هذه الإخطار عنا. وفعلا فأنه لم تمض أكثر من بضعة أسابيع حتى ترضت لبعض الفواجع الأليمة. إذ حدث في يوم من أيام خريف الجميلة، وكانت الرياح الموسمية قد هدأت، ولهيب الصيف قد انتهى أن قلت لأنزلن إلى الحديقة مع محمود لنمتع الإنظار في عمل الله في هذه الطبيعة الجميلة حولنا. كان الطقس مؤاتيا ولم تحصل أمور مفاجئة في البلاد. قلت نحن الآن في عام 1971 لا في عام 1571 حيث كان الحروب الدينية مشتعلة، ونحن نعيش في عصر جديد. عصر النور والحرية. وتناولت كتاب الله واصطحبت محمود معي للنزهة في الحديقة. وفي الوقت الذي وطئت فيه أقدامي أرض الحديقة شممت رائحة حريق لأغصان الصنوبر. وكان المعروف لدينا أنه لا يجوز لأحد أن يحرق شيئا من النفايات أو الأغصان الجافة جافة ممتلكاتي. وذهبت لأفتش عن البستاني، وما أن جئت خلف البيت حتى رأيت الخدام في رعب واضطراب. لقد شاهدت كومة كبيرة من أغصان الصنوبر موضوعة قرب باب البيت وقد أشعلت النار فيها، وكان اللهب قويا، والدخان متصاعدًا، وكادت النار أن تصل إلى أعلى البناية، وتصيب السقف، فصرخت للعمل على إطفاء تلك النار المشتعلة.
وهرع الخدام حاملين السطول التي كانوا يملأونها من ماء الغدير المنساب في الحديقة، وسلّط بعضها خراطيم الماء التي اعتدنا إن نسقي بها الأزهار وباقي النباتات. ثم أصطف الخدام صفا متراصا وهم يتناولون السطول الملأ بالماء. وخشيت أن تصل النار أخشاب السقف فتأتي عليها ويسقط البيت طعمة للنيران المتأججة. وأخذنا نقارع الزمن ونعمل بكل ما أوتينا من قوة لإطفاء تلك النار. واستغرقت عملية الإطفاء قرابة الساعة من الزمن. وفي النهاية استطعنا بهذه الجهود المتضامنة أن نسيطر على النار المشتعلة. ووقفنا حول النار مذهولين ومرعوبين، لأنه لو تركت النار بضع ساعات أخرى لكانت قد أتت على البيت وأحرقته. وحدجتني نورجان بنظرة خفية وكأن لسان حالها يقول: لقد نفذ الشبان المتعصبين ما ضمروه من شر لنا، وما اختطوه من ضرر لسيدة هذه الدار!
شكرت الله بأن لا شيئ خطير حدث. نعم لقد اسودت الجدران البيضاء من الدخان، ونالت أخشاب السقف شيئا من الاحتراق لكن لا شئ أخرى خطير قد حدث. وأخذت أحسب ألف حساب لو إن البيت قد احترق. وقلت أن دافعا من السماء هو الذي دفعني أن أنزل إلى الحديقة، في تلك الفترة الرهيبة من بداية الحريق. وبعد ساعة جاءت الشرطة لأجراء التحقيق وأخذ الإفادات، وتدوين ما حدث. وأما أنا فرجعت إلى غرفتي وفتحت كتابي المقدس لأرى إن كان لدى الله في كتابة العزيز شيئا خاصا يكلمني به على لسان أنبياءه فوقع نظري على ما هو مدون في سفر التكوين (22:19) إذ يقول: "اسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أعمل شيئا حتى تجئ إلى هناك". وقد تكون هذه إرادة الله لي أن أهرب من وجه الإخطار المحدقة بي. وقلت كل ما ابتغيه منك يا إلهي هو أن ترشدني إلى الطريق الذي يتحتم عليّ سلوكه، وهل تريدني حقا أن أترك البلاد! وهل ذلك الطريق صعب أم سهل؟ لقد أتجرد عن كل ما أملك، ولست أدري إن كان هذا التجرد سيشمل الصبي محمود؟!
وفي شهر مايو عام 1972, أي بعد مضي ستة أشهر من الحريق المفتعل في منزلي تكلم الله بحلم آخر. ولشد ما جاءت ريشام في أحد الأيام تقول: أرجوك يا سيدتي أن تتفقدي نقودك وتري إن كان صندوق النقود في أمان. وقد بدأ القلق يرتسم على محياها، وأشارت بيدها إلى الصندوق القوي الذي كنت أختزن فيه نقودي. أجبتها: ما الذي حملك على هذا السؤال فالصندوق في أمان تام. قالت: لقد حلمت الليلة الماضية أنك مسافرة، ومن عادتك أن تحملي الصندوق معك أن أوقفك بعض الأشرار وأخذوا الصندوق منك عنوة. وهنا بدأ الاضطراب على وجه ريشام فبادرت إلى تهدئة روعها، وقلت في نفسي: إن فقدان الإيمان ربما يقربني أكثر من إلهي، ويجعلني أعتمد بكليتي على أبي السماوي.
وسرعان ما شغل بالي حلم ريشام، وكانت قد ذهبت لمتابعة عملها أما أنا فبدأت أفكر في معنى الحلم، وهل هذا حلم نبوي يريد أن ينبئني إلى ما سيحدث في المستقبل؟ وهل معنى ذلك أن أموالي ستؤخذ، وأملاكي ستصادر مني؟ وهل أترك في هذه الدنيا بدون مال أو سند؟ وفعلا فإن تلك الأيام كانت أياما مريعة، والحكومة الجديدة تتخذ إجراءات جديدة. وتقوم بمصادرة الأراضي الواسعة التي يملكها بعض الإقطاعيين وكبار الملاكين.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفي شهر يوليو من ذلك العام قدم ولدي خالد من لاهور ليزورني فقلت: ما معنى هذه الزيارة المفاجئة؟ فالطقس حار، والحرارة لاهبة في الصيف، ولم يخبرني بأني سيجيء فهل من سبب طارئ؟ وللحال فاتحني خالد عن سبب مجيئه، إذ قال هناك إشاعة بأن الحكومة سوف تصادر كثيرا من الأملاك الشخصية. وعلى الأثر فكرت بما ذكره لي صديقي الموظف في الحكومة قبل سنة أي في عام 1971. وكأنه تنبأ عما سيحدث. وتابع خالد حديثه وقد أخذ يتكلم بصوت منخفض هادئ كيلا يثير أشجاني ويزعج عواطفي: إن الزعيم بوتو بدأ يصدر قوانين جديدة منها ما يتعلق بالأراضي وبمصادرة بعض ممتلكات أصحاب الأطيان الواسعة. وسألت ابني: ماذا تظن يا ولدي يجب أن أعمل؟ وهل تعتقد أنهم سيطاردون الكثير من ممتلكاتي؟ وللحال نهض خالد عن الكرسي الذي كان جالسا عليه، وأخذ ي يذرع أرض الغرفة ووقف قرب النافذة وهو مستغرق في تفكيره ثم التفت إليّ وقال: لا أحد يعرف ما سيحصل يا أماه! ولكن ربما كان الأحسن لك أن تبيعي بعضا من هذه الأملاك الشاسعة، وفي وسعك أن تقسمي الأطيان إلى قطع صغيرة تبيعينها إلى صغار الملاك. وبهذه الطريقة يكون المالك الجديد محميا من مصادرة الحكومة لأرضه. ففكرت في الرأي الذي قدمه خالد، وقلت ربما يكون هذا أحسن طريق نتبعه وأفضل سبيل نسلكه.
وعلى الأثر توجهنا لنتباحث في هذا الأمر مع ابنتي توني، وتم الاتفاق بيننا الثلاثة أن هذه أفضل طريقة نتبعها. وقررنا أن يعود خالد إلى لاهور، ويبدأ بأعداد أوراق تسجيل الأراضي، والاتصال ببعض العملاء الذين مهنتهم بيع الأراضي والممتلكات. وأخذنا اهبتنا للذهاب إلى لاهور توني وأنا، واصطحبنا محمود معنا خشية أن نتركه وحده في بلده واه. وعندما تركت حديقة منزلي بتّ مشدوهة ومضطربة إذ كيف أترك هذه البقعة الجميلة من الأرض، وكانت براعم الأشجار والأزهار تملأ الروض. وتدفق ماء الغدير بغزارة، وطربت لحفيف الأوراق، وصوت الماء الجاري ومنظر الطبيعة الساحر في تلك البقعة من الأرض العزيزة على قلبي، وقلت كيف أفرط بهذه الأملاك التي هي جزء من نفسي؟! وكنت قد أخبرت الموظفين بأننا سنعود إلى واه بعد بضعة أسابيع لذلك اطمأنت نفسي إلى فكرة العودة، وعدم فقدان هذا الفردوس الأرضي! وجاءت ريشام ونورجان ليودعاني، وقرأت في عيونهم ما وددن التحدث به عما سمعتاه وحلمتا به. وودعنني والدموع تسكب من على خدودهن وقالتا: الله معك يا سيدة!
لقد كانت لغة السكون أبلغ من لغة الكلام ساعة الوداع. وأحسست بشيء داخلي ينبئني بأني ربما لا أرى ريشام الخادمة الأمينة المخلصة مرة ثانية، وكنت قد ارتبطت بها برباط المحبة الوثيقة، وبالرغم من كونها خادمة إلا أنها كانت مخلصة وأمينة وقد تعودت على تمشيط شعري، وتهيئة ملابسي، ففقدانها خسارة كبيرة لي. ولم تستطع أن تراني أبرح واه ومنزلي ووطني، لذلك هي توارت عني، وحبست نفسها في مكان منفرد لتعبر فيه عن عواطفها المكبوتة بالبكاء والنحيب.
وقبل مبارحتي المنزل ذهبت لأغلق باب غرفة النوم، وكان السكون قد خيم عليها، وأشعة الشمس تغمرها، فتذكرت أنه في هذا الركن الأمين من البيت تعرفت على الله، وقرب نافذة غرفتي ظهرت لي الرؤيا السماوية. ففي هذه الأركان المقدسة من البيت، وفي تلك الجنبات عزيزة من الحديقة ظهر لي مجد الله عدة مرات، وهو الذي هداني إلى معرفة أبي السماوي. لقد تحدثت ذلك الأب إليّ مرات عديدة وأرشدني إلى الطريق القويم الذي يجب أن أسلكه في حياتي.
رد: أقدر أقوله يا بويا
نحن الآن في عام 1978، ويكون قد مضى عليّ في هذه البلاد سنة أعوام، وأنا أرى موطني يتلاشى في الضباب. لقد كانت معرفتي واضحة بأني لن أرى بلادي مرة ثانية. ولن أعود إليها بعد الأربعة أشهر المزعومة فقط. ولأسباب عديدة مددت تلك الزيارة التي كان مفروضا فيها أن لا تطول أكثر من أربعة أشهر. فأصدقائي في باكستان حذروني أنه من الأفضل لسلامتي أن أبقى في العالم الجديد. ومحمود الذي كان في التاسعة من عمرة قد بلغ الآن الخامسة عشر وأصبح في ريعان شبابه، واتخذت له في أميركا اسما جديدا حيث أصبح يعرف باسم داود. وخشية أن يختطف أرباب الشر هذا الصبي الناشي مني أثرت أنأ أظل بعيدة عن بلادي. وبعض المسؤولين في دولة باكستان من الذين يغارون على مصلحتي نصحوني بعدم العودة إلى البلاد. وقد سمعت عن قرارات المؤتمر الإسلامي العالمي الذي أنعقد عام 1976 ومن بعض هذه القرارات وجوب انسحاب الإرساليات المسيحية، وأغلاق المؤسسات التبشيرية ومحطات اذاعاتهم. ودلت أمثال هذه التطورات أنه ليس من المستحسن عودتي، وأن روجوعي إلى العالم القديم ليس مستحبا أو مستحسنا.
وعلاوة على ما ذكرت فقد أوضح الله لي بطرق مختلفة وبظهوره النوراني لي أن أبقى في أميركا، لأنهم يحتاجون إلى سماع شهادتي في الولايات المتحدة. وقد أرادني الرب أن أتكلم عن الأعباء التي تواجهها الكنائس وأنه لا بد من فصل الخراف عن الجداء. وإن الدينونة باتت وشيكة. وقلت هذه إرادة الأب السماوي لي. لكن من أنا لأقوم بهذه المهمة الخطرة؟! فليست وظيفتي أن أخبر الآخرين عن نقائصهم، لا سيما وأنني زائرة لهذه البلاد الراقية، وأنا من المسيحيين المستجدين، فمن أنا لأعظ وأرشد أولئك الراسخين في إيمانهم، والعريقيين في مسيحيتهم؟! فرجوت الله مرارا أن يدلني لماذا أرادني أن أعمل كل هذا؟!
وكان جواب الله على سؤالي أن تطلع إلي بعينين حزينتين تنم عن اهتمامه بحالة الكنائس والنفوس، وأحياء الحياة الروحية في الإنسان العصري. وعلى الأثر جثوت على ركبتي ووعدت ربي أن أطيع أوامره وأنفذ إرادته. بيد أنني لكوني إنسانا ضعيفا بقيت مترددة. وأخذت أسائل نفسي: أحقيقة هذه الدعوة موجهة لي من الله أبي السماوي؟! وقلت ما دمت يا إلهي قد حملتني بالروح إلى قربك فلا شئ في العالم سيقف في طريقي أو أية صعوبة ستعترض سبيلي. فسأعمل جهدي في نشر الأخبار السارة عن المسيح، وسأظل تلميذة وفية لذلك السيد العظيم. وتحقيقا لآمالي عندما لامس رأسي الوسادة ذات ليلة، إذا بي أنقل بالروح ورأيت ضوءًا عظيما يغمرني، فقلت هذه مسحة الروح من ربي وإلهي. وكان نداؤه لي واضحا وجليًا، إذ أمرني أن أمجد اسمه، وأن أتحدث عن رحمته ومحبته لأعضاء الكنائس، وللجماعات الأخرى في كل مكان، وأن أؤدي شهادتي المسيحية بوضوح للإنسان الحديث العائش في أرقى دولة من بلاد العالم.
ولشدّ ما تحققت جميع الرؤى التي تراءت لي في الماضي وفي بلادي, باكستان ، وتمت هذه الأمور التي تمثلت أمام نواظري للمستقبل. وفي الولايات المتحدة شاهدت الحياة الحقيقة للشعب الأمريكي وكيف يعيش في بلاده، وكيف يتعبد في الكنائس. وكل ما تراءى لي من أحلام وروى قد تحقق، وكان هذا تأكيدا لإرشادات الأب السماوي لي. وربما كان أكبر تأكيد لي ما سمعته من زوجة الفس هرلد ولد، وهي مع زوجها ترعى كنيسة المنارة للإرسالية في بورتلند أورغون. فقد كتبت تلك السيدة متحدثة عن رؤيا حصلت لها قبل عشر سنوات وهو يواكب التاريخ الذي ظهر
وعلى أثر قطع الشجرة تحققت أثر ما عملت، لأنه بزوالها توارى مجد الله عني. ولمدة طويلة كنت أقف قرب النافذة أنطلع إلى الفراغ الذي أحدثه زوال هذه الشجرة إذ لم أعد أسمع هتاف الأولاد ونداءاتهم بعضهم لبعض. وقلت أن حالتي تشبه هذه الشجرة، ولا تختلف كثيرًا عنها. وقد كان هذا التغيير الذي حصل لي نابع من روح الله. فطلبت من الله أن يستمر في ظهوره لي، لأني أحسست أنه ساعة أمرت بقطع الشجرة ابتعد روح الله عني لأني حرمت هؤلاء الصبية من متعتهم المفضلة. ووجدت أنه في وسعي الآن أن أعمل شيئا جديدا أجذب إليه الأولاد وأستعيد لهم أفراحهم. فحديقتي كانت مملوءة بالأشجار التي تعطي ثمرا طيبا إثناء الصيف، فوجهت دعوة لأولاد القرية أن يقصدوا حديقتي، ويقطفوا من الأثمار ما شاءوا. فلبوا الدعوة فرحين ورغم أنهم حالوا عدم تكسير الأغصان إلا أنهم بعد تلك الزيارة كنت ترى الكثير من الأغصان المهشمة تغطي جنبات الحديقة.
لقد أدركت أن البستان كان الحاجز الذي وقف بيني وبين ظهور الله لي، لذلك أفسحت المجال لأولاد القرية أن يمتعوا أنفسهم بأثماره اللذيذة. أجل أنهم أساءوا إلى البستان وإلى الأشجار لكن هذا البستان هو ملك لله وأنا أعطي ثمره لهؤلاء المحتاجين عن طيبة نفسي. وهذه كانت وسيلة من أبي السماوي ليخرجني عن نطاق أنانيتي الضيقة إلى أفق أوسع، ومجال أنبل..
وحدث أنه في أحد أيام نوفمبر الباردة أن دخل محمود غرفتي وكان قد بلغ الثامنة من عمره، ودلت ملامحة على أنه فتى وسيم الطلعة، وحاصل على مقومات الرجولة الحقة وقال: هناك سيدة تريد أن تراك يا ماما! هي تحمل طفلا بين ذراعيها وحالتها تستدعي الشفقة والرحمة. قلت له: أنت تعلم أنني لا أقابل أحدا في مثل هذا الوقت المخصص لراحتي. وكنت قد نسيت ما قلته لريشام ونورجان ألا يمنعوا أحدا من مقابلتي. وهكذا أنا ندمت لقولي لمحمود هذا. وقلت في نفسي ماذا يكون موقف الله مني في مثل هذه الحالة التي فيها أطرد امرأة محتاجة مع طفلها من بيتي؟! وعلى الأثر ناديت محمودا وكان لم يبتعد كثيرا عني وقلت له: أتعرف ماذا تريد هذه المرأة؟ أجاب: ربما يكون الطفل مريضا! فقلت له دع المرأة تنتظرني في غرفة الاستقبال مع طفلها. فنزلت إلى الطابق الأسفل وما هي إلا لحظات إلا وكنت مع المرأة وطفلها ومحمود.
كانت المرأة قروية، وترتدي زيّ فلاحة، وملابسها رثّة وحالتها تدل على أنها فقيرة ومعوزة. وسألتها وقلبي يتفطر شفقة ولوعة عليها وعلى طفلها، ماذا تريدين مني أن أعمل لك؟ قالت: لقد سمعت عن أعمالك النبيلة والخيرة وأنا جئت من قريتي التي تبعد 12 ميلا عن هذا المكان وقد أتيت ماشية على أقدامي من هناك لأقصدك لمساعدتي. وبالفعل كانت المرأة تعبة، وقد بدأ عليها أنها منهوكة القوى. فطلبت من الخادمات أن يجلبن لها بعض الطعام والشاي. وسألتها أن كانت ترضع طفلها، وفي بعض القرى من هذه البلاد تستمر الأمهات في إرضاع أطفالهم حتى الثالثة من عمرهم. أما الطفل فقد جذب انظاره الشمعدان البلوري الذي كان معلقًا في غرفة الاستقبال. وعند رؤيتي هذا الطفل الهزيل صليت من أجله، وحالما حسست خده شعرت بالحرارة العالية التي عليه فعرفت أنه مصاب بالحمى. وبدأ فمه ناشفا وجسمه هزيلا. وتصورت عند ذال الأجيال من عائلتي وهم يتطلعون إليّ وأنا أقترب من هذه الطفل الهزيل وأعاشر هذه الفلاحة المسكينة، مع أنهم لا يرضون بأن يسمحوا لظل أحد من هؤلاء التعساء أن يقع في طريقهم.
تلوعت متحسرة على هذه المرأة المسكينة وطفلها المريض. وطلبت من الله أن يشفي هذا الطفل البريء الناشئ. كما طلبت من الخادمة أن تجلب بعض الفيتامينات للمرأة لتقوي جسمها ما دامت لا تزال ترضع طفلها. وأخبرتني كيف أن زوجها حدث له حادث أقعده عن العمل مدة طويلة. وبقيت تحدثني قرابة النصف ساعة وعندما أرادت ترك المنزل لوحت لها بيدي أن تتريث قليلا علنا نهتدي إلى طريقة لمعالجة الطفل، ولحصولها على عناية أفضل. وفكرت ماذا يقول الناس في واه عني؟! فعادت إليّ شخصيتي القديمة وغدوت عصبية ومتهيجة، لأني تأكدت من أقوال الناس عني.. كيف أن هذه السيدة ذات الجاه والأطيان والممتلكات تعطف على مثل هذه الفلاحة وقد يتقاطر عليّ على أثر هذه المعاملة الرقيقة معها الكثيرون من البؤساء والمعوزين. بيد أنه كان لا مناص لي من تقديم هذه المساعدة لهذه المرأة المحتاجة. وتذكرت أنني وعدت الله أن أكرس كل ما لديّ له. وقبل أن تنصرف حدّثت إدارة المستشفى أن يقبلوا هذا الطفل المريض عندهم، وأن يساعدوا أمه بتقديم بعض المقويات لها. وطلبت من إدارة المستشفى أن تحاسبني عن كل هذه المصروفات.
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
رد: أقدر أقوله يا بويا
ولم أعد لأسمع عن هذه المرأة شيئا وسألت الخدام عندي إن كانوا يعرفون ماذا جرى لها، وإذا كان زوجها قد عاد إلى العمل. وكما هي العادة أن الخدام يعرفون الكثير من الخفايا التي نجهلها نحن، وكان الجواب مشجعا بأن المرأة ذهبت إلى المستشفى وقد عولج طفلها وأخذت بعض المقويات الجسدية، وأن زوجها قد تعافى وعاد يزاول عمله. وكنت في قلبي قد لمت هذه المرأة لعدم شكرها لي عما عملته تجاهها من خير وإحسان. لكن الله أنبني في ضميري، وقال: هل أنت تنتظرين شكرا على أعمال الرحمة والرأفة والإحسان؟! وها هو المسيح يقول: من عمل خيرا لأحد هؤلاء الأصاغر فكأنه عمله لي، وطلبت المسامحة من الله على تفكيري الخاطئ، وقلت أنني أزعجتك يا إلهي من كثيرة ما أطلبه منك من الغفران والمسامحة..!
والظاهر أنه في تلك الأيام كانت لي أوقات قليلة من النجاح في أن أمكث طويلا مع الله، وقريبة منه لأني كثيرا ما كنت أزوغ عن الطريق القويم وأعود إلى حياة العالم. وقلت في نفسي هل هذا هو المنهاج الذي يجب أن نسلكه نحن المؤمنين الحقيقيين؟! وها أنا كثيرا من المرات لا أصارح الله فيما يجب أن أعمله، وأبقي خططي مخفية عنه، فأرتكب أخطاء جسيمة أعود فأندم عليها، وأطلب من الله الغفران لأجلها.
وذات يوم ونورجان تمشط شعري إذا بعصفور صغير غريب يرفرف قرب النافذة. فصرخت انظروا ماذا بعث الله لنا هذا الصباح! وساد السكون برهة. ثم قالت نورجان بحياء: أنك يا سيدتي عندما تبدأين بالكلام عن الله تتغير هيئتك كثيرا. ويبدو أن هذه الملاحظة كانت لدى جميع من كان يسكن معي في المنزل. ووصلتني في ذلك اليوم كتب مقدسة مصورة كنت قد أوصيت عليها من مركز الإرسالية في إسلام أباد. وكنت قد اختبرت فائدتها من محمود، وكان الخدام يسرون بها، ويحبون رؤية الصور التي فيها. ففكرت أن أعطي نورجان نسخة منها. وذات يوم جاءت لتحدثني عما حصل لها. قالت ووجهها يطفح بالبشر والإشراق: أن هذه الكتب المصورة تخبرنا عن يسوع. قلت لها: وما أحلى أن يفتح المرء قلبه لهذا الملك السماوي ويسمح له أن يحل فيه. أجابت نورجان: لقد فتحت له أبواب قلبي. وقد جاء ليسكن فيه وأنا أشعر بالحب يملأه وبالسعادة تغمره. وهذا شعور لم أشعر به طوال أيام حياتي السابقة.
ولم أستطع أن أصدق ما سمعت فرميت بذراعي عليها وعانقتها معانقة أخوية. وقلت: هذا خبر سار يا نورجان! وقد أصبحنا الآن ثلاثة من المسيحيين في هذه الدار، ريشام وأنت وأنا. فلنفرح وتبتهج لأننا أخوات في المسيح. وشربنا الشاي معا ولم يكن هذه أول مرة أشرب فيها الشاي مع الخدام، ولم أكن لأعمل هذا قبل اهتدائي إلى المسيحية. وفرحت لأننا غدونا مسيحيات مؤمنات. وسررت في أعماق قلبي لأنني اكتسبت نفسا ضالة للمسيح. وقلت في نفسي، ماذا حدث لهذه السيدة بلقيس الشيخ التي تسكن هذا القصر المنيف والتي تتمتع بثروة كبيرة، وبأملاك واسعة، والتي كانت تحب الأثرة والانعزال ماذا جرى لها الآن وهي قد ولدت ولادة جديدة، وتسلك سلوكا متواضعا مع الخدام وعامة الناس. أليست هذه عجيبة من الله؟! أنا في الماضي كنت أصدر الأوامر وأتحاشى عِشرة الطبقات الوضيعة من الناس، وإذا رأيت غبارا على أثاث بيتي أو تأجر الطعام عن وقت ميعاده انفر في الخدام وأوبخهم. بيد أنني الآن قد خلقت خليقة جديدة، والله القدير هو الذي صنع هذا. هو أبي السماوي وأنا أشعر بشركة روحية معه، وأتمتع برضاه وأحظى بحضوره.
أنا لا أصبو أن أصبح قديسة بيد أنني بدأت أشعر بمسئولياتي المسيحية. وما دمت قبلت المسيح سيدا لحياتي ترتب عليّ أن أعمل أعمالا ترضيه، ولا تحط من اسمه. وقد علمني أن الأعمال هي التي تتكلم ولها تأثير أكثر من الكلام. وأخذت أتفهم معنى الشهادة الحقيقة للمسيح. وعندما لاحظت أن نورجان لا تحضر اجتماعاتنا المسائية يوم الأحد، سألتها عن السبب. فأمتقع لون وجهها اصفرارا وقالت وهي مذعورة، أنا لا أستطيع حضور اجتماعات عامة لأني متزوجة لرجل مسلم متعصب، ولديّ منه أربعة أولاد فإذا قلت له أنني غيرت ديني وتركت الإسلام فسيطردني من البيت ويطلقني حالا. فأخبرتها بأن المؤمن الحقيقي عليه أن يعلن إيمانه جهارا، إذ لا مناص من هذا. وتركتني نورجان وهي تقول بكلمات غير واضحة: أنا مؤمنة بالكلام لكن لا أستطيع أن أعلن هذا جهارا، أو أطبق ذلك علنًا.
وحدث بعد بضعة أيام أن ذهبت لأزور الأم راعوث، وكانت مبشرة في مستشفى العائلة المقدسة. وكنت قد تعرفت عليها وأخذت التذ كثيرا بأحاديثها. وإثناء الحديث قالت لي أن الكثيرين في الباكستان هم من جماعة المؤمنين بالسر مثل نورجان. وتعجبت كيف يمكن أن يكون مثل هذا، لأن المؤمن الحقيقي لا يستطيع أن يضع نوره تحت المكيال ويبقيه في الخفاء. بل عليه أن يجاهر به علنا. قالت الأم راعوث: لنذكر نيقوديموس فقد كان من المؤمنين لكنه ظل محافظا على إيمانه سرًا. ولنرجع لقراءة ما ورد في الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا عنه، ففتحت كتابي المقدس وقرأت عن ذلك الفريسي الذي جاء إلى المسيح خلسة في الليل ليخطي بمعرفة أوفى عن ملكوت الله. وكنت قد قرأت ذلك الفصل عدة مرات من قبل لكنني لم أتأكد أن نيقوديموس كان من جماعة المؤمنين بالمسيح سرًا. وعلقت الأخت قائلة، ربما كان نيقوديموس قد أعلن عن إيمانه بصراحة لكنه كما يذكر الإنجيل أنه كان حريصا. ألا يعرف بذلك الإيمان أخواته من الفريسيين..
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفي اليوم التالي دعوت نورجان إلى غرفتي وقرأت لها ما ورد عن تيقوديموس وقلت لها: إني أعتذر لك لأنني سببت لك هذا الانزعاج الفكري. وإني أعتقد أنه مع الوقت سيظهر لك الرب الطريق الذي فيه ستعلنين إيمانك بالمسيح جهارا. وفي الوقت الحاضر من المستحسن أن تظلي حريصة على أن تصغي إلى إرشاد الرب وتسيري بموجب ما يوحيه إليك رب المجد. ولمع وجه نورجان من شدة الفرح، وقد زال عنها ذلك الارتباك الذي أزعج أفكارها، فأخذت تردد كلمات بعض الترانيم وتطلب من الله أن يرشدها لتعمل العمل الصحيح. وقلت لها: نحن لا تودّ أن تفرض عليك الأمور فرضا، بل تصرفي بموجب وحي الله وإرشاده، وكل شخص مسئول عن أعماله، والله ديان عادل بدين المرء حسب نواياه. وكنت قد اكتشفت الصعوبة التي تعترض أي شخص يريد أن يعتنق المسيحية في ذلك الجزء من البلاد.
وحدث ذات يوم أن دق جرس الهاتف. وكان المتكلم أحد أعمامي الذي خالفني بشدة لإعتناقي المسيحية. وظل مقاطعا إياي حتى صوته بصفة الأمر إذ قال: يا بلقيس أسمع أنك تعقدين اجتماعات مسيحية في بيتك، وتعملين على حمل غيرك لاعتناق المسيحية. أجبته: ربما كانت هذه وجهة نظري في الحياة! وتصورت وجهه يحمر من شدة الغيظ، وأوداجه تتضخم وبصوت خشن قال: ألا يكفي لك أنك اتخذت قرارات نابية بشأن معتقداتك! إنما المطلوب منك الآن أن تتركي أمر هداية الآخرين والتأثير عليهم. قلت: أستحسن أيها العم اهتمامك بهذا الأمر لكن لا تنسى بأن كل إنسان حر في أن يسير دفة حياته كما يشاء، فهو سيد نفسه وربان سفينه حياته. فأنت تسير كما تشاء، والمفروض أن أسير أنا بدوري كما أشاء.
وفي اليوم التالي كان سائق سيارتي الجديد يرجعني إلى بيتي بعد أن قمت بزيارة لابنتي توني وإذا برجل يعترض السيارة ويبغي إيقافها عنوة. ومن عادة هذا السائق أن يتوقف ليساعد بعض الركاب المقطوعين لكنه في هذه المرة لم يتوقف وقال لي لا تطلبي مني أن أقف هذه المرة، لأن ذاك الرجل الذي أعترض سبيل السيارة يضمر لنا شرًا. ولسنا ندري ما هو مزمع أن يعمل! وبعد أسبوع من هذا الحادث وكنت مستريحة بعد الظهر في غرفتي إذا بإحدى الخادمات تدخل عليّ وقالت هامسة: الرجاء ألا أكون قد أزعجتك يا سيدي! إنما عليّ أن أحذرك من أمر خطير. فأخي كان حاضرا اجتماعا صاخبا في جامع راولبندي البارحة، وسمع بعض الشباب يتذمرون من الأعمال التبشيرية التي تقومين بها، وقد أصروا علي أنه لا بد من اتخاذ أجراء صارم لإيقافك عند حدك. وأرتج صوت الخادمة من الخوف والاضطراب، وتابعت قولها بأنه يجب علينا أن نكون صريحين وحذرين. ونحن جماعة الخدام هنا نخاف عليك وعلى حفيدك محمود كثيرا.
وتراءى لي بعد أن سمعت عن هذه التهديدات أنه ربما كان من الأفضل لي أن أظل مؤمنة بالمسيح، ولكن لا أعلن ذلك جهارًا. ففي هذه البلاد وحتى بيت أفراد عائلتي، فذكر المسيح في عرفهم كفرًا، والدعوة إلى المسيحية زندقة. فلنكن حكماء كالحيات ولأجعل مسيحيتي أن تظل سرًا، وإن كانت أعمالي تُظهر بأنني مسيحية
رد: أقدر أقوله يا بويا
مضي شهران منذ سمعت التقرير عن إنذار الشباب إليّ سوى تلك النظرات المعادية التي كان يوجهها إليّ أولئك الشباب المتعصبين. وبتّ متحيرة إن كانت هذه الإنذارات حقيقية أو إنها لا أساس لها. وأقترب عيد الميلاد، وهو ثاني عيد أحتفل به بعد أن اهتديت إلى المسيحية. وكان بعض الأفراد من عائلتي يزوروني إلا أن العلاقات مع العائلة ما برحت متوترة هكذا أفادني أحد أعمامي. وفكرت أن أقيم حفلة غداء أو عشاء عامة يوم عيد الميلاد، وأن أدعو إليها بعض الأقارب والأصحاب، عساي أستطيع تسوية العلاقات المتوترة بيننا، وإزالة روح العداء من نفوسهم. وقضيت بعض الوقت وأنا أعدّ قائمة المدعوين. وبعد أن فرغت من أعدادها وضعتها ضمن الكتاب المقدس. وفي اليوم التالي وكنت مزمعة أن أوزع الدعوات حصل أنه لما سحبت القائمة من طيات الكتاب المقدس أن وقع نظري على حفلة العرس المذكورة في الإنجيل. وقلت في نفسي: إن أقمت الحفلة وجعوت إليها أصدقائي وأقاربي الأغنياء فهؤلاء بدورهم سوف يدعونني إلى حفلة مماثلة، وكأنني ما عملت شيئا، لكن الأفضل أن أدعو لهذه الحفلة الفقراء والمساكين، والعرج والعمي، فهؤلاء يشعرون بالفرح الحقيقي لأن ليس لديهم الوسائل أو الإمكانيات لدعوتي. وسيكون لي ثواب يوم القيامة، ووقت الدينونة الأخيرة.
وسألت ربي: هل هذه هي إرادتك أيها الأب السماوي؟ وأمسكت الكتاب المقدس بيد، والقائمة الجديدة الحاوية على أسماء الفقراء والمساكين باليد الثانية، فإذا إصبع الله الخفي يشير إلى حفلة العرس التي ورد ذكرها في الإنجيل ولم يحضرها المدعوون من الإغنياء فأضطر صاحب الدعوة أن يدعو عامة الناس. فقلت يبدو أن هذه هي إرادة الله. وحوت القائمة الجديدة أسماء بعض الأرامل والأيتام والمعوزين والقرويين وحتى بعض المتسولين العائشين في بلدة واه. وبعثت هذه الدعوات بنفسي وكلفت الموظفين عندي أن يوزعوا البعض الآخر. وهكذا انتشر خبر هذه الحفلة. وعلمت أن القرية بأجمعها عازمة على الحضور.
وأخذت أفكر كيف استقبل كل هؤلاء الناس. وماذا يحل بالسجاجيد العجمية التي جلبتها مؤخرًا لغرفة الاستقبال؟! وكيف يصمد الأثاث أمام أقدام جماهير القرويين، وجماعة الفقراء والمتسولين؟! قلت أستطيع إزالة بعض الأثاث والمفروشات من الطريق، وبذلك أضمن عدم تلويث هذه القطع الثمينة من الأثاث والمفروشات.
وعندما بدأنا بتهيئة الهدايا تحمس حفيدي محمود للعمل، وكان قد بلغ الثامنة من عمره. فشرع يلف الهدايا للذين سيحضرون حفلة عيد الميلاد. وكنت قد جلبت قمصانا صوفية للأولاد، وفساتين ملونة للفتيات، وقطعا من القماش الأرجواني أو الزهري للسيدات، وسروايل سميكة للرجال، مع أنواع من الأحذية المختلفة الألوان والمقاييس. وأستغرق لف هذه الأغراض ضمن طرود بعض الوقت، وساعدني للخدام باللف، ومن ثم ربطنا كل هدية بشريط ففضي، وأعددناها لتكون جاهزة يوم الاحتفال بمولد ملك المجد، ذكرى لتقديم المجوس هداياهم للطفل يسوع مخلص العالم. وكنت قد طلبت من الفخاريين في القرية أن يعدوا لنا 500 سراج، كتلك الأسرجة المستعملة في الباكستان للإضاءة والتنوير، وطلبت من بعض النساء اللواتي توافدن عليّ أن يعدوا فتائل لها من خيطان قطنية. وإثناء عملنا كنت أنتهز الفرصة لأتحدث للعاملين عن يسوع المخلص، وعند إضاءة الاسرجة تحدثت عن مثل العذارى الجاهلات والحكيمات. وكانت الاستعدادات للحفلة قائمة على قدم وساق، والجميع مستعد للمساعدة والعمل.
وتقدمت نساء القرية لمساعدتي في صنع بعض الحلويات الباكستانية من الجوز واللوز، ثم زيناها بورق لامع وشفاف. وحين أقترب ميعاد الحفلة توافد الكثيرون إلى البيت، وظلوا يأتون طوال أسبوع ليتفرجوا على الزينات الجميلة، والاسرجة المضاءة، وليأخذوا هداياهم الميلادية. وقضى محمود وقتا ممتعا مع أولاد القرية. وكانت عيون هؤلاء الصبية تلمع من شدة الفرح بحفلة الميلاد. وظل محمود يرحب بالأولاد ويفسح لهم المجال الاشتراك في تلك المناسبة المجيدة. وانتهزت الفرصة لأتحدث مع القرويين كيف علّمنا يسوع أن نعامل بعضنا البعض بهذه الطريقة الحية وبروح المحبة، وسأل الكثيرون: هل فعلا أن يسوع كان يعاشر أمثالنا من الطبقات المنحطة من الناس؟ وكنت أجيب: ما نصنع الآن ليس سوى صورة مصغرة عما صنعه ابن الله مع بني البشر أمثالنا في سالف من الزمن.
وبعد انتهاء موسم العيد جلست لأنفّس عن عواطفي المكبوتة وأفسح بعض المجال لتأملاتي وخيالاتي. وسألت الله بخشوع إذا كان هذا ما يريده الآب مني؟ وأحسست بأنني أسمع صوته يقول لي: نعم هذا ما أريده أن تهيئي للملكوت الإلهي على هذه الأرض. وظل كثيرون من الفقراء يتذكرون هذه الحفلة المباركة يوم العيد. وفيما أنا جالسة أتأمل في الأحوال العامة للبلدة تذكرت ما سمعته من أحد الخدام، وكان قد حضر جنازة في بلدة واه أن زوجة الأمام ذكرت له بأنني ارتكبت خطأ فظيمًا بتركي دين الإسلام. ولكن أحد الحضور الذين سمعوا تذمرات زوجة الأمام قال: هل رأيتم هذه السيدة مؤخرًا؟ وهل أنتم تعملون مثل ما تعمله هذه السيدة من الإحسان وما تظهرة من العطف على المعوزين لا سيما بعد أن أصبحت مسيحية؟ وإذا كنت ترومون معرفة شئ أوفي عن الله تعالوا للاجتماع بها والتحدث إليها.
بيد أنه كانت جماعات أخرى في لبدة واه ممن نظروا إلى الحفلة الميلادية التي أقمتها بعيون شزراء، وبعدم الرضي. وسمعت من أحد العمال الذين يشتغلون في حديقتي أنه سمع حديثا عني، تلوكه الألسن من أنني أصبحت مشكلة لهم. وصرح البعض أنه لا بد من القيام بعمل حاسم لوضع حدّ لمثل هذه الأمور! ولشدّ ما بدأت تصلني إنذارات في بعض الأوقات المتقاربة أو المتفرقة، كلها تنذر بسوء المصير أن لم أرتدع عن أعمالي الخيرية والاجتماعية تجاه أوليك المنبوذين، وظلت هذه الإنذارات تتوارد عليّ بانتظام طوال ذلك العام.
ويبدو أن الله كان يحاول أن يهيئني للأوقات الصعبة، وللظروف القاسية التي تنتظرني. وجاء مرة ثلاثة من أولاد القرية إلى بيتي، وتصورتهم مبعوثين من الله إليّ لأنهم كانوا في حالة تدعو إلى العطف والشفقة، وقد تعوّد أمثال هؤلاء أن يجيئوا ليلعبوا مع محمود. وجاء محمود بعد أن فرغ من اللعب معهم وهو مرتعب وخائف وقال: أتعرفين يا أماه ماذا يقول هؤلاء الأولاد البسطاء؟ إنهم سمعوا أن بعض الناس في القرية يعملون الخطط لقتلك. وللحال بدأ بالنحيب والبكاء وقال: إن متِ فسأقتل نفسي!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وماذا أستطيع أن أجيب محمود أو أعمل له في مثل هذه الحالة وكان قد بلغ الثامنة من عمره؟ وما أسرع ما قربته مني واحتضنته وعانقته؟ ثم مررت بأناملي على شعره، وحاولت نهدئة روعه، وأخذت أروي له ماذا حدث ليسوع في الناصرة بلدته، وكيف قام أهل تلك البلدة عليه ورغبوا في طرده، ورجموه بالحجارة لكنه اجتاز من وسطهم واختفى عنهم وأبوه السماوي لم يتركه فريسة في يد الأشرار وقساة القلوب. وهذه كانت إرادة الله أنه سمح بذلك, ولكنه في النهاية تقدم لمساعدته وإنقاذه. وهذا ينطبق عليّ وعليك يا محمود لأن لنا حماية تامة تحت جناحي الإله القدير والأب السماوي. وسأل محمود متلهفًا: أتعنين أننا لا نؤذى أبدًا ولا ينالنا شئ من الشر كالذي ذكره أولئك الأولاد؟ أجبت: لست أعني هذا إذ إن يسوع نفسه في النهاية تألم ولم يحصل ذلك إلا عندما حان الوقت لذلك. فعندما سمح الأب السماوي له أن يموت تقدم للصليب فداء عن كل خاطئ أثيم، وكان هذا بإرادة الله ونحن لا يترتب علينا أن نعيش أيامنا تحت كابوس الخوف الدائم، وضمن تصورات أن أمورًا فظيعة ومؤلمة ستحدث لنا بل علينا أن نعيش بثقة وبإيمان بأن مشيئة الله ستتم، وإن الله القدير لن يتركنا أبدًا!
وتطلع محمود إليّ ببراءة الطفولة، وقد أخذ الخوف يزول عنه، وما عتم أن أبتسم وأنطلق يعدو ويقفز ويتابع لعبه مع رفاقه. وليتني حصلت على هذه السكينة والاطمئنان التي حصل عليها محمود، وما أحلى براءة الأولاد وبساطة إيمانهم! وتركت غرفتي وأخذت أتجول في جنبات الحديقة وأنا حاملة الكتاب المقدس بين يديّ. ولم أكن مرتاحة البال أو فرحة، لأنني أخذت أفكر بمصيري إذا طردوني من بيتي. وهذه الفكرة بدأت تعكر عليّ صفاء الحياة. وكان الفصل خريفًا، والطقس جافًا، وكنت وأنا أسير في الحديقة أسمع صوت الأسماك عندما تقفز في الغدير الجاري، أو زقزقة الطيور على الأشجار، واقتراب أسراب منها إلى البيت. وكانت الأزهار ما زالت تفوح بعبيرها وتنشره فوق ذلك المكان. وتنفست الهواء العليل المنعش وقلت: هذه بلادي! وهذا شعبي! لقد خدمت عائلتي هذه الأمة طوال سبعة قرون وهذه البلاد بلادي وأنا لا أستطيع أن أفارقها. هذه كانت مشاعري تجاه موطني وبلادي، إنما حدثت أمور كانت خارجة عن نطاق سيطرتي مما اضطرتني بعد ذلك أن أفارق هذا الفردوس الأرضي الذي نشأت وترعرت فيه. إن أمورًا حاسمة وظروفًا شاذة اضطرتني لترك هذا التراث المجيد رغم تصميمي بأن أظل قريبة منه، وسيدة لقصري وممتلكاتي.
وجرت في الباكستان عام 1970 انتخابات عامة، وكان قد مرّ على اهتدائي للمسيحية أربعة أعوام، وكان أولا انتخاب للبلاد بعض التقسيم، الذي فيه نالت البلاد استقلالها. وظهرت الجبهة الوطنية كأكبر حزب سيأسى على مسرح الانتخابات. ولم يكن معظم اصدقائي أعضاء في ذلك الحزب. وكان الشعار الذي اتخذته تلك الجبهة لباكستان هو: الإسلام ديننا، والديموقراطية سيأستنا، والاشتراكية اقتصادنا. وبالطبع فالشعب الباكستاني بعد الاستقلال أخذ يشعر بإحساس جديد، وبيقظة واعية. والرجل العادي أخذ يشعر أن له حقوقًا في الانتخابات ومسئولا عن أمور دولته. ولقد أحببت هذه الروح الجديدة التي دبت في عروق هذه الأمة الناشئة لكن شيئا ظل يخيفني وهو أن هذه الشعارات ستشحذ همة المتعصبين، وتقوي فيهم تعصبهم للإسلام، لا سيما وأن الحكومة التي دينها الإسلام ستدعمهم. وهذه الاشتراكية لم تكن لتتمشى مع تقاليد عائلتنا. ولكوني لم أعد مسلمة فهم سينظرون إليّ بأنني خائنة.
وأخذت أراقب الأحوال السياسية وتطوراتها عن كثب. وجاء ذاب يوم لعندي صديق قديم كان لوالدي، ورغم يأسه واسفه لأنني تركت الإسلام وديني القديم فأنه ظل قريبًا مني وصديقًا مخلصًا لي. وكان يكرر مثل هذه الزيارات لي ليرى إن كنت بخير أو أحتاج إلى مساعدة. جاء هذا الصديق من بلدة سردار وجلس بالقرب مني على الديوان الحريري وشربنا الشاي معا، وقد أخبرني إثناء الحديث أن الجبهة الشعبية هي التي فازت في الانتخابات، وذكر لي إسم زعيمها ذي الفقار علي بوتو. قلت: إنني أعرف هذا الزعيم جيدا. وسأل: إن كنت أتابع قراءة الصحف أو سماع أخبار الإذاعات؟ وقال لقد تغير وضع الحكومة الآن وأشك أن كنت تستطيعين الاعتماد على القادة الجدد الذين تسلموا إدارة دفة البلاد. وقد ضاع الزمان الذي كان لك فيه نفوذ في الدوائر العليا من الحكومة.
وبعد هذه الزيارة من ذلك الصديق المخلص القديم أدركت أن شيئا جديدًا قد حصل في البلاد. وكان الله أراد أن يوحي على لسان هذا الزائر الآن أن أعدّ نفسي لقبول الفكرة بأن أصدقائي القدماء، الذين كنت أتوقع منهم عونا أو حماية، قد زالوا ولم يعد لهم ذلك النفوذ في الدولة الجديدة. ومعنى ذلك أنه ترتب عليّ الاعتماد بالكلمة على الله. وقد مضى بعض الوقت عندما بدأت أتحسس روح العداء التي أخذت تتكون ضدي. وقد بدأت أتلمسها في عيون الناس عندما كنت أسير في شوارع بلدتي واه. وظهر تغيير في معاملة صغار الموظفين عندما كنت أتحدث إليهم عن أمور الضرائب على أملاكي. ففي السابق كان أولئك الموظفون يكلمونني بلطف، ويحنون رؤوسهم احتراما لي. أما الآن فقد تغيّر الوضع كثيرا عندما كنت أحدثهم صاروا يتجاهلون وجودي ويشيحون بوجوههم عني، ويتطلعون إلى الأفق البعيد وكأنهم يراقبونه. وكنت أعلّق على هذه الحالة بقولي: إن سلوكنا يشبّه سلوك الأولاد الجهلاء لا الناس الناضجين والرجال الحكماء.
المشاركات: 9,349
رد: أقدر أقوله يا بويا
لم يكن للحكومة الجديدة والأوضاع المستحدثة في الدولة تأثير كبير على المستخدمين عندي في البيت. فمعظم الخدام كانوا من المسلمين، عدا ريشام التي كانت مسيحية ونورجان التي بدأت تشعر بالفرح والسلام القلبي لأنه بدأت تعرف طريق المسيح. وفي كثير من المرات قال لي الخدام المسلمون: لا تضطربي بشأننا يا سيدة! فإذا قررتِ أن تتركي البلدة ففي سمعنا أن نجد لنا أعمالا جديدة بسهولة. وغدت العلاقات مع الموظفين الذين يعملون عندي تختلف عما كانت عليه قبل أربع سنوات، ولا عجب في ذلك فأحوال البلاد تغيرت وعالمنا تطور والباكستان استقلت.
ولعبت الأحلام دورا هاما في حياتي لا سيما تلك الأحلام التي مهدت لاختباراتي المسيحية وظهور الله الأب السماوي لي. وما زلت أتذكر كيف أني التقيت بالمسيح الأول مرة عن طريق الحلم إذ تراءى لي هذا السيد يجلس معي على المائدة وتناولنا طعام العشاء سوية. وما أسرع ما غدت هذه الرؤى والاختبارات الصوفية فعالة في حياتي. ففي أحد الأيام وجدت حالي محمولة بالروح، ومجتازة الأوقيانوس، وشعرت أنني انتقلت بسرعة مثل سرعة البرق إلى ولاية إنكلترا الجديدة في الولاية المتحدة، ومع أنني لم أكن قد زرت أميركا أو معالم العالم الجديد قبلا، إلا أنني وجدت نفسي أقف أمام بيت للتمريض ودار إيواء العجزة والمسنين. ولما وخلت تلك الدار وجدت في إحدى غرفها سيدة في منتصف عمرها، وجهها مستذير، وعيناها زرقاوان، وشعرها يخطه سواده الشيب، وكانت مضطجعة على سرير مغطى بغطاء قطني جذاب المنظر، وكانت تلك السيدة مريضة وعلمت أنها مصابة بالسرطان. وبالقرب منها جلست ممرضة تقرأ لها بعض القصص المسلية. وفيما أنا في تلك الغرفة تراءى لي سيدي الرب واقفًا في إحدى الزوايا. فركعت وسألته ما هو المطلوب مني أن أعمله. أجابني صلي من أجل هذه المريضة فاقتربت من السرير وصليت بحرارة من أجل شفاء تلك السيدة المريضة. وعند الصباح أفقت من حلمي وبتّ مذهولة من ذلك الحلم الذي حملني عبر البحار.
وسألت نفسي لما طلب مني السيد الإله أن أصلي من أجل تلك السيدة المريضة ما دام هو حاضرا في الغرفة؟ وإذا بالوحي الإلهي يذكرني بأن صلواتنا أمر ضروري وحيوي. لأن ذلك الإله يعمل بواسطتها. وقادني هذا الحلم إلى مراجعة الإصحاح الخامس من رسالة يعقوب الرسول حيث يقول: إن صلاة الإيمان تشفي المريض (15:5) وحقا أن الصلاة تولد قوة في الشخص الذي نصلي من أجله. ومرة أخرى حلمت أني أسير على ممر خضبي لأصل إلى مركب. وعندما دخلت إحدى غرف المركب رأيت المسيح واقفا هناك. وأشار لي بيده إلى العودة على الممر الخشبي وهناك رأيت سيدة ترتدي ملابس غربية تنتظرني. فاقتربت مني وأمسكت يدي، واقتادتني بعيدا. وسألتها: إلى أين؟ وأين المصير النهائي؟ لكنها لم تجب ولم أحصل على أي جواب منها. وكأن هذه الرؤيا شاءت أن تنبئني بأني سأذهب في رحلة إلى مكان مجهول. وكأن هذه الأحلام كانت تمهد إلى تغيير في أوضاعي وتجعلني على استعداد لأن أتقبل فكرة مباركة دياري، وألا أفزع عن الأخبار التي أخذت تتوارد عليّ من تغيير الأوضاع في ظل الحكم الجديد للباكستان.
وجاءني عام 1971، وكان ذلك بعد تسلم الزعيم بوتو زمان الحكم ببضعة أشهر، أن زارني صديق قديم باسم يعقوب. وكان هذا مقربا ن عائلتنا لعدد من سنين. وفي الوقت الذي كان فيه زوجي وزيرا للدولة عانت البلاد أزمة اقتصادية وتقصا في الميزان التجاري. وعند ذاك فكرت مع ذلك الصديق يعقوب أن نبدأ مشروعا لتحسين الأحوال. فبدأنا بمشروع يساعد الإنسان فيه نفسه بنفسه، وسميناه: (مشروع العيش البسيط‘. والفكرة الأساسية في ذلك المشروع هي تشجيع الصناعات الوطنية، وأن يعتمد المواطنون على الإنتاج المحلي والصناعات المحلية، والعمل على التقليل من التوريد الأجنبي. ومن أجل ذلك أخذنا نجوب القرى والأرياف نشجع العمال على نسج الأقمشة بالأنوال، ودعونا الجماهير لاتخاذ برنامج تقشفي للحياة. وقد بدأنا نحن بتطبيق هذه البرامج. وسرعان ما انتقلت العدوى للآخرين وهكذا كتب لمشروعنا النجاح والازدهار. وعلى الأثر أخذت الحالة الاقتصادية تتحسن، والمصانع المحلية يزيد انتاجها، وبفضل مشروع العيش البسيط ارتفع مستوى المعيشة، وازداد مدخل البلاد.
ولمدة سنة من ذلك العهد ظل يعقوب يزورني وكان يحدثني عن الشؤون العائلية، والسياسة الدولية، وأحوال الحكومة، وعن المشاريع الجديدة التي أخذت بلادنا الناشئة تستهدف إليها. ولكون يعقوب قد تجول كثيرا، فإنه يعرف ما لنا من ثروة متجمدة وما لنا من ثروة مسجلة في الأطيان والعقار في شتى المقاطعات الباكستانية. ومرة قال لي: يا سيدة بلقيس! هل فكرت في بيع قسم من ممتلكاتك إذ ليس من المستحسن أن تجعلي كل ثروتك في الأراضي والممتلكات، ومن المستحسن أن تحصلي على نقود، فهذه السيولة في النقد ستكون نافعة لك لا سيما وان الزعيد بوتو يفكر بأجراء بعض الإصلاحات في توزيع الأراضي. وكانت خطوة جريئة من يعقوب أن يفكر في أموري، ويقدم لي هذه النصائح المفيدة. وخشيت علية من الانتقاد والملاحقة ن قبل الحكومة لتردده علي. فشكرته على زياراته وقلت له أنا مصممة على البقاء في بلادي. ولا قوة تستطيع أن تجبرني أن أترك موطني أو تجردني عن ممتلكاتي.
هكذا كانت بلقيس القديمة تبدو بروحها المتمردة وأفكارها المتصلبة، وسلوكها العنيد. وهذا الوضع لم يكن مستهجنا لدى يعقوب لأنه كان يعرفني معرفة جيدة. وقال لي عند ذاك: سيأتي يوم فيه تفكرين بترك هذه البلاد، وتذكري وعدي باستعدادي لمساعدتك دوما. وشكرته على وعده بالمساعدة وقلت له: إذا استدعت الشرورة لأن أطلب مساعدتك فتأكد يا صديقي بأني سأذكر وعدك الصادق هذا واستعدادك لمساعدتي. وسوف آتى لطلب العون منك والمشورة من لدنك.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وحلمت ريشام حلمًا وجاءت ترويه لي وهي تذرف الدموع وقالت: ربما تعذّر علي أن أرويه لك. أجبتها، وهي راكعة أمامي وأنا جالسة على الديوان في الغرفة، تكلمي وسأصغي لك باهتمام. قالت الخادمة: رأيت بعض الأشرار يفدون على هذا البيت ويلقون القبض عليك. وعلى الأثر صرخت اهربي يا سيدتي! وشاهدتك في منامي وأنت تركضين، وتتخلصين من هؤلاء المعتدين. وامتلأت عينا ريشام بالدموع، فأخذت اعزيها، وخلت نفسي وأنا أصغي إلى تفاصيل هذا الحلم وإلى الكلمات التي تقوهت بها ريشام أن هذا كان نذيرا لي من الله، ونصيحة يتوجب علي الأخذ بها لعمل الترتيبات لدرء الإخطار المتوقعة. وأخيرا قلت: لقد سمعت الكثير يا عزيزتي ريشام من الله عن إمكانية ضرورة التأهب لترك المكان والهرب من وجهه هذه الإخطار. وفي بادئ الأمر لم أكن أصدق ما تراءى لي لكني الآن بعد سماع حلمك الغريب هذا بدأت أفكر جديا في المسألة. وقلت في نفسي هل هذا ممكن أن يحدث لي؟ وهل أجبر أخيرا على ترك هذا الوطن ومباركة هذه الديار العزيزة علي قلبي؟! ولا شك أنه يترتب أن أقبل ما رتبه الله لي، وأستسلم لمشيئته الربانية!
وصمتت ريشام برهة وقد هدا روعها قليلا وقالت: ما أعجب الطريقة التي تعيشينها يا سيدتي إذ تسلمين أمورك لله وتضعين دفة حياتك في يديه، قلت لها: إنها الطريقة الوحيدة التي يمكن للمؤمن أن يتخذها. فكل شئ مرتب من قبل الله ولم يعد شئ تحت سيطرتي. ومع أني صدقت ما قالته ريشام وما تراءى لها في ذلك الحلم المريع، غير أنني لم أستطع السيطرة على عواطفي. وبدأت أفكر جديا في الهرب وأخذ الترتيبات اللازمة للفرار ومباركة هذه الديار.
وفي خريف عام 1971 دخلت على نورجان وهي منفعلة في عواطفها، وكانت قادمة لتمشط شعري كعادتها فسألتها: ماذا جرى يا نورجان ليجعلك مضطربة وخزينة. وللحال أخذت تبكي وتصرخ أنا لا أريد الأذى لك يا سيدتي! ثم أخذت تسرد لي ما سمعه أخوها في جامع البلدة في اليوم السابق إذ صرح بعض المتعصبين من المواطنين أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات ضدك، وقد نعتوك بالكافرة والمرتدة! وسألتها: هل صرح هؤلاء عن نوع الإجراء الذي سيتخذونه؟ قالت: لا، وأصبحت أخشى مما قالت نورجان: لا سيما وهذه البلاد قد تغيرت أوضاعها ولم تعد كما كانت عليه قبل خمس سنوات.
قلت في نفسي إن حلم ريشام المريع، وما سمعته نورجان عن حديث الشبان المتعصبين هي من سلسلة الإنذارات التي أخذت تمر عليّ في هذه الأيام. والأفضل أن نكون حريصين، ونتخذ الاحتياطات الضرورية لدرء هذه الإخطار عنا. وفعلا فأنه لم تمض أكثر من بضعة أسابيع حتى ترضت لبعض الفواجع الأليمة. إذ حدث في يوم من أيام خريف الجميلة، وكانت الرياح الموسمية قد هدأت، ولهيب الصيف قد انتهى أن قلت لأنزلن إلى الحديقة مع محمود لنمتع الإنظار في عمل الله في هذه الطبيعة الجميلة حولنا. كان الطقس مؤاتيا ولم تحصل أمور مفاجئة في البلاد. قلت نحن الآن في عام 1971 لا في عام 1571 حيث كان الحروب الدينية مشتعلة، ونحن نعيش في عصر جديد. عصر النور والحرية. وتناولت كتاب الله واصطحبت محمود معي للنزهة في الحديقة. وفي الوقت الذي وطئت فيه أقدامي أرض الحديقة شممت رائحة حريق لأغصان الصنوبر. وكان المعروف لدينا أنه لا يجوز لأحد أن يحرق شيئا من النفايات أو الأغصان الجافة جافة ممتلكاتي. وذهبت لأفتش عن البستاني، وما أن جئت خلف البيت حتى رأيت الخدام في رعب واضطراب. لقد شاهدت كومة كبيرة من أغصان الصنوبر موضوعة قرب باب البيت وقد أشعلت النار فيها، وكان اللهب قويا، والدخان متصاعدًا، وكادت النار أن تصل إلى أعلى البناية، وتصيب السقف، فصرخت للعمل على إطفاء تلك النار المشتعلة.
وهرع الخدام حاملين السطول التي كانوا يملأونها من ماء الغدير المنساب في الحديقة، وسلّط بعضها خراطيم الماء التي اعتدنا إن نسقي بها الأزهار وباقي النباتات. ثم أصطف الخدام صفا متراصا وهم يتناولون السطول الملأ بالماء. وخشيت أن تصل النار أخشاب السقف فتأتي عليها ويسقط البيت طعمة للنيران المتأججة. وأخذنا نقارع الزمن ونعمل بكل ما أوتينا من قوة لإطفاء تلك النار. واستغرقت عملية الإطفاء قرابة الساعة من الزمن. وفي النهاية استطعنا بهذه الجهود المتضامنة أن نسيطر على النار المشتعلة. ووقفنا حول النار مذهولين ومرعوبين، لأنه لو تركت النار بضع ساعات أخرى لكانت قد أتت على البيت وأحرقته. وحدجتني نورجان بنظرة خفية وكأن لسان حالها يقول: لقد نفذ الشبان المتعصبين ما ضمروه من شر لنا، وما اختطوه من ضرر لسيدة هذه الدار!
شكرت الله بأن لا شيئ خطير حدث. نعم لقد اسودت الجدران البيضاء من الدخان، ونالت أخشاب السقف شيئا من الاحتراق لكن لا شئ أخرى خطير قد حدث. وأخذت أحسب ألف حساب لو إن البيت قد احترق. وقلت أن دافعا من السماء هو الذي دفعني أن أنزل إلى الحديقة، في تلك الفترة الرهيبة من بداية الحريق. وبعد ساعة جاءت الشرطة لأجراء التحقيق وأخذ الإفادات، وتدوين ما حدث. وأما أنا فرجعت إلى غرفتي وفتحت كتابي المقدس لأرى إن كان لدى الله في كتابة العزيز شيئا خاصا يكلمني به على لسان أنبياءه فوقع نظري على ما هو مدون في سفر التكوين (22:19) إذ يقول: "اسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أعمل شيئا حتى تجئ إلى هناك". وقد تكون هذه إرادة الله لي أن أهرب من وجه الإخطار المحدقة بي. وقلت كل ما ابتغيه منك يا إلهي هو أن ترشدني إلى الطريق الذي يتحتم عليّ سلوكه، وهل تريدني حقا أن أترك البلاد! وهل ذلك الطريق صعب أم سهل؟ لقد أتجرد عن كل ما أملك، ولست أدري إن كان هذا التجرد سيشمل الصبي محمود؟!
وفي شهر مايو عام 1972, أي بعد مضي ستة أشهر من الحريق المفتعل في منزلي تكلم الله بحلم آخر. ولشد ما جاءت ريشام في أحد الأيام تقول: أرجوك يا سيدتي أن تتفقدي نقودك وتري إن كان صندوق النقود في أمان. وقد بدأ القلق يرتسم على محياها، وأشارت بيدها إلى الصندوق القوي الذي كنت أختزن فيه نقودي. أجبتها: ما الذي حملك على هذا السؤال فالصندوق في أمان تام. قالت: لقد حلمت الليلة الماضية أنك مسافرة، ومن عادتك أن تحملي الصندوق معك أن أوقفك بعض الأشرار وأخذوا الصندوق منك عنوة. وهنا بدأ الاضطراب على وجه ريشام فبادرت إلى تهدئة روعها، وقلت في نفسي: إن فقدان الإيمان ربما يقربني أكثر من إلهي، ويجعلني أعتمد بكليتي على أبي السماوي.
وسرعان ما شغل بالي حلم ريشام، وكانت قد ذهبت لمتابعة عملها أما أنا فبدأت أفكر في معنى الحلم، وهل هذا حلم نبوي يريد أن ينبئني إلى ما سيحدث في المستقبل؟ وهل معنى ذلك أن أموالي ستؤخذ، وأملاكي ستصادر مني؟ وهل أترك في هذه الدنيا بدون مال أو سند؟ وفعلا فإن تلك الأيام كانت أياما مريعة، والحكومة الجديدة تتخذ إجراءات جديدة. وتقوم بمصادرة الأراضي الواسعة التي يملكها بعض الإقطاعيين وكبار الملاكين.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفي شهر يوليو من ذلك العام قدم ولدي خالد من لاهور ليزورني فقلت: ما معنى هذه الزيارة المفاجئة؟ فالطقس حار، والحرارة لاهبة في الصيف، ولم يخبرني بأني سيجيء فهل من سبب طارئ؟ وللحال فاتحني خالد عن سبب مجيئه، إذ قال هناك إشاعة بأن الحكومة سوف تصادر كثيرا من الأملاك الشخصية. وعلى الأثر فكرت بما ذكره لي صديقي الموظف في الحكومة قبل سنة أي في عام 1971. وكأنه تنبأ عما سيحدث. وتابع خالد حديثه وقد أخذ يتكلم بصوت منخفض هادئ كيلا يثير أشجاني ويزعج عواطفي: إن الزعيم بوتو بدأ يصدر قوانين جديدة منها ما يتعلق بالأراضي وبمصادرة بعض ممتلكات أصحاب الأطيان الواسعة. وسألت ابني: ماذا تظن يا ولدي يجب أن أعمل؟ وهل تعتقد أنهم سيطاردون الكثير من ممتلكاتي؟ وللحال نهض خالد عن الكرسي الذي كان جالسا عليه، وأخذ ي يذرع أرض الغرفة ووقف قرب النافذة وهو مستغرق في تفكيره ثم التفت إليّ وقال: لا أحد يعرف ما سيحصل يا أماه! ولكن ربما كان الأحسن لك أن تبيعي بعضا من هذه الأملاك الشاسعة، وفي وسعك أن تقسمي الأطيان إلى قطع صغيرة تبيعينها إلى صغار الملاك. وبهذه الطريقة يكون المالك الجديد محميا من مصادرة الحكومة لأرضه. ففكرت في الرأي الذي قدمه خالد، وقلت ربما يكون هذا أحسن طريق نتبعه وأفضل سبيل نسلكه.
وعلى الأثر توجهنا لنتباحث في هذا الأمر مع ابنتي توني، وتم الاتفاق بيننا الثلاثة أن هذه أفضل طريقة نتبعها. وقررنا أن يعود خالد إلى لاهور، ويبدأ بأعداد أوراق تسجيل الأراضي، والاتصال ببعض العملاء الذين مهنتهم بيع الأراضي والممتلكات. وأخذنا اهبتنا للذهاب إلى لاهور توني وأنا، واصطحبنا محمود معنا خشية أن نتركه وحده في بلده واه. وعندما تركت حديقة منزلي بتّ مشدوهة ومضطربة إذ كيف أترك هذه البقعة الجميلة من الأرض، وكانت براعم الأشجار والأزهار تملأ الروض. وتدفق ماء الغدير بغزارة، وطربت لحفيف الأوراق، وصوت الماء الجاري ومنظر الطبيعة الساحر في تلك البقعة من الأرض العزيزة على قلبي، وقلت كيف أفرط بهذه الأملاك التي هي جزء من نفسي؟! وكنت قد أخبرت الموظفين بأننا سنعود إلى واه بعد بضعة أسابيع لذلك اطمأنت نفسي إلى فكرة العودة، وعدم فقدان هذا الفردوس الأرضي! وجاءت ريشام ونورجان ليودعاني، وقرأت في عيونهم ما وددن التحدث به عما سمعتاه وحلمتا به. وودعنني والدموع تسكب من على خدودهن وقالتا: الله معك يا سيدة!
لقد كانت لغة السكون أبلغ من لغة الكلام ساعة الوداع. وأحسست بشيء داخلي ينبئني بأني ربما لا أرى ريشام الخادمة الأمينة المخلصة مرة ثانية، وكنت قد ارتبطت بها برباط المحبة الوثيقة، وبالرغم من كونها خادمة إلا أنها كانت مخلصة وأمينة وقد تعودت على تمشيط شعري، وتهيئة ملابسي، ففقدانها خسارة كبيرة لي. ولم تستطع أن تراني أبرح واه ومنزلي ووطني، لذلك هي توارت عني، وحبست نفسها في مكان منفرد لتعبر فيه عن عواطفها المكبوتة بالبكاء والنحيب.
وقبل مبارحتي المنزل ذهبت لأغلق باب غرفة النوم، وكان السكون قد خيم عليها، وأشعة الشمس تغمرها، فتذكرت أنه في هذا الركن الأمين من البيت تعرفت على الله، وقرب نافذة غرفتي ظهرت لي الرؤيا السماوية. ففي هذه الأركان المقدسة من البيت، وفي تلك الجنبات عزيزة من الحديقة ظهر لي مجد الله عدة مرات، وهو الذي هداني إلى معرفة أبي السماوي. لقد تحدثت ذلك الأب إليّ مرات عديدة وأرشدني إلى الطريق القويم الذي يجب أن أسلكه في حياتي.
رد: أقدر أقوله يا بويا
نحن الآن في عام 1978، ويكون قد مضى عليّ في هذه البلاد سنة أعوام، وأنا أرى موطني يتلاشى في الضباب. لقد كانت معرفتي واضحة بأني لن أرى بلادي مرة ثانية. ولن أعود إليها بعد الأربعة أشهر المزعومة فقط. ولأسباب عديدة مددت تلك الزيارة التي كان مفروضا فيها أن لا تطول أكثر من أربعة أشهر. فأصدقائي في باكستان حذروني أنه من الأفضل لسلامتي أن أبقى في العالم الجديد. ومحمود الذي كان في التاسعة من عمرة قد بلغ الآن الخامسة عشر وأصبح في ريعان شبابه، واتخذت له في أميركا اسما جديدا حيث أصبح يعرف باسم داود. وخشية أن يختطف أرباب الشر هذا الصبي الناشي مني أثرت أنأ أظل بعيدة عن بلادي. وبعض المسؤولين في دولة باكستان من الذين يغارون على مصلحتي نصحوني بعدم العودة إلى البلاد. وقد سمعت عن قرارات المؤتمر الإسلامي العالمي الذي أنعقد عام 1976 ومن بعض هذه القرارات وجوب انسحاب الإرساليات المسيحية، وأغلاق المؤسسات التبشيرية ومحطات اذاعاتهم. ودلت أمثال هذه التطورات أنه ليس من المستحسن عودتي، وأن روجوعي إلى العالم القديم ليس مستحبا أو مستحسنا.
وعلاوة على ما ذكرت فقد أوضح الله لي بطرق مختلفة وبظهوره النوراني لي أن أبقى في أميركا، لأنهم يحتاجون إلى سماع شهادتي في الولايات المتحدة. وقد أرادني الرب أن أتكلم عن الأعباء التي تواجهها الكنائس وأنه لا بد من فصل الخراف عن الجداء. وإن الدينونة باتت وشيكة. وقلت هذه إرادة الأب السماوي لي. لكن من أنا لأقوم بهذه المهمة الخطرة؟! فليست وظيفتي أن أخبر الآخرين عن نقائصهم، لا سيما وأنني زائرة لهذه البلاد الراقية، وأنا من المسيحيين المستجدين، فمن أنا لأعظ وأرشد أولئك الراسخين في إيمانهم، والعريقيين في مسيحيتهم؟! فرجوت الله مرارا أن يدلني لماذا أرادني أن أعمل كل هذا؟!
وكان جواب الله على سؤالي أن تطلع إلي بعينين حزينتين تنم عن اهتمامه بحالة الكنائس والنفوس، وأحياء الحياة الروحية في الإنسان العصري. وعلى الأثر جثوت على ركبتي ووعدت ربي أن أطيع أوامره وأنفذ إرادته. بيد أنني لكوني إنسانا ضعيفا بقيت مترددة. وأخذت أسائل نفسي: أحقيقة هذه الدعوة موجهة لي من الله أبي السماوي؟! وقلت ما دمت يا إلهي قد حملتني بالروح إلى قربك فلا شئ في العالم سيقف في طريقي أو أية صعوبة ستعترض سبيلي. فسأعمل جهدي في نشر الأخبار السارة عن المسيح، وسأظل تلميذة وفية لذلك السيد العظيم. وتحقيقا لآمالي عندما لامس رأسي الوسادة ذات ليلة، إذا بي أنقل بالروح ورأيت ضوءًا عظيما يغمرني، فقلت هذه مسحة الروح من ربي وإلهي. وكان نداؤه لي واضحا وجليًا، إذ أمرني أن أمجد اسمه، وأن أتحدث عن رحمته ومحبته لأعضاء الكنائس، وللجماعات الأخرى في كل مكان، وأن أؤدي شهادتي المسيحية بوضوح للإنسان الحديث العائش في أرقى دولة من بلاد العالم.
ولشدّ ما تحققت جميع الرؤى التي تراءت لي في الماضي وفي بلادي, باكستان ، وتمت هذه الأمور التي تمثلت أمام نواظري للمستقبل. وفي الولايات المتحدة شاهدت الحياة الحقيقة للشعب الأمريكي وكيف يعيش في بلاده، وكيف يتعبد في الكنائس. وكل ما تراءى لي من أحلام وروى قد تحقق، وكان هذا تأكيدا لإرشادات الأب السماوي لي. وربما كان أكبر تأكيد لي ما سمعته من زوجة الفس هرلد ولد، وهي مع زوجها ترعى كنيسة المنارة للإرسالية في بورتلند أورغون. فقد كتبت تلك السيدة متحدثة عن رؤيا حصلت لها قبل عشر سنوات وهو يواكب التاريخ الذي ظهر