--------------------------------------------------------------------------------
وبعد هذا الحلم أخذت أطالع القرآن الكريم والكتاب المقدس طوال ثلاثة أيام متنقلة من كتاب إلى آخر. وكنت أقرأ القرآن كواجب، وكتقليد متوارث، في حين أن إقبالي على مطالعة الكتاب المقدس كان تلمسًا للحياة الجديدة التي كنت انشدها والتي بدأت اكتشف معالمها. وعندما كنت أفتح ذلك الكتاب كنت أشعر بإحساس من الذنب بعتريني، وربما كان ذلك ناشئا عن تربيتي الخاصة ونشأتي الأولى. وكانت العادة المتبعة أن يوافق والدي أثناء صغري على الكتاب الذي أرغب في مطالعته. وظل هذا جاريا حتى غدوت راشدة. وأذكر كيف أنني وأخي هرّبنا مرة كتابا إلى غرفتنا للمطالعة مع أنه كان كتابًا كله طهارة وبراءة، وكان ذلك عملا شاذا منا. والآن عندما أفتح الكتاب المقدس لا طالعه أشعر أنني أقدم بعمل غير مستقيم إذ أعصي أوامر والدي.
كانت غايتي معرفة من كان المعمدان الذي ترائ لي في الحلم. ولدي مطالعتي جذبت نظري قصة الزانية التي جلبها قادة اليهود إلى يسوع. وارتجفت لأني خشيت العقاب الصارم الذي سيفرضه عليها. والقوانين الإلهية في الشرق لا تختلف كثيرًا عن القوانين المتبعة في الباكستان. إذ يعاقب المجتمع الزانيات بأقسى العقوبات. وقرأت قصة هذه الزانية بلهفة وتصورتها وهي تقف أمام يسوع، ولا بد من أن أقاربها كانوا يتأهبون لرجمها بالحجارة وهم بإنتظار الحكم الذي سيصدره يسوع عليها، لكن النبي قال للحاضرين: كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر (يوحنا 7:8).
وتصورت عند ذاك كيف أن الرجل تفرقوا ذات اليمين وذات اليسار، لأن المسيح أنبّر على الفكرة أن الذي كان بينهم بلا خطية فليبادر إلى رجمها بالحجارة. ومعنى هذا أننا كلنا مذنبون ولا أحد منا بلا خطية, ووقع الكتاب من يدي وأنا منغمسة في تفكيري، ومتأملة في جواب المسيح لقادة الشعب. ويبدو أن في جواب النبي هذا تحديا صارخًا لمن يدعون أنهم قادة الشعب الروحانيين!
وحدث أنه بعد ثلاثة أيام حلمت حلمًا آخر. وخلاصته أنني وأنا غرفتي إذا بالجارية تعلن عن قدوم رجل يبيع الروائح والعطورات وأنه يرغب في مقابلتي إذ لدية أصناف من العطورات تليق بسيدة هذا المنزل العظيم. وكان قد حدث نقص في العطورات في الباكستان عند ذاك، وخشيت أن ينضب ما لدي من مخزون من هذه المادة الكمالية للتجميل. وكان الباعة يقصدون البيوت وهم يحملون الحقائب على ظهورهم، ويبيعون ربات البيوت كميات من العطور مما يحملون. فنهضت عن الديوان الذي كنت جالسة عليه وذهبت لمقابلة ذلك البائع، وكلي فرح وحبور. وشاهدت رجلا يلبس سترة سوداء ويحمل حقيبة كبيرة على ظهره. وعندما فتح الحقيبة تناول قارورة ذهبية وأزال غطاءها وأعطاني إياها لاشمها. وكان العطر الذي فيها يبرق كالبلور، والرائحة الطيبة تفوح منها. ولما حاولت لمسها أخذ القارورة من يدي ووضعها على المائدة قرب فراشي. وقال: سوف ينتشر عبير هذه القارورة ويملأ الأجواء. ورائحتها الطيبة ستملأ الدنيا كلها.
وعندما أفقت في الصباح كان الحلم ما يزال حيّا في مخيلتي. وتدفقت أشعة الشمس الذهبية على نافذتي فغمرت الغرفة بالضياء؟ وأنتشر عبير الأزهار، ورائحة الأشجار فملأت جنبات الغرفة برائحة ذكية. وعندما جلست إلى المائدة وجدت عوضا عن القارورة الكتاب المقدس موضوعا هناك. وكأنه برائحته الطيبة ينتشر في العالم أجمع، وسيعم المسكونة كلها.
وجلست هنيهة أفكر في هذا الحلم الغريب، وفي الحلم الأخر الذي سبق أن حلمته. والغريب أنه لمدة سنوات عديدة لم أكن لأحلم أبدًا. والآن في ليلة واحدة خطيت بحلمين. وقلت: هل ثمة علاقة بين الحلمين؟! وهل لهذين الحلمين صلة بالحقائق الفائقة للبيعة التي أخذت تتراء لي وتشغل تفكيري مؤخرًا؟!
وقمت بعد ظهر ذلك اليوم بجولتي المعتادة في أطراف الحديقة، وكنت ما زلت مذهولة من أمر هذين الحلمين الغريبين. ولكني شعرت بأن سلامًا قلبيًا أخذ يغمر كياني مما لم يكن لي به عهد في الماضي. أجل شعرت أنني في حضرة الله. وابتعدت عن أشجار الحديقة ووقفت في بقعة خالية منها وإذا الهواء حولي يحمل لي رائحة ذكية أنه لم يكن عبير الأزهار ولا رائحة الأشجار، بل عبيرًا من نوع إسمي وأشمل. أنه كان عبير روح الله النابع من السماء!
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
مسيحيتنا فوق الزمان
رد: أقدر أقوله يا بويا
بقيت محتارة ومنذهلة فترة من الزمن، وأنا أفكر في هذا العبير الذكي الشامل الذي غمرني. وقلت في نفسي: ماذا جرى يا ترى؟! ليس هذا ميعاد تفتح الأزهار أو تورق الأشجار، لأن الفصل خريف. فلا بد وأن يكون اختبارًا روحيًا جديدًا أخذ يفد علي كما وفد على ذلك الاختبار الغريب في السابق. وأردت شخصًا أفضي له بهذا الأمور التي استغلق فهمها علي. وقلت لا بد لي من شخص مطلع على الكتاب المقدس يرشدني. فمن أقصد يا ترى؟ أأقصد المعرفة من أحد الخدام المسيحيين، وهذا ليس معقولا، لأنهم هم بدورهم لا يقرأون أو يكتبون، ولا يعرفون هذه الأمور التي أريد التحدث عنها. والأفضل لي أن أتصل بهم هو ضليع بمواد الكتاب المقدس ويكون متعلمًا وخبيرًا في أمور الدين.
وعلى الفور طرقت أفكاري فكرة جديدة. وحاولت في بادئ الأمر طردها من ذهني لكنني لم أستطع، لأني قلت أن هذا أحسن مصدر أستقي منه المعلومات الصحيحة عما تراء لي من أحداث غريبة تتعلق بالكتاب المقدس. وناديت منصورًا وقلت له هي السيارة واتركني أسوقها لوحدي. فقال متعجبًا: لوحدك! قلت: نعم. فذهل من هذا الأمر وتركني مكرهًا. ومن النادر أنني سقت السيارة في مثل ذلك الوقت المتأخر من المساء. ورغم أنني كنت ضابطة في الجيش الهندي الملكي لقسم النساء في الحرب العالمية الثانية، وكثيرًا ما سقت سيارات الإسعاف وسيارة الموظفين آلاف الأميال، لكن ذلك كان زمن الحرب، وفي أيام الحرب يعمل الإنسان أمورًا صعبة يتعذر عليه القيام بها أيام السلم. ولا يتوقع من النساء النبيلات في الباكستان أن يسقن سيارات في الأيام الاعتيادية لا سيما في الليل.
بيد أنني لم أشأ أن يعرف منصور ماذا أنوي أن أعمل خشية أن يشيع خبر ذهابي لبيت المرسلين لاستشارتهما في الأمر، وتسبب عن ذلك الكثير من القيل والقال. وكنت قد اقتنعت في أعماق نفسي أن أحسن مورد استسقي منه المعلومات عن هذه الأمور التي تراءت لي في أحلامي، ولها علاقة بالكتاب المقدس هما القس ميتشل وزوجته. وكانا قد زارًا حديقتي في الصيف للتفرج عليها بصحبة منصور سائق سيارتي.
أجل رغبت في الحصول على جواب بسؤالاتي: من هو يوحنا المعمدان؟ وما هذا العبير الذي يفوح حولي، والرائحة الذكية التي غمرتني وأنا أتجول في جنبات حديقتي؟! وما سر هذه الإختبارات الروحية التي أخذت تفتح أفاقًا جديدة أمام حياتي؟! وهكذا قصدت بيت هذا المرسل وزوجته، مع أنني لم أعرف الكثير عنهما سوى زيارتهما في الصيف لحديقتي. وكان أخر ما يتوقع الناس رؤيته أن أكون برفقة مرسلين مسيحيين وأنا بلقيس الشيخ من سلالة أولئك الحاكمين في الباكستان، وممن عرف عنهم أنهم من المسلمين الغيورين على دين الإسلام!
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
مسيحيتنا فوق الزمان
رد: أقدر أقوله يا بويا
كانت سيارة المرسيدس خاصتي تنتظرني عند مخرج الدار. وقد وقف منصور قريبًا من بابها الذي أغلقه ليحتفظ بالدفء داخلها، لا سيما وأننا كنا في فصل الخريف، وكانت الأمسية باردة. وتطلع إلي باستفسار للتأكد من قراري بالذهاب بالسيارة بدونه. بيد أنني كنت مصممة أن أذهب لوحدي، فدخلتها وجلست قرب المقود وسقتها وسط نور الغسق الخافت، جاعلة الكتاب المقدس على المقعد بالقرب مني.
في قرية واه يعرف الواحد أين يسكن الأخر، ذلك لأن القرية صغيرة والناس يعرفون بعضهم البعض جيدًا. وعرفت أن بيت المرسل ميتشل كان يقع قرب معمل للإسمنت في ضواحي القرية. وكانت عائلتنا تستفيد من مدخل ذلك المعمل، وهذا المعمل كان يخدم المجتمع، وبالأخص الذين عاشوا على بعد خمسة أميال عن المدينة. وكانت بيوت تلك السكنة قد بنيت ليستخدمها أفراد الجيش البريطاني إثناء الحرب العالمية الثانية. ومع مرور الزمن تغير لونها وقدمت أبوابها، وتساقطت أجزاء من سقوفها فكنت ترى العطب قد بدأ يغشاها، وبانت الثقوب فيها. وأمتلأ قلبي بمزيج من اللهغة والخوف وأنا أقترب من البيت الذي كنت أقصده. وأنا لم أزر بيت مرسل مسيحي من قبل، وخفت أن يشع الخبر في القرية، ويكثر القيل والقال حول تلك الزيارة. غير أنني في الوقت ذاته كنت متلهفة لأن أعرف من هو يوحنا المعمدان، وتواقة لأجد تفسيرًا لأحلامي الغريبة، ومعنى لذلك الاختبار العجيب الذي حصل لي. وفي الوقت ذاته خشيت أن يؤثر المرسل عليّ عند محاولته الإجابة على أسئلتي.
وقلت لنفسي: ماذا يقول أفراد عائلتي عني عندما تصلهم أخبار زيارتي لبيت المرسل المسيحي هذا؟ وتذكرت أقوال جدي، وكان قد رافق القائد البريطاني نيكلسون عندما اجتاز ممر خيبر في إحدى حروبه مع أفغانستان. أنه كان يكره الاحتكاك بالمرسلين لأنهم في عقيدته يشترون ضمائر الناس بالمال. وكان أفراد عائلتنا يقرنون المرسلين بالفقراء والمنبوذين، وليس بالعائلات العريقة، وبالإشراف من علياء القوم. وفكرت بأن تلك الزيارة ربما تجلب العار لعائلتي. وتصورت نفسي أتحاجج مع عمي أو عمتي وأدافع عن نفسي بتقديم حجة الأحلام التي حلمتها والاختبار الغريب الذي حل بي سببًا لأغير ديني. على كل كنت مقررة أن أعرف معنى أحلامي الغريبة وأتزود بمعلومات أوفى عن يوحنا المعمدان، لذلك صممت القيام بتلك المقابلة والزيارة لبيت المرسل ميتشل.
كانت البيوت تتشابه كثيرًا في ذلك الحي السكني. وبعد التفتيش في الأزقة الضيقة عثرت على بيت هذا المرسل قرب معمل الأسمنت فأوقفت سيارتي على بعد مسافة من البيت خشية أن يراها أحد من سكان قرية واه واقفة أمام منزل مرسل مسيحي. وكانت هذه احتياطات اتخذتها خشية شيوع خبر زيارتي هذه عند أفراد عائلتنا. وأخيرًا قرعت الباب ودخلت حاملة الكتاب المقدس بيدي. وبدت ساحة الدار نظيفة وأنيقة. وكان المرسلون يحفظون بيوتهم بشكل مرتب ونظيف.
وفجأة فُتح الباب وخرجت جماعة من نساء القرية كنّ يرتدين اللباس الوطني الباكستاني، وقد حضرن اجتماعا مع زوجة القس ميتشل. وكان في وسعهم معرفتي لأن لا أحد لا يعرف الأخر في تلك القرية. ومن المؤكد أن النساء شاهدنني ساعة خروجهم من غرفة الاجتماع وخشيت أن تشتغل ألسنتهم بالقيل والقال عن زيارتي لبيت المرسل المسيحي. ولما مررت بالقرب مني لمست كل واحدة جبهتها بإصبعها كما جرت العادة في تبادل التحايات في الباكستان.
: 9,332
رد: أقدر أقوله يا بويا
وقصدت زيارة القس ميتشل، فلم أجده بل استقبلتني زوجته التي كانت قد أنهت اجتماعها الديني مع النساء، وأخذت تشيعهم إلى الخارج وسط الظلام. وبعد أن خلا المكان اقتربت تلك السيدة مني ورحبت بي. وهي سيدة نحيفة وأنيقة، وكنت قد شاهدتها مرة في المدينة. أما الآن فلم أتميّزها تماما، لأنها أخذت تلبس الملابس الباكستانية، والزي الهندي. لكنها عرفتني ورحبت بي ورددت القول: أهلا وسهلا بالسيدة بلقيس.
اطمأنت نفسي لما دخلت البيت وتواريت عن عيون النساء. وجلسنا في غرفة الاستقبال المؤثثة بأثاث بسيط وأنيق. وظلت زوجة المرسل واقفة مقابلي بينما أجلستني على كرسي مريح. وكانت الكراسي في غرفة الاجتماع مرتبة بشكل دائرة، وقد أخبرتني أنه كان هناك اجتماع للنساء المحليات. وقالت: لا بد من فنجان شاي قبل كل شئ. قلت: جئت لأسأل القس ميتشل سؤالا. أجابت: إن زوجي ذهب في رحلة إلى أفغانستان. ولما كانت السيدة في مقتبل العمر ظننت أنها لا تستطيع الإجابة على سؤالي. لكني تجرأت وقلت لها: أتعرفين شيئا عن الله يا سيدتي؟
وعلى الأثر جلست زوجة المرسل على كرسي وتطلعت إليّ باستغراب. وكان الهدوء بخيم على جو الغرفة، ولم يسمع فيها صوت سوى صوت احتراق الحطب في الموقد. وبعد فترة قصيرة أجابت: أخشى أنني لا أعرف الكثير عن الله لكنني أعرفه شخصيا. وكان هذا تصريحا جريئا ومفاجئا. فهي لا تعرف الكثير عن الله لكنها من ناحية ثانية قد عرفته شخصيا، والله يسيطر على مجريات حياتها.
وزادت ثقتي بالله لدي سماع اعترافها، بسيطرة الله على مجرى حياتها وزاد يقينها بالله الحي يقيني. وبدون توقف أو تريث قلت سأطلعك على بعض من أحلامي التي أخذت أحلم بها مؤخرًا. فقد حظيت بالحلم بزيارة يسوع إلى منزلي. وبعد ذلك حضر يوحنا المعمدان. وجئت لأخذ معلومات أوفي عن المعمدان. ثم أخبرتها عن الاختبار الغريب الذي حصل لي. وعن ذلك التهيج الذي ألم بي إذ شعرت أنني أقف على قمة جبل وعلى مفترق طريق، وأمام باب وأسع للحياة.
وأضفت أنني سمعت عن يسوع عن طريق القرآن الكريم لكن من هو يوحنا المعمدان؟! وحدقت السيدة ميتشل فيّ، وكأنها تريد أن تمتحني لتعرف أنني صادقة في عدم معرفة شئ عن يوحنا المعمدان. ثم أردفت قائلة: ان المعمدان كرز بمغفرة الخطايا وهو مرسل من الله ليعد الطريق للمسيح. وهو الذي قال عن المسيح: هذا حمل الله الرافع خطايا العالم. وهو الذي عمّد المسيح في نهر الأردن.
وأسرعت دقات قلبي عندما ذكرت كلمة معمودية. وكنت أعرف القليل عن المسيحيين لكن المسلمين يسمعون كثيرًا عن الحفلات الغريبة التي يحتفل بها المسيحيون عند معمودية أحد منهم. وتذكرت أنه كثيرًا ما عقب معمودية أحد المهتدين من الإسلام إلى المسيحية بالقتل. والغريب أن مثل هذا كان يحدث تحت حكم الإنكليز مع أنه كان مفروضًا وجوب توفر الحرية الدينية للجميع. ومنذ صغري وأنا أقول تعمد مسلمًا ومات مسلمًا. وتابعت حديثي بقولي: يا سيدة لا انسي بأني مسلمة ورجائي أن تخبريني عما عنيت بالقول أنك تعرفين الله شخصيًا أكثر مما أنت تعرفين عنه.
أجابت: أنا أعرف المسيح وهو ابن الله المتجسد الذي جاء إلى عالمنا بشكل إنسان عن الله خالقة. انه قبل أن يموت على الصليب فداء عن خطايا البشر. فقد جاء إلى عالمنا بشكل إنسان فهو الإله المتجسد وعن طريقه نحن نعرف الله معرفة شخصية.
08-19-2010, 07:08 PM #15 صوت صارخ
رد: أقدر أقوله يا بويا
وبعد هذا رانت فترة من السكون على جو الغرفة، ولم نكن لنسمع سوى صوت سيارات الشحن وهي تمر بالقرب من المنزل. وقاطعت السكون بقولي، وكانت السيدة ميتشل أذانا صاغية متلهفة لسماع أقوالي. فقلت بعد أن التقطت أنفاسي: لقد حدثت أمور غريبة لي وأنا في حديقة منزلي مؤخرًا. ثم تراءت لي أحلام محيرة لم أجد لها تفسيرًا. وهذه الأحداث سواء أكانت حلوة أم مرة هي من عالم الروح. وإني أشعر أن نفسي في حوامة من الماء الجاري حولي، أو وسط حرب روحية. وها أنا في حاجة إلى كل مساعدة إيجابية. فهل ترغبين أن تصلي من أجلي؟!
ودهشت السيدة ميتشل من هذا الطلب الذي لم تكن تتوقعه وقالت: كيف تريدين أن نصلي؟ أنصلي ونحن واقفات أم راكعات أم جالسات؟! وهذه الأشكال من الصلاة لم يكن للسيدة بلقيس عهد بها لأنها كمسلمة كانت تصلي على الطريقة الإسلامية المعروفة. وما هي لحظات حتى كانت السيدة ميتشل تخر ساجدة على أرض الغرفة، وما كان مني إلا أن تبعتها وركعت مثلها.
ورفعت إلى الله صلاة مؤثرة، وكان صوتها ناعمًا. وسمعتها تقول: إن لا شئ مما أقوله يمكن إقناع السيدة بلقيس من هو يسوع. لكن شكرًا لله الذي يرفع القناع عن قلوبنا، والغشاء عن عيوننا، فنرى يسوع حمل الله الرافع خطايا العالم أمامنا. فيا روح قدس الله اغمر قلب هذه السيدة بروحك المشرق المنير لترى الله وتعرفه عن طريق يسوع المسيح، مخلص العالم وفادي الأنام. آمين.
وبقيت وإياها راكعتين حتى خلت أنه مرّ دهر من الزمان علينا. وقد ارتاح قلبي لتلك السكينة التي غمرته، وشعرت في أعماق نفسي بانفراج وطمأنينة وبالفعل فق كنت في حاجة إلى مثل هذه السكينة وذلك الهدوء. وعندما نهضنا قالت السيدة ميتشل: هل الكتاب الذي تمسكينه بيمينك هو كتاب مقدس؟ وكنت أحمل الكتاب ومقربة إياه من صدري. فأجبتها بالإيجاب. عادت فسألت: هل وجدته سهل الفهم؟
أجبت: ليس تمامًا لأن الترجمة التي لدي قديمة وأنا لست معتادة عليه. وللحال توجهت إلى الغرفة المجاورة وجلبت لي كتابًا آخر وقالت: هذا عهد جديد مترجم بلغة إنكليزية حديثة. وهذه الترجمة تعرف بترجمة فيلبس اشتهرت ببساطتها وسهولة فهمها. ونصحتني أن أبدًا بقراءة إنجيل يوحنا، ووضعت في الإنجيل علامة من ورقة خاصة لتكون دليلًا. وقالت إن كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا تلميذ المسيح، وهو يوضح لك أكثر ما تريدين معرفته عن يوحنا المعمدان وعن مكانته كممهد للطريق أمام المسيح.
فشكرتها وقلت: لا بد وإن أكون قد أخذت الكثير من وقتل الثمين. وعندما تأهبت لأن أترك المكان قالت: جميل أن يكون حلم قد قادك إليّ. والله كثيرًا ما يتكلم لإتباعه ونبيه عن طريق الرؤى والأحلام. وفيما هي تساعدني بلبس معطفي تحيرت إذا كان من المناسب أن أطلعها عن حلمي الثاني المتعلق ببائع العطور، وقارورة الطيب وبرائحتها الذكية التي كانت حولي. وأخيرًا تجرأت وقلت: أتظنين يا سيدة ميتشل أن هناك علامة بين الرائحة الذكية وقارورة العطور التي تراءت لي في حلمي الآخر وبين يسوع ورائحته الذكية؟!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفكرت قليلًا وهي تضع يدها على مزلاج الباب وقالت: لا أستطيع الآن أن أجد هذه العلامة لكن دعيني أصلي عساني أجدها فيما بعد. وفيما أنا أسوق سيارتي وفي طريق عودتي للمنزل شعرت مرة ثانية بالرائحة العطرة التي تغمرني، وكان ما شعرت به الآن مشابها الاختبار الذي حصل لي في الحديقة حيث غمرتني نفحات من رائحة عطرة أدركت أنها منبعثة من تلك القارورة التي تراءت لي في الحلم.
ولما عدت إلى البيت قرأت ما أوصتني به السيدة ميتشل ذلك الفصل من إنجيل يوحنا حيث يتكلم البشير عن يوحنا المعمدان. وكان المعمدان رجل جريئا وقد عاش في البرية، وكان يرتدي لباسًا مصنوعًا من وبر الإبل، ويتغذى على العسل، ويجوب ذلك القفر المجاور لنهر الأردن داعيًا الناس إلى التوبة وممهدًا الطريق لمجيء المسيح. وكان صوته يدوي في تلك البرية: توبوا لقد اقترب ملكوت الله.
وجلست على الديوان في غرفتي، ومرت في خاطري ذكريات سبعة قرون عاشها أفراد عائلتنا. وكيف أستطيع التخلص من التقاليد، وإذا كان المعمدان علامة من الله بعثه للناس هاديا ومنبها وداعيا للمسيح الذي هو ابن الله المتجسد، فلماذا لا يكون ذلك الرجل ليدعوني أنا أيضا لاستقبال يسوع وقبوله مخلص؟! وكانت هذه فركة جريئة لم ترق لي عند ذاك فأثرت أن أنبذها من تفكيري وأظل محافظة على التعاليم التي توارثتها أبا عن جد. فاستسلمت للكرى علّ النوم يحل أزمات اضطرابي، ويهديني إلى الطريق السوي الذي يتحتم عليّ سلوكه.
ونمت تلك الليلة نوما هادئًا تخللته بعض الأحلام المنعشة. وفي الصباح أفقت على صوت المؤذن، وهو يدعو إلى الصلاة وكنت قد استعدت سكينة نفس وصفاء أفكاري. أعلن المؤذن للملأ طريق الحق، فقلت: هنا السراط المستقيم، وحمدت الله أنني ابتعدت عن تأثير المسيحيين الذين يحاولن التأثير على أفكاري وزعزعة أركان إيماني. فأنا مؤمنة بالله وهذا يكفي لخلاصي ولحصولي على الراحة والاطمئنان.
وفجأة حضرت ريشام ولم تكن لتجلب الشاي كعادتها بل حملت لي رسالة قالت إنها وردت الآن من السيدة ميتشل. وكل ما قالته الرسالة: أقرأي يا سيدتي العدد 14 من الإصحاح الثاني من رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس. فتناولت العهد الجديد الذي كانت قد أعطتني إياه السيدة ميتشل وبعد أن فتحت الإصحاح والآية، قرأت ما يلي: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين. ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان".
جلست في فراشي وأعدت قراءة هذه الآيات الثمينة، وكان كياني قد بدأ يتهدم، لكن معرفة يسوع انتشرت مثل العبير والرائحة الطيبة فأنعشت نفسي. وتذكرت أنه في الحلم وضع البائع قارورة العطور على المائدة قرب فراشي. وكانت كلماته أن عبير هذه القارورة سينتشر حتى يملأ أرجاء العالم. والغريب أنه في اليوم الثاني من الحلم وجدت الكتاب المقدس موضوعا في المحل الذي تصورت فيه أنه مكان قارورة الطيب. وهكذا أتضح لي أن كلمة الله ستنتشر في كل أرجاء العالم، وأن رائحتها الطيبة ستشمل الجميع. هكذا تفسّر هذا الحلم من تلقاء نفسه ولم أدعه يشغل بالي.
وكان من المناسب أن أتناول الشاي كعادتي، لأن هذا الشراب سيعيد الحياة إلى بؤرتها اللائقة بها سريعا، وتمنيت إلا يعتور ذلك السبيل شئ يعكر مزاجي أو أمور ثانية تتلف إطار حياتي السعيد. وكانت السيدة ميتشل قد دعتني أن أزورهم مرة ثانية في البيت، إلا أنني أثرت عدم القيام بتلك الزيارة في ذلك الوقت، ووجدت أن الطريق الصحيح والمنطقي هو أن أبحث بنفسي عن هذه القضايا الروحية من طيات الكتاب المقدس الذي كان بحوزتي.
وبعد هذا بأيام، هرعت نورجان إلى غرفتي، ونظرات غريبة تعلو محياها. وقالت بلهفة وارتباك: لقد حضر القس ميتشل وزوجته لزيارتك وهما يرغبان بالاجتماع بك. وأمسكت أنفاسي هنيهة من الزمن وقلت في نفسي: ما الداعي لزيارة هذا المرسل وزوجته لي؟ ولأهدئ من اضطرابي قلت للجارية أن تدخلها إلى غرفة الإستقبال. ولم أكن لأجتمع بالقس ميتشل من قبل، فتأثرت من شخصيته التي دلت عليها عيناه الحادتان، وقامته العارمة. ولمست فيه نفس الدفء الذي لمسته عند زيارتي لزوجته في بيتهما. وصرح الإثناء أنهما سعيدان لرؤيتي، ولإتاحة الفرصة لهما للأجتماع بي. ويعتبرانها فرصة سعيدة أن تسمح لهما بزيارتهما في بيتها العامر.
واقتربت السيدة ميتشل مني وهزت يدها بيدي، ثم وضعت ذراعها حول عنقي وعانقتني. ولم يكن أحد من أفراد عائلتنا ليتجاسر أن يعانقني بمثل هذا الشكل المحب. وقد شعرت بأنه لا يوجد أي تصنع في معانقتها هذه، ومع أنني استغربت هذا اللقاء في البداية إلا أنني الآن شعرت براحة واطمئنان. وحياني القس ميتشل بلهجته الأمريكية وقال: أنا سعيد بأن ألتقي بسيدة الزهور.
رد: أقدر أقوله يا بويا
قالت السيدة ميتشل: على أثر زيارتك لي أبرقت لزوجي عن زيارتك الميمونة لي. ومنذ زرنا حديقتك ونحن نتوق لزيارتك في منزلك. فلقد أعجبنا تنظيم حديقتك، وبالأزهار الجميلة التي ملأت جنباتها وأحواضها، ومنذ ذلك الوقت أي من الربيع الماضي ونحن نرغب في زيارتك شخصيا. وعندما أبرقت لزوجي عنك لم أشأ أن أستعمل إسمك الخقيقي لأبعد عنك القيل والقال. ولما اخترت بما أدعوك به تطلعت إلى الزهور الجميلة التي أينعت في المزهرية التي تملأ نافذة غرفتي، وكان البستان قد أعطاني بعض البذور من أزهار بستانك فقلت: إن أحسن ما أدعوك به هو سيدة الأزهار. وهذا هو الإسم المستعار الذي اتفقت مع زوجي أن ندعوك به. فضحكت وقلت: يكفي أن تدعوانني بلقيس.
كنت أتوقع أن يضغط المرسل على لاعتنق الدين المسيحي، وأن يحاول اقناعي بمزايا المسيحية وبضرورة اعتناقها، لكن شيئا من مثل ذلك لم يحدث. وهكذا كانت الزيارة موفقة، شربنا فيها الشاي، وتبادلنا الأحداث. وإثناء محادثنا العائلية سألت القس عن السر في تسمية المسيح بابن الله لأن المسلمين يعتبرون هذا نوعا من الشرك، لأن القرآن الكريم في أماكن عديدة يصرح أن الله لم يكن له أولاد، وإشراك ابن الله مع الروح القدس مع الله يخلق فكرة للثالوث، ويجعل الله ثلاثة أشخاص. وهذا يخالف تعاليم القرآن الكريم التي تدعو إلى الوحدانية وتنص بصراحة أن الله واحد لا شريك له.
وأوشح القس ميتشل في جوابه عن فكرة الثالوث بقوله: لنعتبر الله الشمس، لكن هذه الشمس تظهر بمظاهر ثلاثة. فهي نور وحرارة وإشعاع. وهذه الآفة الثلاثية تكوّن الشمس الواحدة. ولم نشأ التوسع في مثل هذه الأحاديث الجدلية، ولم يطل بنا المقام حتى تركني الضيفان. وبقيت لوحدي وليس لي ثمة رفيق أو أنيس سوى هذين الكتابين: القرآن والكريم والكتاب المقدس.
أخذت أطالع هذين الكتابين بلهفة شديدة. وحاولت أن أدرس القرآن الكريم دراسة مستفيضة، لأن الكتاب الذي يوضح لي أركان ديني، ولإيماني به ككتاب منزل من عند الله، وللولاء الذي توارثته عن آبائي وأجدادي لهذا الكتاب السماوي. كان هو الكتاب المفضل وفي الوقت نفسه رغبت في مطالعة الكتاب المقدس لأروي جوعا روحيا أخذ يستحوذ علىّ. وفي كثير من الأوقات كنت ألقي الكتاب المقدس جانبا لعدم فهمي لآياته، ولأني أدركت أن هناك فيه بعض الاختلافات عما ورد في القرآن الكريم.
وهكذا قضيت أسبوعا كاملا وأنا مكبة على مطالعة هذين الكتابين السماويين. أجل لقد عشت في عالم مغمور بالجمال الآسن، وحظيت ببستان روحي خلق لي وعيي الجديد في عالم الروحانيات. مهّد لكل ذلك الحلمان الغريبان اللذان تراءيا لي في منامي، والحضور الغريب لله الذي مسّ حياتي وتراء لي بشخصه وأنا أسير في حديقة منزلي.
وانتابتني موجة عارمة من التلهف الداخلي لزيارة السيدة ميتشل والاستفسار عن بعض تلك الاختبارات الروحية، وتلك الأمور الغريبة التي شعرت بها. وتأكدت في الأيام التالية أن هناك طريقا معبدا أمامي للارتواء من عالم الجمال الذي خلقته لنفسي. وأتضح لي بأن قراءتي للكتاب المقدس ومطالعته ودراسته هي السبيل الأمثل للارتواء من ذلك الجمال الآسن، وهو الطريق الوحيد لولوج عالم الخير والجمال. وعالم الروح الآسنى.
وفي أحد الأيام جاء محمود وهو ممسك أذنه بيده ويشكو من الألم الشديد فيها فتفحصتها بانتباه، لكن الألم كان يشتد عليه وقد أصفر وجهه، وزالت عنه حيويته ونشاطه، ورغما عن كونه لا يبكي من الآلام بسهولة إلا أنه في هذه المرة كان يصرخ من ألم أذنه، ورأيت الدموع تنساب على خديه. فطمأنته بكلام لطيف وهرعت إلى الهاتف واتصلت بستشفي العائلة المقدسة حيث تشتغل أمه. فأقترحت والدته أن نجلبه بعد ظهر الغد إلى المستشفى لأجراء فحص طبي له. وقالت أنه في وسعي أن أبقي معه في غرفة مجاورة ريثما يفرغ محمود من فحوصاته.
ومن حسن حظنا أن توني كانت معفية من الواجبات في تلك الأمسية فاستقبلتنا بترحاب. وأخذت تلاعب محمود، وتسليه في كتاب ملآن بالصور المضحكة، وكنت أسمع وأنا مستلقية على فراشي قهقهة وضحكات توني ومحمود في الغرفة المجاورة. ولما كنت لوحدي في غرفتي أخذت أقرأ في الكتاب المقدس. واصطحبت معي القرآن الكريم إلا أنني كنت أقرأه كواجب وكشيء عادي، أما قراءتي للكتاب المقدس فكانت بقصد الإطلاع على بعض شخصياته، ومعرفة الله حق المعرفة، والدخول في شركة وثيقة مع الخالق ورب الوجود.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وانطفأت فجأة الأنوار الكهربائية وخيم الظلام على غرفتي، ولكن المسؤولين أسعفونا بالشموع. وجاعت استجابة أشواق قلبي. وأردفت الطبيبة قائلة: يبدو أنك تريدين أن تجعلي الله إلها شخصيا لك!
وامتلأت عيناها بالدموع وانحنت نحوي بكل رقة وحنان وهي تقول: يا سيدة الشيخ أن هناك سبيلا واحدا للخطوة بمعرفة الله وهذا السبيب يجب أن تسلكيه لوحدك. وفي وسعك معرفة الله شخصيا إذا سعيت بنفسك وراء هذه الغاية. ويظهر أنك مؤمنة، فماذا لا تصلين لهذا الإله الذي تنشدينه؟! تحدثي إليه وكأنه صديقك.
جلست في فراشي وقد خيّم السكون على المكان. ولم أعد أسمع صوت توني ومحمود في الغرفة المجاورة. وحدقت بالراهبة الطيبة العطوفة وأنعكس ضوء الشمعة على نظاراتها وباتت كملاك هابط من السماء وقلت: أتقترحين أن أتحدث مع الله كأنه أبي؟ هذا ما تجدينه هو السبيل الأمثل لحصولي على راحة البال، وسكينة النفس! وبالفعل فقد هزت هذه الفكرة كياني وتأثرت منها بنفس الشكل الذي تأثرت من ذلك الاختبار الغريب الذي حصل لي، والرؤيا المجيدة التي تراءت لي. والظاهر أنني اهتديت لحل مشكلتي، وباتت الحقيقة واضحة الآن أمامي.
والغريب أن الراهبة لم تذكر لي شيئا عن الصلاة عند المسيحيين. لكني بقيت طوال الليل قلقة وأنا أفكر بالصلاة إلى الله ولقد دعوته أبا لي. وما جعلني أزداد حيرة أن الأطباء لم يجدوا شيئا في أذن محمود يسبب له ذلك الألم الشديد. وفي الوقت نفسه توقف محمود عن شكواه بأن أذنه تؤلمه. فاستغربت هذه الأمور وقلت أن سرًا خفيًا يكمن وراء كل ذلك. فقد يكون الله بطريقته العجيبة الخاصة أستخدم هذه الأمور ليجمعني بالطبيبة الوقورة سنتياغو.
وجاء السائق منصور في اليوم الثاني بسيارة المرسيدس وعاد بي وبمحمود إلى المنزل في بلدة واه. وشاهدت سطح بيتي حالما تركنا الطريق العامة، واقتربنا من حديقة الدار التي نمت فيها الأشجار العالية. وكنت دوما أنشد هذا المنزل كمكان للخلوة والاعتزال، وكبقعة للتأملات الهادئة وكواحتي في الحياة. وعندما اقتربنا من البيت هرع الخدام لاستقبالنا واحاطوا بالسيارة مستقسرين. فطمأنتهم بأن حالة محمود جيدة، وأنه لم يعد يشكو الماّ في أذنه، بيد أن فكري لم يكن متجها للاستقبالات ولا مشغولا بالاستقسارات، بل جل ما أشغل تفكيري وأستحوذ على مشاعري هو كيف أستطيع أن أجد الله وكيف أتبره لي أباّ.
وبعد أن وصلنا البيت صعدت إلى غرفة نومي، واتعزلت عن الجميع في تلك الخلوة وأخذت أفكر في طريقة أجد فيها الله. وقلت في نفسي: قلما يفكر المسلمون بأن الله هو أبوهم السماوي. ومنذ طفولتي علموني أن أحسن طريقة لإرضاء الله هي أن أقوم بالفروض الدينية، وأن أصلي خمس مرات في اليوم. ثم كان مفروضا عليّ أن أطالع القرآن الكريم لأنه كتاب الله المنزل من السماء. لكن هذه الأمور لم تفدني في الاهتداء لمعرفة الله شخصيا. وظلت كلمات الطبيبة تتردد في أذني: تكلمي مع الله وأعتبريه أباَ لك!
وعند منتصف الليل أفقت من نومي لأن ثاني يوم كان عيد ميلادي. فيوم 12 ديسمبر قبل سبعة وأربعين عامًا رأيت النور لأول مرة، واستقبلت وجه هذه الحياة. وعادة في أيام أعياد الميلاد يبتهج صاخب العيد لأنه يتذكر طفولته وذكريات سابقه، وإحساسات لأزمته منذ نعومة أظفاره. وفعلا فأنه عندما كان يحين عيد ميلادي كانت تقام احتفالات وتجري استقبالات في بيتنا، ويتوافد على بيتنا العدد الكبير من أفراد العائلة للتبريك وللاشتراك في حفلات الميلاد. أما الآن فلا احتفالات أو مهرجانات، وقد نتبادل التحيات مع الأهل والأصدقاء على الهاتف لا أكثر ولا أقل. وهكذا تحسرت في نفسي كيف أنني خسرت أفراح الصبا واحتفالات الماضية.
وفكرت في والديّ لأنهما يحتلان المكانة الرئيسية في تفكيري. فاستعدت ذكري أمي الراحلة، وتحسرت على ما خسرته من عطف وحنان. ثم تذكرت أبي، وكان من الرجال الذين تفتخر بهم ونعتز فيهم. فهو قد حصل على رتب رفيعة في الحكومة الهندية زمن حكم الإنكليز. وتصورته ببزّته الرسمية، وبعمامته البيضاء وهو يقف أمام المرآة قبل ذهابه إلى مكتب عمله. وكان يشملني بعطفه وبمحبته. فنظراته الودية كانت تملأني حبا، وعيناه البراقتين يسحرانني من فرط محبته لي. ثم أن ضحكته اللطيفة وهيئته الكاملة وشخصيته الجذابة كانت تفترض على الجميع أن يحبوه وأن يحترموه.
وتذكرت عند رؤيتي إياه في مكتبه وكيف كان يحنو على ويعطف بي، ومع العلم أن المجتمع عند ذال كان يؤثر الصبيان على البنات، لكن والدي كان يتطلع إلى الصبيان والبنات على السواء. وكطفلة صغيرة كنت أحوم حول مكتبه راغبة في الاستفسار عن بعض الأمور. فكان عندما يراني يترك قلمه جانبا، ويناديني فأدخل مكتبه وأنا خجولة منحنية الرأس. ولكنه سرعان ما يبتسم لي ويضع كرسيه قرب كرسيّ ويقول: يا حبيبتي الصغيرة اقتربي مني. ثم يضع يده على عنقي وهو يقول ماذا تريدين أيتها الحبوبة الصغيرة أن أعمل لك؟ ولم تتغير معاملته اللطيفة لي حتى لما كبرت. وعندما كان لدي سؤال أو بدت مشكلة أمامي كان يترك شغله جانبا ويحاول الإجابة على أسئلتي. وهكذا في منتصف الليل دلفت هذه الذكريات عن والديّ في ليلة عيد ميلادي. فشكرت الله على ذينك الوالدين الممتازين اللذين أنعم بهما عليّ. وفيما أنما أشكر الله شعرت أنني أتحدث مع أبي السماوي. وقلت في نفسي لقد فقدت أبي الأرضي لكن بقي لي الأب السماوي.
وقجأة برقت شعاعة من الرجاء أمامي وقلت في نفسي: لماذا لا أفرض أن الله هو الأب العطوف عليّ، وعلى جميع الناس. فإذا كان أبي الأرضي يترك أشغاله جانبا ويصغي إليّ فلماذا لا يكون الأب السماوي مثله؟! فالله هو أب الجميع وهو رحمن رحيم. وإله محبة وعطف وحنان. وللحال أصابتني رجفة واهتاجت مشاعري فركعت على ركبتي فوق سجادة صغيرة وتطلعت إلى العلاء. وبتفهم جديد وبأسلوب رقيق دعوت الله أبي عندما استغرقت في صلاتي. لم أكن مستعدة لمثل هذا الاعتراف تماما لكن هذا ما جرى لي. وهذه كانت صلاتي إذ تجرأت فدعوت الله أبّا!!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وأخيرًا بعد تردد وحيرة نطقت بالتحدث مع الله. وكأن بركانا تفجر داخل كياني، ووجدت نفسي واثقة بأن هذا الإله الذي دعوته أبّا بدأ يسمعني. ومثلما كنت أنادي أبي الأرضي أخذت أدعو بلهفة الأب السماوي، وصرخت من أعماق قلبي: يا الله أبي! وبدأ صوتي عاليا أكثر من المعتاد، لا سيما في تلك الغرفة الصغيرة حيث أنام. وفي ذلك المكان ركعت على السجادة الصغيرة التي اعتدت أن أصلي عليها وكانت على مقربة من فراشي، ولم تكن الغرفة خالية لأني تأكدت أن الله موجود فيها. ولشدّ ما تستطعت أن أتلمس حضورة الإلهي، وأن أشعر بأن يده الحنونة تلمس أهداب شعري. ورأيت عينيه المملوءتين بالمحبة والحنان تتطلعان إليّ. وهكذا قضيت وقتا طويلا وأنا راكعة أصلي، وما أسرع ما أخذت أعوم في بحر محبته!!
اعتذرت لله لأني لم أكن لا عرفه من قبل. ورغم ذلك فحبه الشامل الآن يغمرني ورحمته تشملني. ولاحظت أن حضور الله كان شبيها بذلك الحضور الرائع الذي اختبرته في حديقة منزلي، وهو يشبه ذلك الحضور الإلهي الذي تمثل لي وأنا أطالع الكتاب المقدس، والإنجيل الظاهر. وأخذت أتحدث مع الله الأب وقلت: يا أبتاه أنا مرتبكة، وعليّ أن أسوي بعض المشكلات الآن. ودنوت من المائدة التي أضع عليها الكتابين العزيزين القرآن الكريم والكتاب المقدس جنبا إلى جنب، وأمسكت الكتابين ورفعتهما إلى فوق. كل كتاب منهما في يد. وقلت أجبني يا إلهي أي كتاب هو كتابك الحقيقي؟!
وعلى الأثر حدث شئ غريب لم أكن أتوقعه أول عهدي به من قبل, فقد سمعت صوتا يتكلم بوضوح وكان يشبه الصوت الذي يكرر ترداد الكلمات في عقلي الباطني. وكانت الكلمات مشبعة باللطف ومعبّرة عن سلطان. وسمعت الكلمات تقول في أي كتاب تجدين أن الله هو الأب؟! فأجبت بإتضاع وخضوع: لقد وجدت ذلك في الكتاب المقدس!!
أجل كنت أقف على مفترق طريق وكنت في حيرة من أمري ومترددة أي كتاب أتبع! لكني الآن ارتحت إلى ذلك الهاتف السماوي الذي دلني على الطريق الصحيح لمعرفة الله. واستغرقت هذه الصلاة المقرونة بذلك الصراع العلوي ثلاث ساعات. ولم أشعر بالتعب ورغبت أن أستمر في مطالعة الكتاب المقدس وفي الصلاة لأبي السماوي لأني كنت متأكدة بأن الله سيتجاوب معي والإله الأب سيكلمني. ولم أعد إلى فراشي إلا بعد أن أدركت أن ذلك ضروري لصحتي.
وفي اليوم التالي طلبت من الخدام إلا يزعجوني، وتناولت الإنجيل وبدأت أقرأ فيه إصحاحا بعد إصحاح مبتدئة بإنجيل متى. تأثرت كثيرا عندما لاحظت أن الله كان يتكلم مع الناس عن طريق رؤى والأحلام. فها هو يتكلم في بداية إنجيل متى مع يوسف الصديق، ومع العذراء مريم ومع المجوس الذين حذرهم من هيرودس الملك. وعاد الله فتكلم ليوسف ليرعى الطفل يسوع بعنايته. وما قرأته قادني أكثر للتقرب من الله والتحدث مع الأب السماوي. وفرحت لأني لاقيت الله شخصيا وعرفته معرفة وثيقة.
وهكذا وجدت نفسي أقف عند مفترق طريق. وفي قلبي عرفت أنه لابد لي أن أسلّم حياتي ليسوع. لكن الوسط الذي أعيش فيه كان ينصحني أن أدير ظهري لأله المسيحيين وابنه يسوع. وتراكمت الذكريات أمامي عن الماضي عندما كان والدي يصحبني معه إلى مسجد العائلة، وكنا عندئذ ندخل غرفة منفردة، وهو ممسك بيدي ويقول بفخر وإعجاب: هنا في هذا المكان عبد عشرون جيلا من عائلتنا الله الذي لا شريك له. وكان يقول أيضا: ما أحلى يا صغيرتي أن تكوني جزءا حيا من تراثنا الخالد، وفردا من أفراد هذه العائلة الكريمة التي عبدت الإله الحي أجيال وقرونا.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفكرت في إبنتي توني وماذا يكون موقفها، وهذه المرأة قد نالت نصيبها من القلق والوحدة بعد الطلاق من زوجها، وهل أضيف إلى اضطرابها اضطرابا بتركي مذهبي الإسلامي واعتناقي دينا جديدا. ثم فكرت في أولادي الآخرين الذي يعيشون بعيدين عني، فجميع هؤلاء لابد وأن يتأثروا عندما يسمعون أنني اعتنقت المسيحية. ولم يغب عن ذهني عمي فتح الذي حضر حفلة بدايتي درس القرآن الكريم وأنا في الرابعة من عمري. ثم تذكرت باقي الأقارب، لا سيما وأن لي عددا كبيرا من العمات والأعمام. وفي الشرق الروابط العائلية وثيقة، وما يؤثر على فرد منهم يؤثر على الآخرين لأنهم بمثابة عشيرة واحدة. وكل فرد في العائلة مسؤول تجاه الآخرين. وتراءى لي كيف أنه بعملي هذا سأسبب إساءة إلى الكثيرين، وحتى البنات من أفراد عائلتنا اللواتي يترشحن للزواج سوف يرفضهم الخطاب بسبب تغيير مذهبي وخروجي عن دين الإسلام.
وقلقت خاصة من أجل محمود حفيدي الصغير، وقلت ماذا سيحدث له؟ وتذكرت والده كيف أنه كان متعصبا للإسلام. وقد تسوّل له نفسه أن يأخذ الولد مني بالقوة إذا اعتنقت المسيحية. ونواردت مثل هذه الخواطر على ذهني، فغدوت في موقف حرج وعند مفترق طريق شائك. وما أشعب على المرء أن يتخذ قرارًا حاسما في مثل هذه الحالات المتأزمة؟! وهكذا تراءى لي أن الآلام التي سأسببها لهؤلاء الكثيرين من أقاربي ستكون شديدة الوقع عليهم. وما كان مني بعد هذا إلا الاستسلام للبكاء. وتخفيفا لاضطراب أفكاري قصدت الحديقة التي هي واحتي وملجأي وملاذي. وقلت: ربما استطعت وأنا قريب ن الطبيعة الجميلة والأرض الطيبة من أن أتخذ قرارًا.
وصرخت وأنا أذرع طرقات الحديقة: يا إلهي: تريدني حقا أن أترك عائلتي؟ أيرضى إله المحبة والرأفة أن أكون مصدر آلام للكثيرين؟ وفي غمرة يأسي واضطرابي برزت كلمات البشير متى التي كنت أطالعها قبل فترة من الزمن وهي مدونة في الإصحاح العاشر من إنجيل.
من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني
ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني
متى 10 : 37-38
توقيع صوت صارخ : منقول يتبع
[b]
وبعد هذا الحلم أخذت أطالع القرآن الكريم والكتاب المقدس طوال ثلاثة أيام متنقلة من كتاب إلى آخر. وكنت أقرأ القرآن كواجب، وكتقليد متوارث، في حين أن إقبالي على مطالعة الكتاب المقدس كان تلمسًا للحياة الجديدة التي كنت انشدها والتي بدأت اكتشف معالمها. وعندما كنت أفتح ذلك الكتاب كنت أشعر بإحساس من الذنب بعتريني، وربما كان ذلك ناشئا عن تربيتي الخاصة ونشأتي الأولى. وكانت العادة المتبعة أن يوافق والدي أثناء صغري على الكتاب الذي أرغب في مطالعته. وظل هذا جاريا حتى غدوت راشدة. وأذكر كيف أنني وأخي هرّبنا مرة كتابا إلى غرفتنا للمطالعة مع أنه كان كتابًا كله طهارة وبراءة، وكان ذلك عملا شاذا منا. والآن عندما أفتح الكتاب المقدس لا طالعه أشعر أنني أقدم بعمل غير مستقيم إذ أعصي أوامر والدي.
كانت غايتي معرفة من كان المعمدان الذي ترائ لي في الحلم. ولدي مطالعتي جذبت نظري قصة الزانية التي جلبها قادة اليهود إلى يسوع. وارتجفت لأني خشيت العقاب الصارم الذي سيفرضه عليها. والقوانين الإلهية في الشرق لا تختلف كثيرًا عن القوانين المتبعة في الباكستان. إذ يعاقب المجتمع الزانيات بأقسى العقوبات. وقرأت قصة هذه الزانية بلهفة وتصورتها وهي تقف أمام يسوع، ولا بد من أن أقاربها كانوا يتأهبون لرجمها بالحجارة وهم بإنتظار الحكم الذي سيصدره يسوع عليها، لكن النبي قال للحاضرين: كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر (يوحنا 7:8).
وتصورت عند ذاك كيف أن الرجل تفرقوا ذات اليمين وذات اليسار، لأن المسيح أنبّر على الفكرة أن الذي كان بينهم بلا خطية فليبادر إلى رجمها بالحجارة. ومعنى هذا أننا كلنا مذنبون ولا أحد منا بلا خطية, ووقع الكتاب من يدي وأنا منغمسة في تفكيري، ومتأملة في جواب المسيح لقادة الشعب. ويبدو أن في جواب النبي هذا تحديا صارخًا لمن يدعون أنهم قادة الشعب الروحانيين!
وحدث أنه بعد ثلاثة أيام حلمت حلمًا آخر. وخلاصته أنني وأنا غرفتي إذا بالجارية تعلن عن قدوم رجل يبيع الروائح والعطورات وأنه يرغب في مقابلتي إذ لدية أصناف من العطورات تليق بسيدة هذا المنزل العظيم. وكان قد حدث نقص في العطورات في الباكستان عند ذاك، وخشيت أن ينضب ما لدي من مخزون من هذه المادة الكمالية للتجميل. وكان الباعة يقصدون البيوت وهم يحملون الحقائب على ظهورهم، ويبيعون ربات البيوت كميات من العطور مما يحملون. فنهضت عن الديوان الذي كنت جالسة عليه وذهبت لمقابلة ذلك البائع، وكلي فرح وحبور. وشاهدت رجلا يلبس سترة سوداء ويحمل حقيبة كبيرة على ظهره. وعندما فتح الحقيبة تناول قارورة ذهبية وأزال غطاءها وأعطاني إياها لاشمها. وكان العطر الذي فيها يبرق كالبلور، والرائحة الطيبة تفوح منها. ولما حاولت لمسها أخذ القارورة من يدي ووضعها على المائدة قرب فراشي. وقال: سوف ينتشر عبير هذه القارورة ويملأ الأجواء. ورائحتها الطيبة ستملأ الدنيا كلها.
وعندما أفقت في الصباح كان الحلم ما يزال حيّا في مخيلتي. وتدفقت أشعة الشمس الذهبية على نافذتي فغمرت الغرفة بالضياء؟ وأنتشر عبير الأزهار، ورائحة الأشجار فملأت جنبات الغرفة برائحة ذكية. وعندما جلست إلى المائدة وجدت عوضا عن القارورة الكتاب المقدس موضوعا هناك. وكأنه برائحته الطيبة ينتشر في العالم أجمع، وسيعم المسكونة كلها.
وجلست هنيهة أفكر في هذا الحلم الغريب، وفي الحلم الأخر الذي سبق أن حلمته. والغريب أنه لمدة سنوات عديدة لم أكن لأحلم أبدًا. والآن في ليلة واحدة خطيت بحلمين. وقلت: هل ثمة علاقة بين الحلمين؟! وهل لهذين الحلمين صلة بالحقائق الفائقة للبيعة التي أخذت تتراء لي وتشغل تفكيري مؤخرًا؟!
وقمت بعد ظهر ذلك اليوم بجولتي المعتادة في أطراف الحديقة، وكنت ما زلت مذهولة من أمر هذين الحلمين الغريبين. ولكني شعرت بأن سلامًا قلبيًا أخذ يغمر كياني مما لم يكن لي به عهد في الماضي. أجل شعرت أنني في حضرة الله. وابتعدت عن أشجار الحديقة ووقفت في بقعة خالية منها وإذا الهواء حولي يحمل لي رائحة ذكية أنه لم يكن عبير الأزهار ولا رائحة الأشجار، بل عبيرًا من نوع إسمي وأشمل. أنه كان عبير روح الله النابع من السماء!
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
مسيحيتنا فوق الزمان
رد: أقدر أقوله يا بويا
بقيت محتارة ومنذهلة فترة من الزمن، وأنا أفكر في هذا العبير الذكي الشامل الذي غمرني. وقلت في نفسي: ماذا جرى يا ترى؟! ليس هذا ميعاد تفتح الأزهار أو تورق الأشجار، لأن الفصل خريف. فلا بد وأن يكون اختبارًا روحيًا جديدًا أخذ يفد علي كما وفد على ذلك الاختبار الغريب في السابق. وأردت شخصًا أفضي له بهذا الأمور التي استغلق فهمها علي. وقلت لا بد لي من شخص مطلع على الكتاب المقدس يرشدني. فمن أقصد يا ترى؟ أأقصد المعرفة من أحد الخدام المسيحيين، وهذا ليس معقولا، لأنهم هم بدورهم لا يقرأون أو يكتبون، ولا يعرفون هذه الأمور التي أريد التحدث عنها. والأفضل لي أن أتصل بهم هو ضليع بمواد الكتاب المقدس ويكون متعلمًا وخبيرًا في أمور الدين.
وعلى الفور طرقت أفكاري فكرة جديدة. وحاولت في بادئ الأمر طردها من ذهني لكنني لم أستطع، لأني قلت أن هذا أحسن مصدر أستقي منه المعلومات الصحيحة عما تراء لي من أحداث غريبة تتعلق بالكتاب المقدس. وناديت منصورًا وقلت له هي السيارة واتركني أسوقها لوحدي. فقال متعجبًا: لوحدك! قلت: نعم. فذهل من هذا الأمر وتركني مكرهًا. ومن النادر أنني سقت السيارة في مثل ذلك الوقت المتأخر من المساء. ورغم أنني كنت ضابطة في الجيش الهندي الملكي لقسم النساء في الحرب العالمية الثانية، وكثيرًا ما سقت سيارات الإسعاف وسيارة الموظفين آلاف الأميال، لكن ذلك كان زمن الحرب، وفي أيام الحرب يعمل الإنسان أمورًا صعبة يتعذر عليه القيام بها أيام السلم. ولا يتوقع من النساء النبيلات في الباكستان أن يسقن سيارات في الأيام الاعتيادية لا سيما في الليل.
بيد أنني لم أشأ أن يعرف منصور ماذا أنوي أن أعمل خشية أن يشيع خبر ذهابي لبيت المرسلين لاستشارتهما في الأمر، وتسبب عن ذلك الكثير من القيل والقال. وكنت قد اقتنعت في أعماق نفسي أن أحسن مورد استسقي منه المعلومات عن هذه الأمور التي تراءت لي في أحلامي، ولها علاقة بالكتاب المقدس هما القس ميتشل وزوجته. وكانا قد زارًا حديقتي في الصيف للتفرج عليها بصحبة منصور سائق سيارتي.
أجل رغبت في الحصول على جواب بسؤالاتي: من هو يوحنا المعمدان؟ وما هذا العبير الذي يفوح حولي، والرائحة الذكية التي غمرتني وأنا أتجول في جنبات حديقتي؟! وما سر هذه الإختبارات الروحية التي أخذت تفتح أفاقًا جديدة أمام حياتي؟! وهكذا قصدت بيت هذا المرسل وزوجته، مع أنني لم أعرف الكثير عنهما سوى زيارتهما في الصيف لحديقتي. وكان أخر ما يتوقع الناس رؤيته أن أكون برفقة مرسلين مسيحيين وأنا بلقيس الشيخ من سلالة أولئك الحاكمين في الباكستان، وممن عرف عنهم أنهم من المسلمين الغيورين على دين الإسلام!
توقيع صوت صارخ :
أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك
مسيحيتنا فوق الزمان
رد: أقدر أقوله يا بويا
كانت سيارة المرسيدس خاصتي تنتظرني عند مخرج الدار. وقد وقف منصور قريبًا من بابها الذي أغلقه ليحتفظ بالدفء داخلها، لا سيما وأننا كنا في فصل الخريف، وكانت الأمسية باردة. وتطلع إلي باستفسار للتأكد من قراري بالذهاب بالسيارة بدونه. بيد أنني كنت مصممة أن أذهب لوحدي، فدخلتها وجلست قرب المقود وسقتها وسط نور الغسق الخافت، جاعلة الكتاب المقدس على المقعد بالقرب مني.
في قرية واه يعرف الواحد أين يسكن الأخر، ذلك لأن القرية صغيرة والناس يعرفون بعضهم البعض جيدًا. وعرفت أن بيت المرسل ميتشل كان يقع قرب معمل للإسمنت في ضواحي القرية. وكانت عائلتنا تستفيد من مدخل ذلك المعمل، وهذا المعمل كان يخدم المجتمع، وبالأخص الذين عاشوا على بعد خمسة أميال عن المدينة. وكانت بيوت تلك السكنة قد بنيت ليستخدمها أفراد الجيش البريطاني إثناء الحرب العالمية الثانية. ومع مرور الزمن تغير لونها وقدمت أبوابها، وتساقطت أجزاء من سقوفها فكنت ترى العطب قد بدأ يغشاها، وبانت الثقوب فيها. وأمتلأ قلبي بمزيج من اللهغة والخوف وأنا أقترب من البيت الذي كنت أقصده. وأنا لم أزر بيت مرسل مسيحي من قبل، وخفت أن يشع الخبر في القرية، ويكثر القيل والقال حول تلك الزيارة. غير أنني في الوقت ذاته كنت متلهفة لأن أعرف من هو يوحنا المعمدان، وتواقة لأجد تفسيرًا لأحلامي الغريبة، ومعنى لذلك الاختبار العجيب الذي حصل لي. وفي الوقت ذاته خشيت أن يؤثر المرسل عليّ عند محاولته الإجابة على أسئلتي.
وقلت لنفسي: ماذا يقول أفراد عائلتي عني عندما تصلهم أخبار زيارتي لبيت المرسل المسيحي هذا؟ وتذكرت أقوال جدي، وكان قد رافق القائد البريطاني نيكلسون عندما اجتاز ممر خيبر في إحدى حروبه مع أفغانستان. أنه كان يكره الاحتكاك بالمرسلين لأنهم في عقيدته يشترون ضمائر الناس بالمال. وكان أفراد عائلتنا يقرنون المرسلين بالفقراء والمنبوذين، وليس بالعائلات العريقة، وبالإشراف من علياء القوم. وفكرت بأن تلك الزيارة ربما تجلب العار لعائلتي. وتصورت نفسي أتحاجج مع عمي أو عمتي وأدافع عن نفسي بتقديم حجة الأحلام التي حلمتها والاختبار الغريب الذي حل بي سببًا لأغير ديني. على كل كنت مقررة أن أعرف معنى أحلامي الغريبة وأتزود بمعلومات أوفى عن يوحنا المعمدان، لذلك صممت القيام بتلك المقابلة والزيارة لبيت المرسل ميتشل.
كانت البيوت تتشابه كثيرًا في ذلك الحي السكني. وبعد التفتيش في الأزقة الضيقة عثرت على بيت هذا المرسل قرب معمل الأسمنت فأوقفت سيارتي على بعد مسافة من البيت خشية أن يراها أحد من سكان قرية واه واقفة أمام منزل مرسل مسيحي. وكانت هذه احتياطات اتخذتها خشية شيوع خبر زيارتي هذه عند أفراد عائلتنا. وأخيرًا قرعت الباب ودخلت حاملة الكتاب المقدس بيدي. وبدت ساحة الدار نظيفة وأنيقة. وكان المرسلون يحفظون بيوتهم بشكل مرتب ونظيف.
وفجأة فُتح الباب وخرجت جماعة من نساء القرية كنّ يرتدين اللباس الوطني الباكستاني، وقد حضرن اجتماعا مع زوجة القس ميتشل. وكان في وسعهم معرفتي لأن لا أحد لا يعرف الأخر في تلك القرية. ومن المؤكد أن النساء شاهدنني ساعة خروجهم من غرفة الاجتماع وخشيت أن تشتغل ألسنتهم بالقيل والقال عن زيارتي لبيت المرسل المسيحي. ولما مررت بالقرب مني لمست كل واحدة جبهتها بإصبعها كما جرت العادة في تبادل التحايات في الباكستان.
: 9,332
رد: أقدر أقوله يا بويا
وقصدت زيارة القس ميتشل، فلم أجده بل استقبلتني زوجته التي كانت قد أنهت اجتماعها الديني مع النساء، وأخذت تشيعهم إلى الخارج وسط الظلام. وبعد أن خلا المكان اقتربت تلك السيدة مني ورحبت بي. وهي سيدة نحيفة وأنيقة، وكنت قد شاهدتها مرة في المدينة. أما الآن فلم أتميّزها تماما، لأنها أخذت تلبس الملابس الباكستانية، والزي الهندي. لكنها عرفتني ورحبت بي ورددت القول: أهلا وسهلا بالسيدة بلقيس.
اطمأنت نفسي لما دخلت البيت وتواريت عن عيون النساء. وجلسنا في غرفة الاستقبال المؤثثة بأثاث بسيط وأنيق. وظلت زوجة المرسل واقفة مقابلي بينما أجلستني على كرسي مريح. وكانت الكراسي في غرفة الاجتماع مرتبة بشكل دائرة، وقد أخبرتني أنه كان هناك اجتماع للنساء المحليات. وقالت: لا بد من فنجان شاي قبل كل شئ. قلت: جئت لأسأل القس ميتشل سؤالا. أجابت: إن زوجي ذهب في رحلة إلى أفغانستان. ولما كانت السيدة في مقتبل العمر ظننت أنها لا تستطيع الإجابة على سؤالي. لكني تجرأت وقلت لها: أتعرفين شيئا عن الله يا سيدتي؟
وعلى الأثر جلست زوجة المرسل على كرسي وتطلعت إليّ باستغراب. وكان الهدوء بخيم على جو الغرفة، ولم يسمع فيها صوت سوى صوت احتراق الحطب في الموقد. وبعد فترة قصيرة أجابت: أخشى أنني لا أعرف الكثير عن الله لكنني أعرفه شخصيا. وكان هذا تصريحا جريئا ومفاجئا. فهي لا تعرف الكثير عن الله لكنها من ناحية ثانية قد عرفته شخصيا، والله يسيطر على مجريات حياتها.
وزادت ثقتي بالله لدي سماع اعترافها، بسيطرة الله على مجرى حياتها وزاد يقينها بالله الحي يقيني. وبدون توقف أو تريث قلت سأطلعك على بعض من أحلامي التي أخذت أحلم بها مؤخرًا. فقد حظيت بالحلم بزيارة يسوع إلى منزلي. وبعد ذلك حضر يوحنا المعمدان. وجئت لأخذ معلومات أوفي عن المعمدان. ثم أخبرتها عن الاختبار الغريب الذي حصل لي. وعن ذلك التهيج الذي ألم بي إذ شعرت أنني أقف على قمة جبل وعلى مفترق طريق، وأمام باب وأسع للحياة.
وأضفت أنني سمعت عن يسوع عن طريق القرآن الكريم لكن من هو يوحنا المعمدان؟! وحدقت السيدة ميتشل فيّ، وكأنها تريد أن تمتحني لتعرف أنني صادقة في عدم معرفة شئ عن يوحنا المعمدان. ثم أردفت قائلة: ان المعمدان كرز بمغفرة الخطايا وهو مرسل من الله ليعد الطريق للمسيح. وهو الذي قال عن المسيح: هذا حمل الله الرافع خطايا العالم. وهو الذي عمّد المسيح في نهر الأردن.
وأسرعت دقات قلبي عندما ذكرت كلمة معمودية. وكنت أعرف القليل عن المسيحيين لكن المسلمين يسمعون كثيرًا عن الحفلات الغريبة التي يحتفل بها المسيحيون عند معمودية أحد منهم. وتذكرت أنه كثيرًا ما عقب معمودية أحد المهتدين من الإسلام إلى المسيحية بالقتل. والغريب أن مثل هذا كان يحدث تحت حكم الإنكليز مع أنه كان مفروضًا وجوب توفر الحرية الدينية للجميع. ومنذ صغري وأنا أقول تعمد مسلمًا ومات مسلمًا. وتابعت حديثي بقولي: يا سيدة لا انسي بأني مسلمة ورجائي أن تخبريني عما عنيت بالقول أنك تعرفين الله شخصيًا أكثر مما أنت تعرفين عنه.
أجابت: أنا أعرف المسيح وهو ابن الله المتجسد الذي جاء إلى عالمنا بشكل إنسان عن الله خالقة. انه قبل أن يموت على الصليب فداء عن خطايا البشر. فقد جاء إلى عالمنا بشكل إنسان فهو الإله المتجسد وعن طريقه نحن نعرف الله معرفة شخصية.
08-19-2010, 07:08 PM #15 صوت صارخ
رد: أقدر أقوله يا بويا
وبعد هذا رانت فترة من السكون على جو الغرفة، ولم نكن لنسمع سوى صوت سيارات الشحن وهي تمر بالقرب من المنزل. وقاطعت السكون بقولي، وكانت السيدة ميتشل أذانا صاغية متلهفة لسماع أقوالي. فقلت بعد أن التقطت أنفاسي: لقد حدثت أمور غريبة لي وأنا في حديقة منزلي مؤخرًا. ثم تراءت لي أحلام محيرة لم أجد لها تفسيرًا. وهذه الأحداث سواء أكانت حلوة أم مرة هي من عالم الروح. وإني أشعر أن نفسي في حوامة من الماء الجاري حولي، أو وسط حرب روحية. وها أنا في حاجة إلى كل مساعدة إيجابية. فهل ترغبين أن تصلي من أجلي؟!
ودهشت السيدة ميتشل من هذا الطلب الذي لم تكن تتوقعه وقالت: كيف تريدين أن نصلي؟ أنصلي ونحن واقفات أم راكعات أم جالسات؟! وهذه الأشكال من الصلاة لم يكن للسيدة بلقيس عهد بها لأنها كمسلمة كانت تصلي على الطريقة الإسلامية المعروفة. وما هي لحظات حتى كانت السيدة ميتشل تخر ساجدة على أرض الغرفة، وما كان مني إلا أن تبعتها وركعت مثلها.
ورفعت إلى الله صلاة مؤثرة، وكان صوتها ناعمًا. وسمعتها تقول: إن لا شئ مما أقوله يمكن إقناع السيدة بلقيس من هو يسوع. لكن شكرًا لله الذي يرفع القناع عن قلوبنا، والغشاء عن عيوننا، فنرى يسوع حمل الله الرافع خطايا العالم أمامنا. فيا روح قدس الله اغمر قلب هذه السيدة بروحك المشرق المنير لترى الله وتعرفه عن طريق يسوع المسيح، مخلص العالم وفادي الأنام. آمين.
وبقيت وإياها راكعتين حتى خلت أنه مرّ دهر من الزمان علينا. وقد ارتاح قلبي لتلك السكينة التي غمرته، وشعرت في أعماق نفسي بانفراج وطمأنينة وبالفعل فق كنت في حاجة إلى مثل هذه السكينة وذلك الهدوء. وعندما نهضنا قالت السيدة ميتشل: هل الكتاب الذي تمسكينه بيمينك هو كتاب مقدس؟ وكنت أحمل الكتاب ومقربة إياه من صدري. فأجبتها بالإيجاب. عادت فسألت: هل وجدته سهل الفهم؟
أجبت: ليس تمامًا لأن الترجمة التي لدي قديمة وأنا لست معتادة عليه. وللحال توجهت إلى الغرفة المجاورة وجلبت لي كتابًا آخر وقالت: هذا عهد جديد مترجم بلغة إنكليزية حديثة. وهذه الترجمة تعرف بترجمة فيلبس اشتهرت ببساطتها وسهولة فهمها. ونصحتني أن أبدًا بقراءة إنجيل يوحنا، ووضعت في الإنجيل علامة من ورقة خاصة لتكون دليلًا. وقالت إن كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا تلميذ المسيح، وهو يوضح لك أكثر ما تريدين معرفته عن يوحنا المعمدان وعن مكانته كممهد للطريق أمام المسيح.
فشكرتها وقلت: لا بد وإن أكون قد أخذت الكثير من وقتل الثمين. وعندما تأهبت لأن أترك المكان قالت: جميل أن يكون حلم قد قادك إليّ. والله كثيرًا ما يتكلم لإتباعه ونبيه عن طريق الرؤى والأحلام. وفيما هي تساعدني بلبس معطفي تحيرت إذا كان من المناسب أن أطلعها عن حلمي الثاني المتعلق ببائع العطور، وقارورة الطيب وبرائحتها الذكية التي كانت حولي. وأخيرًا تجرأت وقلت: أتظنين يا سيدة ميتشل أن هناك علامة بين الرائحة الذكية وقارورة العطور التي تراءت لي في حلمي الآخر وبين يسوع ورائحته الذكية؟!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفكرت قليلًا وهي تضع يدها على مزلاج الباب وقالت: لا أستطيع الآن أن أجد هذه العلامة لكن دعيني أصلي عساني أجدها فيما بعد. وفيما أنا أسوق سيارتي وفي طريق عودتي للمنزل شعرت مرة ثانية بالرائحة العطرة التي تغمرني، وكان ما شعرت به الآن مشابها الاختبار الذي حصل لي في الحديقة حيث غمرتني نفحات من رائحة عطرة أدركت أنها منبعثة من تلك القارورة التي تراءت لي في الحلم.
ولما عدت إلى البيت قرأت ما أوصتني به السيدة ميتشل ذلك الفصل من إنجيل يوحنا حيث يتكلم البشير عن يوحنا المعمدان. وكان المعمدان رجل جريئا وقد عاش في البرية، وكان يرتدي لباسًا مصنوعًا من وبر الإبل، ويتغذى على العسل، ويجوب ذلك القفر المجاور لنهر الأردن داعيًا الناس إلى التوبة وممهدًا الطريق لمجيء المسيح. وكان صوته يدوي في تلك البرية: توبوا لقد اقترب ملكوت الله.
وجلست على الديوان في غرفتي، ومرت في خاطري ذكريات سبعة قرون عاشها أفراد عائلتنا. وكيف أستطيع التخلص من التقاليد، وإذا كان المعمدان علامة من الله بعثه للناس هاديا ومنبها وداعيا للمسيح الذي هو ابن الله المتجسد، فلماذا لا يكون ذلك الرجل ليدعوني أنا أيضا لاستقبال يسوع وقبوله مخلص؟! وكانت هذه فركة جريئة لم ترق لي عند ذاك فأثرت أن أنبذها من تفكيري وأظل محافظة على التعاليم التي توارثتها أبا عن جد. فاستسلمت للكرى علّ النوم يحل أزمات اضطرابي، ويهديني إلى الطريق السوي الذي يتحتم عليّ سلوكه.
ونمت تلك الليلة نوما هادئًا تخللته بعض الأحلام المنعشة. وفي الصباح أفقت على صوت المؤذن، وهو يدعو إلى الصلاة وكنت قد استعدت سكينة نفس وصفاء أفكاري. أعلن المؤذن للملأ طريق الحق، فقلت: هنا السراط المستقيم، وحمدت الله أنني ابتعدت عن تأثير المسيحيين الذين يحاولن التأثير على أفكاري وزعزعة أركان إيماني. فأنا مؤمنة بالله وهذا يكفي لخلاصي ولحصولي على الراحة والاطمئنان.
وفجأة حضرت ريشام ولم تكن لتجلب الشاي كعادتها بل حملت لي رسالة قالت إنها وردت الآن من السيدة ميتشل. وكل ما قالته الرسالة: أقرأي يا سيدتي العدد 14 من الإصحاح الثاني من رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس. فتناولت العهد الجديد الذي كانت قد أعطتني إياه السيدة ميتشل وبعد أن فتحت الإصحاح والآية، قرأت ما يلي: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين. ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان".
جلست في فراشي وأعدت قراءة هذه الآيات الثمينة، وكان كياني قد بدأ يتهدم، لكن معرفة يسوع انتشرت مثل العبير والرائحة الطيبة فأنعشت نفسي. وتذكرت أنه في الحلم وضع البائع قارورة العطور على المائدة قرب فراشي. وكانت كلماته أن عبير هذه القارورة سينتشر حتى يملأ أرجاء العالم. والغريب أنه في اليوم الثاني من الحلم وجدت الكتاب المقدس موضوعا في المحل الذي تصورت فيه أنه مكان قارورة الطيب. وهكذا أتضح لي أن كلمة الله ستنتشر في كل أرجاء العالم، وأن رائحتها الطيبة ستشمل الجميع. هكذا تفسّر هذا الحلم من تلقاء نفسه ولم أدعه يشغل بالي.
وكان من المناسب أن أتناول الشاي كعادتي، لأن هذا الشراب سيعيد الحياة إلى بؤرتها اللائقة بها سريعا، وتمنيت إلا يعتور ذلك السبيل شئ يعكر مزاجي أو أمور ثانية تتلف إطار حياتي السعيد. وكانت السيدة ميتشل قد دعتني أن أزورهم مرة ثانية في البيت، إلا أنني أثرت عدم القيام بتلك الزيارة في ذلك الوقت، ووجدت أن الطريق الصحيح والمنطقي هو أن أبحث بنفسي عن هذه القضايا الروحية من طيات الكتاب المقدس الذي كان بحوزتي.
وبعد هذا بأيام، هرعت نورجان إلى غرفتي، ونظرات غريبة تعلو محياها. وقالت بلهفة وارتباك: لقد حضر القس ميتشل وزوجته لزيارتك وهما يرغبان بالاجتماع بك. وأمسكت أنفاسي هنيهة من الزمن وقلت في نفسي: ما الداعي لزيارة هذا المرسل وزوجته لي؟ ولأهدئ من اضطرابي قلت للجارية أن تدخلها إلى غرفة الإستقبال. ولم أكن لأجتمع بالقس ميتشل من قبل، فتأثرت من شخصيته التي دلت عليها عيناه الحادتان، وقامته العارمة. ولمست فيه نفس الدفء الذي لمسته عند زيارتي لزوجته في بيتهما. وصرح الإثناء أنهما سعيدان لرؤيتي، ولإتاحة الفرصة لهما للأجتماع بي. ويعتبرانها فرصة سعيدة أن تسمح لهما بزيارتهما في بيتها العامر.
واقتربت السيدة ميتشل مني وهزت يدها بيدي، ثم وضعت ذراعها حول عنقي وعانقتني. ولم يكن أحد من أفراد عائلتنا ليتجاسر أن يعانقني بمثل هذا الشكل المحب. وقد شعرت بأنه لا يوجد أي تصنع في معانقتها هذه، ومع أنني استغربت هذا اللقاء في البداية إلا أنني الآن شعرت براحة واطمئنان. وحياني القس ميتشل بلهجته الأمريكية وقال: أنا سعيد بأن ألتقي بسيدة الزهور.
رد: أقدر أقوله يا بويا
قالت السيدة ميتشل: على أثر زيارتك لي أبرقت لزوجي عن زيارتك الميمونة لي. ومنذ زرنا حديقتك ونحن نتوق لزيارتك في منزلك. فلقد أعجبنا تنظيم حديقتك، وبالأزهار الجميلة التي ملأت جنباتها وأحواضها، ومنذ ذلك الوقت أي من الربيع الماضي ونحن نرغب في زيارتك شخصيا. وعندما أبرقت لزوجي عنك لم أشأ أن أستعمل إسمك الخقيقي لأبعد عنك القيل والقال. ولما اخترت بما أدعوك به تطلعت إلى الزهور الجميلة التي أينعت في المزهرية التي تملأ نافذة غرفتي، وكان البستان قد أعطاني بعض البذور من أزهار بستانك فقلت: إن أحسن ما أدعوك به هو سيدة الأزهار. وهذا هو الإسم المستعار الذي اتفقت مع زوجي أن ندعوك به. فضحكت وقلت: يكفي أن تدعوانني بلقيس.
كنت أتوقع أن يضغط المرسل على لاعتنق الدين المسيحي، وأن يحاول اقناعي بمزايا المسيحية وبضرورة اعتناقها، لكن شيئا من مثل ذلك لم يحدث. وهكذا كانت الزيارة موفقة، شربنا فيها الشاي، وتبادلنا الأحداث. وإثناء محادثنا العائلية سألت القس عن السر في تسمية المسيح بابن الله لأن المسلمين يعتبرون هذا نوعا من الشرك، لأن القرآن الكريم في أماكن عديدة يصرح أن الله لم يكن له أولاد، وإشراك ابن الله مع الروح القدس مع الله يخلق فكرة للثالوث، ويجعل الله ثلاثة أشخاص. وهذا يخالف تعاليم القرآن الكريم التي تدعو إلى الوحدانية وتنص بصراحة أن الله واحد لا شريك له.
وأوشح القس ميتشل في جوابه عن فكرة الثالوث بقوله: لنعتبر الله الشمس، لكن هذه الشمس تظهر بمظاهر ثلاثة. فهي نور وحرارة وإشعاع. وهذه الآفة الثلاثية تكوّن الشمس الواحدة. ولم نشأ التوسع في مثل هذه الأحاديث الجدلية، ولم يطل بنا المقام حتى تركني الضيفان. وبقيت لوحدي وليس لي ثمة رفيق أو أنيس سوى هذين الكتابين: القرآن والكريم والكتاب المقدس.
أخذت أطالع هذين الكتابين بلهفة شديدة. وحاولت أن أدرس القرآن الكريم دراسة مستفيضة، لأن الكتاب الذي يوضح لي أركان ديني، ولإيماني به ككتاب منزل من عند الله، وللولاء الذي توارثته عن آبائي وأجدادي لهذا الكتاب السماوي. كان هو الكتاب المفضل وفي الوقت نفسه رغبت في مطالعة الكتاب المقدس لأروي جوعا روحيا أخذ يستحوذ علىّ. وفي كثير من الأوقات كنت ألقي الكتاب المقدس جانبا لعدم فهمي لآياته، ولأني أدركت أن هناك فيه بعض الاختلافات عما ورد في القرآن الكريم.
وهكذا قضيت أسبوعا كاملا وأنا مكبة على مطالعة هذين الكتابين السماويين. أجل لقد عشت في عالم مغمور بالجمال الآسن، وحظيت ببستان روحي خلق لي وعيي الجديد في عالم الروحانيات. مهّد لكل ذلك الحلمان الغريبان اللذان تراءيا لي في منامي، والحضور الغريب لله الذي مسّ حياتي وتراء لي بشخصه وأنا أسير في حديقة منزلي.
وانتابتني موجة عارمة من التلهف الداخلي لزيارة السيدة ميتشل والاستفسار عن بعض تلك الاختبارات الروحية، وتلك الأمور الغريبة التي شعرت بها. وتأكدت في الأيام التالية أن هناك طريقا معبدا أمامي للارتواء من عالم الجمال الذي خلقته لنفسي. وأتضح لي بأن قراءتي للكتاب المقدس ومطالعته ودراسته هي السبيل الأمثل للارتواء من ذلك الجمال الآسن، وهو الطريق الوحيد لولوج عالم الخير والجمال. وعالم الروح الآسنى.
وفي أحد الأيام جاء محمود وهو ممسك أذنه بيده ويشكو من الألم الشديد فيها فتفحصتها بانتباه، لكن الألم كان يشتد عليه وقد أصفر وجهه، وزالت عنه حيويته ونشاطه، ورغما عن كونه لا يبكي من الآلام بسهولة إلا أنه في هذه المرة كان يصرخ من ألم أذنه، ورأيت الدموع تنساب على خديه. فطمأنته بكلام لطيف وهرعت إلى الهاتف واتصلت بستشفي العائلة المقدسة حيث تشتغل أمه. فأقترحت والدته أن نجلبه بعد ظهر الغد إلى المستشفى لأجراء فحص طبي له. وقالت أنه في وسعي أن أبقي معه في غرفة مجاورة ريثما يفرغ محمود من فحوصاته.
ومن حسن حظنا أن توني كانت معفية من الواجبات في تلك الأمسية فاستقبلتنا بترحاب. وأخذت تلاعب محمود، وتسليه في كتاب ملآن بالصور المضحكة، وكنت أسمع وأنا مستلقية على فراشي قهقهة وضحكات توني ومحمود في الغرفة المجاورة. ولما كنت لوحدي في غرفتي أخذت أقرأ في الكتاب المقدس. واصطحبت معي القرآن الكريم إلا أنني كنت أقرأه كواجب وكشيء عادي، أما قراءتي للكتاب المقدس فكانت بقصد الإطلاع على بعض شخصياته، ومعرفة الله حق المعرفة، والدخول في شركة وثيقة مع الخالق ورب الوجود.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وانطفأت فجأة الأنوار الكهربائية وخيم الظلام على غرفتي، ولكن المسؤولين أسعفونا بالشموع. وجاعت استجابة أشواق قلبي. وأردفت الطبيبة قائلة: يبدو أنك تريدين أن تجعلي الله إلها شخصيا لك!
وامتلأت عيناها بالدموع وانحنت نحوي بكل رقة وحنان وهي تقول: يا سيدة الشيخ أن هناك سبيلا واحدا للخطوة بمعرفة الله وهذا السبيب يجب أن تسلكيه لوحدك. وفي وسعك معرفة الله شخصيا إذا سعيت بنفسك وراء هذه الغاية. ويظهر أنك مؤمنة، فماذا لا تصلين لهذا الإله الذي تنشدينه؟! تحدثي إليه وكأنه صديقك.
جلست في فراشي وقد خيّم السكون على المكان. ولم أعد أسمع صوت توني ومحمود في الغرفة المجاورة. وحدقت بالراهبة الطيبة العطوفة وأنعكس ضوء الشمعة على نظاراتها وباتت كملاك هابط من السماء وقلت: أتقترحين أن أتحدث مع الله كأنه أبي؟ هذا ما تجدينه هو السبيل الأمثل لحصولي على راحة البال، وسكينة النفس! وبالفعل فقد هزت هذه الفكرة كياني وتأثرت منها بنفس الشكل الذي تأثرت من ذلك الاختبار الغريب الذي حصل لي، والرؤيا المجيدة التي تراءت لي. والظاهر أنني اهتديت لحل مشكلتي، وباتت الحقيقة واضحة الآن أمامي.
والغريب أن الراهبة لم تذكر لي شيئا عن الصلاة عند المسيحيين. لكني بقيت طوال الليل قلقة وأنا أفكر بالصلاة إلى الله ولقد دعوته أبا لي. وما جعلني أزداد حيرة أن الأطباء لم يجدوا شيئا في أذن محمود يسبب له ذلك الألم الشديد. وفي الوقت نفسه توقف محمود عن شكواه بأن أذنه تؤلمه. فاستغربت هذه الأمور وقلت أن سرًا خفيًا يكمن وراء كل ذلك. فقد يكون الله بطريقته العجيبة الخاصة أستخدم هذه الأمور ليجمعني بالطبيبة الوقورة سنتياغو.
وجاء السائق منصور في اليوم الثاني بسيارة المرسيدس وعاد بي وبمحمود إلى المنزل في بلدة واه. وشاهدت سطح بيتي حالما تركنا الطريق العامة، واقتربنا من حديقة الدار التي نمت فيها الأشجار العالية. وكنت دوما أنشد هذا المنزل كمكان للخلوة والاعتزال، وكبقعة للتأملات الهادئة وكواحتي في الحياة. وعندما اقتربنا من البيت هرع الخدام لاستقبالنا واحاطوا بالسيارة مستقسرين. فطمأنتهم بأن حالة محمود جيدة، وأنه لم يعد يشكو الماّ في أذنه، بيد أن فكري لم يكن متجها للاستقبالات ولا مشغولا بالاستقسارات، بل جل ما أشغل تفكيري وأستحوذ على مشاعري هو كيف أستطيع أن أجد الله وكيف أتبره لي أباّ.
وبعد أن وصلنا البيت صعدت إلى غرفة نومي، واتعزلت عن الجميع في تلك الخلوة وأخذت أفكر في طريقة أجد فيها الله. وقلت في نفسي: قلما يفكر المسلمون بأن الله هو أبوهم السماوي. ومنذ طفولتي علموني أن أحسن طريقة لإرضاء الله هي أن أقوم بالفروض الدينية، وأن أصلي خمس مرات في اليوم. ثم كان مفروضا عليّ أن أطالع القرآن الكريم لأنه كتاب الله المنزل من السماء. لكن هذه الأمور لم تفدني في الاهتداء لمعرفة الله شخصيا. وظلت كلمات الطبيبة تتردد في أذني: تكلمي مع الله وأعتبريه أباَ لك!
وعند منتصف الليل أفقت من نومي لأن ثاني يوم كان عيد ميلادي. فيوم 12 ديسمبر قبل سبعة وأربعين عامًا رأيت النور لأول مرة، واستقبلت وجه هذه الحياة. وعادة في أيام أعياد الميلاد يبتهج صاخب العيد لأنه يتذكر طفولته وذكريات سابقه، وإحساسات لأزمته منذ نعومة أظفاره. وفعلا فأنه عندما كان يحين عيد ميلادي كانت تقام احتفالات وتجري استقبالات في بيتنا، ويتوافد على بيتنا العدد الكبير من أفراد العائلة للتبريك وللاشتراك في حفلات الميلاد. أما الآن فلا احتفالات أو مهرجانات، وقد نتبادل التحيات مع الأهل والأصدقاء على الهاتف لا أكثر ولا أقل. وهكذا تحسرت في نفسي كيف أنني خسرت أفراح الصبا واحتفالات الماضية.
وفكرت في والديّ لأنهما يحتلان المكانة الرئيسية في تفكيري. فاستعدت ذكري أمي الراحلة، وتحسرت على ما خسرته من عطف وحنان. ثم تذكرت أبي، وكان من الرجال الذين تفتخر بهم ونعتز فيهم. فهو قد حصل على رتب رفيعة في الحكومة الهندية زمن حكم الإنكليز. وتصورته ببزّته الرسمية، وبعمامته البيضاء وهو يقف أمام المرآة قبل ذهابه إلى مكتب عمله. وكان يشملني بعطفه وبمحبته. فنظراته الودية كانت تملأني حبا، وعيناه البراقتين يسحرانني من فرط محبته لي. ثم أن ضحكته اللطيفة وهيئته الكاملة وشخصيته الجذابة كانت تفترض على الجميع أن يحبوه وأن يحترموه.
وتذكرت عند رؤيتي إياه في مكتبه وكيف كان يحنو على ويعطف بي، ومع العلم أن المجتمع عند ذال كان يؤثر الصبيان على البنات، لكن والدي كان يتطلع إلى الصبيان والبنات على السواء. وكطفلة صغيرة كنت أحوم حول مكتبه راغبة في الاستفسار عن بعض الأمور. فكان عندما يراني يترك قلمه جانبا، ويناديني فأدخل مكتبه وأنا خجولة منحنية الرأس. ولكنه سرعان ما يبتسم لي ويضع كرسيه قرب كرسيّ ويقول: يا حبيبتي الصغيرة اقتربي مني. ثم يضع يده على عنقي وهو يقول ماذا تريدين أيتها الحبوبة الصغيرة أن أعمل لك؟ ولم تتغير معاملته اللطيفة لي حتى لما كبرت. وعندما كان لدي سؤال أو بدت مشكلة أمامي كان يترك شغله جانبا ويحاول الإجابة على أسئلتي. وهكذا في منتصف الليل دلفت هذه الذكريات عن والديّ في ليلة عيد ميلادي. فشكرت الله على ذينك الوالدين الممتازين اللذين أنعم بهما عليّ. وفيما أنما أشكر الله شعرت أنني أتحدث مع أبي السماوي. وقلت في نفسي لقد فقدت أبي الأرضي لكن بقي لي الأب السماوي.
وقجأة برقت شعاعة من الرجاء أمامي وقلت في نفسي: لماذا لا أفرض أن الله هو الأب العطوف عليّ، وعلى جميع الناس. فإذا كان أبي الأرضي يترك أشغاله جانبا ويصغي إليّ فلماذا لا يكون الأب السماوي مثله؟! فالله هو أب الجميع وهو رحمن رحيم. وإله محبة وعطف وحنان. وللحال أصابتني رجفة واهتاجت مشاعري فركعت على ركبتي فوق سجادة صغيرة وتطلعت إلى العلاء. وبتفهم جديد وبأسلوب رقيق دعوت الله أبي عندما استغرقت في صلاتي. لم أكن مستعدة لمثل هذا الاعتراف تماما لكن هذا ما جرى لي. وهذه كانت صلاتي إذ تجرأت فدعوت الله أبّا!!
رد: أقدر أقوله يا بويا
وأخيرًا بعد تردد وحيرة نطقت بالتحدث مع الله. وكأن بركانا تفجر داخل كياني، ووجدت نفسي واثقة بأن هذا الإله الذي دعوته أبّا بدأ يسمعني. ومثلما كنت أنادي أبي الأرضي أخذت أدعو بلهفة الأب السماوي، وصرخت من أعماق قلبي: يا الله أبي! وبدأ صوتي عاليا أكثر من المعتاد، لا سيما في تلك الغرفة الصغيرة حيث أنام. وفي ذلك المكان ركعت على السجادة الصغيرة التي اعتدت أن أصلي عليها وكانت على مقربة من فراشي، ولم تكن الغرفة خالية لأني تأكدت أن الله موجود فيها. ولشدّ ما تستطعت أن أتلمس حضورة الإلهي، وأن أشعر بأن يده الحنونة تلمس أهداب شعري. ورأيت عينيه المملوءتين بالمحبة والحنان تتطلعان إليّ. وهكذا قضيت وقتا طويلا وأنا راكعة أصلي، وما أسرع ما أخذت أعوم في بحر محبته!!
اعتذرت لله لأني لم أكن لا عرفه من قبل. ورغم ذلك فحبه الشامل الآن يغمرني ورحمته تشملني. ولاحظت أن حضور الله كان شبيها بذلك الحضور الرائع الذي اختبرته في حديقة منزلي، وهو يشبه ذلك الحضور الإلهي الذي تمثل لي وأنا أطالع الكتاب المقدس، والإنجيل الظاهر. وأخذت أتحدث مع الله الأب وقلت: يا أبتاه أنا مرتبكة، وعليّ أن أسوي بعض المشكلات الآن. ودنوت من المائدة التي أضع عليها الكتابين العزيزين القرآن الكريم والكتاب المقدس جنبا إلى جنب، وأمسكت الكتابين ورفعتهما إلى فوق. كل كتاب منهما في يد. وقلت أجبني يا إلهي أي كتاب هو كتابك الحقيقي؟!
وعلى الأثر حدث شئ غريب لم أكن أتوقعه أول عهدي به من قبل, فقد سمعت صوتا يتكلم بوضوح وكان يشبه الصوت الذي يكرر ترداد الكلمات في عقلي الباطني. وكانت الكلمات مشبعة باللطف ومعبّرة عن سلطان. وسمعت الكلمات تقول في أي كتاب تجدين أن الله هو الأب؟! فأجبت بإتضاع وخضوع: لقد وجدت ذلك في الكتاب المقدس!!
أجل كنت أقف على مفترق طريق وكنت في حيرة من أمري ومترددة أي كتاب أتبع! لكني الآن ارتحت إلى ذلك الهاتف السماوي الذي دلني على الطريق الصحيح لمعرفة الله. واستغرقت هذه الصلاة المقرونة بذلك الصراع العلوي ثلاث ساعات. ولم أشعر بالتعب ورغبت أن أستمر في مطالعة الكتاب المقدس وفي الصلاة لأبي السماوي لأني كنت متأكدة بأن الله سيتجاوب معي والإله الأب سيكلمني. ولم أعد إلى فراشي إلا بعد أن أدركت أن ذلك ضروري لصحتي.
وفي اليوم التالي طلبت من الخدام إلا يزعجوني، وتناولت الإنجيل وبدأت أقرأ فيه إصحاحا بعد إصحاح مبتدئة بإنجيل متى. تأثرت كثيرا عندما لاحظت أن الله كان يتكلم مع الناس عن طريق رؤى والأحلام. فها هو يتكلم في بداية إنجيل متى مع يوسف الصديق، ومع العذراء مريم ومع المجوس الذين حذرهم من هيرودس الملك. وعاد الله فتكلم ليوسف ليرعى الطفل يسوع بعنايته. وما قرأته قادني أكثر للتقرب من الله والتحدث مع الأب السماوي. وفرحت لأني لاقيت الله شخصيا وعرفته معرفة وثيقة.
وهكذا وجدت نفسي أقف عند مفترق طريق. وفي قلبي عرفت أنه لابد لي أن أسلّم حياتي ليسوع. لكن الوسط الذي أعيش فيه كان ينصحني أن أدير ظهري لأله المسيحيين وابنه يسوع. وتراكمت الذكريات أمامي عن الماضي عندما كان والدي يصحبني معه إلى مسجد العائلة، وكنا عندئذ ندخل غرفة منفردة، وهو ممسك بيدي ويقول بفخر وإعجاب: هنا في هذا المكان عبد عشرون جيلا من عائلتنا الله الذي لا شريك له. وكان يقول أيضا: ما أحلى يا صغيرتي أن تكوني جزءا حيا من تراثنا الخالد، وفردا من أفراد هذه العائلة الكريمة التي عبدت الإله الحي أجيال وقرونا.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وفكرت في إبنتي توني وماذا يكون موقفها، وهذه المرأة قد نالت نصيبها من القلق والوحدة بعد الطلاق من زوجها، وهل أضيف إلى اضطرابها اضطرابا بتركي مذهبي الإسلامي واعتناقي دينا جديدا. ثم فكرت في أولادي الآخرين الذي يعيشون بعيدين عني، فجميع هؤلاء لابد وأن يتأثروا عندما يسمعون أنني اعتنقت المسيحية. ولم يغب عن ذهني عمي فتح الذي حضر حفلة بدايتي درس القرآن الكريم وأنا في الرابعة من عمري. ثم تذكرت باقي الأقارب، لا سيما وأن لي عددا كبيرا من العمات والأعمام. وفي الشرق الروابط العائلية وثيقة، وما يؤثر على فرد منهم يؤثر على الآخرين لأنهم بمثابة عشيرة واحدة. وكل فرد في العائلة مسؤول تجاه الآخرين. وتراءى لي كيف أنه بعملي هذا سأسبب إساءة إلى الكثيرين، وحتى البنات من أفراد عائلتنا اللواتي يترشحن للزواج سوف يرفضهم الخطاب بسبب تغيير مذهبي وخروجي عن دين الإسلام.
وقلقت خاصة من أجل محمود حفيدي الصغير، وقلت ماذا سيحدث له؟ وتذكرت والده كيف أنه كان متعصبا للإسلام. وقد تسوّل له نفسه أن يأخذ الولد مني بالقوة إذا اعتنقت المسيحية. ونواردت مثل هذه الخواطر على ذهني، فغدوت في موقف حرج وعند مفترق طريق شائك. وما أشعب على المرء أن يتخذ قرارًا حاسما في مثل هذه الحالات المتأزمة؟! وهكذا تراءى لي أن الآلام التي سأسببها لهؤلاء الكثيرين من أقاربي ستكون شديدة الوقع عليهم. وما كان مني بعد هذا إلا الاستسلام للبكاء. وتخفيفا لاضطراب أفكاري قصدت الحديقة التي هي واحتي وملجأي وملاذي. وقلت: ربما استطعت وأنا قريب ن الطبيعة الجميلة والأرض الطيبة من أن أتخذ قرارًا.
وصرخت وأنا أذرع طرقات الحديقة: يا إلهي: تريدني حقا أن أترك عائلتي؟ أيرضى إله المحبة والرأفة أن أكون مصدر آلام للكثيرين؟ وفي غمرة يأسي واضطرابي برزت كلمات البشير متى التي كنت أطالعها قبل فترة من الزمن وهي مدونة في الإصحاح العاشر من إنجيل.
من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني
ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني
متى 10 : 37-38
توقيع صوت صارخ : منقول يتبع
[b]