--------------------------------------------------------------------------------
ويوم الأحد طلبت من محمود أن يظل خارج غرفة الاستقبال خشية أن يشوه منظرها بالعابه المتناثرة. وملأت المزهريات بالأزهار، ورتبت السجاجيد العجمية ذات التقوش الجميلة. وأزلت الغبار عن المفروشات ومن قرب النوافذ. وعندما حان موعد الاجتماع سمعت السيارات تقف عند المدخل، والبوابة تفتح على مصراعيها. وتوافد المدعوون وكنا في الاجتماع 12شخصا. فبدأنا بالترنيم والصلوات وقراءة فصل من الكتاب المقدس. ثم تكلم البعض عن اختباراته الروحية وما صنعه الله في حياته. وكان محمود يجلس في غرفة مجاورة ويصغي بهدوء لما يجري في الاجتماع وتصورت الآلاف من الأشخاص غير المرئيين الذين لابد وأن يرافقونا في الابتهالات والصلوات لله الأب السماوي. بأرواحهم إذ يتعذر وجودهم جسديا.
وبعد الاجتماع تحسست أن الأخوة المسيحيين كانوا قلقين على سلامتي فسألتني ماري: أما زلت قلقة على مصيرك، ومهتمة كثيرا بما حدث لك من تغيير في حياتك؟ ابتسمت وقلت لا أستطيع أن أعمل شيئا لأنه إذا أراد أحد أن يؤذيني ففي وسعه أن يفعل ذلك بسهولة لأن البيت ليس محصنا كفاية. وعلى الأثر نهض كين ليتفحص الأبواب والنوافذ فوجدها غير منيعة. فشبكة الأسلاك الموضوعة على النوافذ مع الزجاج لا تحول دون دخول أي معتد للبيت. وهز رأسه وقال: فعلا إن هذه الوسائل لا تضمن لك الحماية الكافية يا سيدة بلقيس! وإني أقترح وضع قضبان من حديد لتدعم الأسلاك بسهولة. فأجبته سأنظر في هذه الأمور يوم غد. وعندما وعدته بذلك تصورت في مخيلتي اختفاء مجد الرب من حولي. وقلت في نفسي: هل اختفاء الله وعدم حضوره راجع إلى تفكيري الخاطئ، أو هو واقع حقيقي؟ إنما اختباري كان أنه لما أبتعد عن خطة الله يبتعد الأب السماوي عني ويتواري.
وبعد أن تفرق المجتمعون شعرت بأني أسعد من المعتاد، إذ أن اجتماع الأخوة المؤمنين بعث فيّ حيوية جديدة. وعندما فكرت ثاني يوم باستدعاء أحد الحدادين من القرية لوضع بعض القضبان على النوافذ إذا بي أشعر باختفاء الحضرة الإلهية عني وانحجاب مجده الاسني عن منزلي. فقلت ربما كان اختفاء الله راجع لاستسلامي للخوف. وعندما بادرت إلى استدعاء أحد الحدادين بدأ أهل القرية يتهامسون فيما بينهم عن خوفي ومحاولتي حماية المنزل من المعتدين. وكنت أسمع تقولات الناس وهم يعلنون قائلين: ما نوع هذا الدين لأن المرء إذا أصبح مسيحيا يبدأ يعيش في الخوف. وقلت هذا هو السر في انحجاب نور الله عني ساعة خوفي وارتباكي. ونمت تلك الليلة نوما هادئا بعد أن اتخذت قرارا بأن أطيع الله وأن أعدل عن وضع قضبان حديدية على نوافذ بيتي. وكنت متأكدة أن هذا هو القرار الصحيح في هذا الموضوع.
وصحوت أثناء نومي على صوت مفاجئ. فجلست في فراشي لكن بدون أن يلازمني أي خوف أو رجل. وللحال ظهر أمام منظر يخلب الألباب إذ شاهدت من خلال جدران غرفتي الحديقة بأسرها وكانت هذه الرؤية بطريقة فائقة للطبيعة. وكانت الحديقة مغمورة بضوء أبيض لامع فرأيت كل ورقة شجر أو زهرة في البستان. وقد خيمت على الحديقة سكينة وجللهاء الصفاء. وسمعت أبي السماوي يكلمني ويقول: لقد فعلت الشئ الصحيح يا بلقيس. وتأكدي أنني معك دائما! وعلى الأثر تواري ذلك النور الفياض وانحجب ضياء الله، فأشعلت مصباحي ورفعت يدي إلى العلاء شاكرة ربي وحماية أبي السماوي الذي تراءى لي وسط ظلام الليل وأضطراب الحياة. وهتفت من أعماق قلبي قائلة: لا أستطيع يا أبتاه أن أشكرك كفاية لأنك تعتني بي كثيرا ولا تتركني وحيدة!
واستدعيت صباح ذلك اليوم الخدام وقلت لهم في وسمعكم أن تناموا في بيوتكم إن أردتم، أما أنا ومحمود فسنبقى في هذا البيت الكبير وحدنا. وتبادل الخدام نظرات الاستغراب والدهشة بين بعضهم البعض، فبعضهم فرح لهذا الخبر، بينما بات البعض الأخر مشدوها ومذعورًا. وكان هذا قرارا حازما مني أني لا أروم حمايتي بنفسي، فالله هو الذي يحميني، والحماية التي انشدها مصدرها ذلك الأب السماوي. وعلى أثر اتخاذي مثل هذا القرار عاد المجد الإلهي للظهور وأخذ أمد بقائه يطول.
وصدف ذات يوم والجارية ريشام تمشط شعري أن قالت: لقد سمعنا يا سيدتي أن ابن عمتك كريم قد توفى. وكان كريم هذا هو الذي وعد بأن يأخذ محمود لصيد السمك، وليدربه على هذه الهواية. وكنت ممن أحب هذا الشاب الناشئ والطموح. وقلت في نفسي بعد أن تأكدت من هذا الخبر المشؤوم من ريشام، لماذا أبحث عن وفاة كريم الخدام، وربما كانت هذه مجرد إشاعات أو ربما كانت ريشام مخطئته في الاسم، وكان المتوفى شخصا أخر باسم كريم. وبعد الاستفسار والتحري عرفت أن هذا الخبر صحيح وليس إشاعة, وأفادني من أرسلته للاستفسار بأن كريم مات الليلة الماضية أثر نوبة قلبية مفاجئة وأن جنازته ستكون في ذلك اليوم, وتألمت كثيرا عندما عرفت أن عمتي طلبت من عائلتها أن يخبروني بذلك، لكن لا أحد من العائلة نفذ طلبها. وجلست قرب النافذة أفكر في هذه المقاطعة العائلية حتى عند وفاة أحد المقربين الأعزاء. وقلت ها أنا محرومة من حضور الحفلات العائلية لمدة ستة أشهر، ولم تكن المقاطعة قد أثرت عليّ مثلما أثر عليّ هذا الحادث وحرماني من حضور جنازة أحد الأقارب الأعزاء على قلبي.
وفيما أنا جالسة على الكرسي الهزاز قرب فراشي رفعت قلبي بالصلاة لله. وكعادتي بعد كل صلاة كنت أحظى بجواب من أبي السماوي. وما أن فرغت من صلاتي حتى شعرت بعباءة توضع على أكتافي وتجلب الدفء لجسمي. وفي غمرة هذا الشعور والنشوة النورانية تسربت إلى ذهني فكرة مفاجئة وجاءتني خطة غير عادية وجرئية. فقلت إن هذه هي خطة الله وهذا وحي من العلي. وها هو أبي السماوي يكلمني.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وبذكري وفاة كريم جلست قرب نافذتي المطلة على الحديقة مستعيدة لذاكرتي أيام الصبا عندما كنت ألعب مع كريم رفيق صباي، وإذا ريح موسمية فجائية تهب، وتحني الأشجار العالية، وترعب المواطنين. وكثيرا ما يحدث هبوب مثل تلك الرياح العاصفة في الهند. وكأن هذه العاصفة التي الرياح العاصفة في الهند. وكأن هذه العاصفة التي هبت وأنا جالسة قرب نافذتي استعيد فيها الذكريات الماضية كانت رسالة لي ن السماء. وسمعت صوتا يحدثني في وسطها وكان واضحًا إذ أنه صوت الله. ولشد ما سمعت أصواتا عديدة تقول لي أنه من عدم اللائق ذهابي لحضور جنازة كريم. فذهابي ربما يزيد من أحزان الفاقدين ووجودي في الجنازة قد يسئ إلى من هم في الذهاب وإذا حضور الله الاسنى أخذ يتواري عن أنظاري، فأحسست بأن هناك علاقة ويظهر أن الله يريدني أن أحضر الجنازة وأن أقوم بهذا العمل الفائق للطبيعة. وأذن فسوف ألبي رغبة الله ولأذهبن هناك رغم المقاطعة العائلية، ولأواجهن الأقارب رغم كل عداوة أظهورها لي.
وأصعدت نهدات عميقة ونهضت من مكاني وتركت النافذة وقلت بصوت عال: لقد بدأت يا إلهي أتعلم أن ألبي أوامرك، وها هو شعوري الداخلي، وإحساس ضميري يقولان: إن هذا العمل صالح. ويظهر أن أبي السماوي يقول لي أن أذهب لحضور الجنازة.
وما أروع هذه الاختبارات التي أخذت أتحسسها عن حضور الله وإبتعادة عني! وكنت على وشك تفهم هذا العمل الإلهي، واستجلاء السر في حضور الله وتواريه. إنما همي الأكبر كان الحظوة بالتمتع بحضور الله وزمانا أطول وفي فترات أكثر. وهذا درس بدأت أتعلمه ولم أتحقق إن كنت في الشهرين القادمين سأحصل عليّ هذه النعمة، لتقودني خطوة إلى الأمام في فهم مقاصد الله، والتعلم متى يكون حضور الله وظهوره لي، ومتى يكون ابتعاده وتواريه عني.
وأخيرًا ذهبت إلى بيت الفقيد كريم، ورغم أنني وعدت الله بأن أطيعه شعرت كأني مثل الحمامة المتوحدة المطروحة أرضًا فريسة لعدد من الأفاعي والثعابين. وتنفست عميقًا قرب البيت الحجري الذي عرفته منذ الصغر، وعرفت فيه الجدران المبيضة بالكلس، والسقف المزين بالنقوش. ذلك البيت الذي طالما اجتمعت فيه مع كريم ونحن صغار نلعب ونلهو معا. وعندما دخلت أعتاب البيت شاهدت أهل القرية يتطلعون إليّ بعيون فاحصة، وكانوا جالسين حول جثمان الفقيد الراحل. ورغم شيوع الحزن وهيمنة جو من الهدوء على المكان كنت ألمس نظرات السخرية تصوّب إليّ من معظم الحاضرين. حتى إن ابنة عمي التي كنت وإياها من أعز الأصدقاء حدجتني بنظرات ساخرة. ثم أشاحت بنظرها عني وبدأت تتحدث مع جارتها وكأنها لا تحب أن تحدثني أو تراني.
وجلست على إحدى الفرشات الموضوعة على الأرض، والمحاطة بعدد من المخدات والوسائد مثل عادة القرويين من أهل الشرق. وعدّلت الساري الذي كنت أرتديه وجلست أرضًا، وكأن حضوري جعل السكون يهيمن على المكان، لأني غدوت قبلة الأنظار حتى إن الذين يسبحون الله بمسابحهم تمجيدا له توقفوا عن ذلك النوع من التمجيد وتطلعوا إليّ. ورغم أن اليوم كان من أيام الصيف الحارة، ورغم أن الغرفة كانت مكتظة بالحضور شعرت بموجة من البرد تنتابني. فلم أنبس ببنت شفة بل أغلقت عينيي، ورفعت صلاة خافتة لأبي السماوي. ثم قلت: يا يسوع كن معي لأني أمثلك لدي هؤلاء الأصدقاء والأقارب، وكلهم حزين لفقدان هذا العزيز كريم، والقريب الحبوب من الجميع.
وخيّم صمت وسكوت على المكان دام حوالي ربع ساعة. ثم واصل الحضور حديثهم، وبدأوا يعزون الفاقدين. وشعرت أن الوقت قد حان لي لأقوم وأعزي امرأة كريم، فتركت المكان الذي كنت متكئة فيه ودخلت الغرفة الجاورة حيث كان جثمان كريم مسجى على حمالة كما هي العادة عند المسلمين، إذ لا يوضع الجثمان في تابوت مقفل، لأنه على حد تعبيرهم لابد للمتوفى من الجلوس ليتسنى له الإجابة عن بعض الأسئلة للملاك الذي يجئ له ليستنطقه لدي دخوله السماء. وعلى الأثر تقدمت من أرملة الفقيد وعزيتها، وتطلعت إلى وجه الراحل الهادئ وجسده المسجى والملفوف بالأكفان البيضاء. ورفعت دعاء لله من أجل روح هذا الفقيد. وبالفعل كنت أتمنى من كل قلبي لو استطعت التحدث معه، لكنه غدا في عالم آخر.
وسمعت صلوات وأدعية من أفراد عائلة هذا الفقيد، وتعزيات الأقارب، وأدعية المشيعين. ووقفت سيدات وتلون آيات من القرآن الكريم، وكان من المفروض أن يشيع الجثمان إلى مثواه الأخير قبل الغروب. ويرافق المشيعون النعش حتى المقبرة، وهناك يضعونه على الأرض حيث يتلو الأمام آيات من القرآن الكريم. وفيما كنت أستمع إلى التنهدات المواسية والتعزيات الرقيقة، والأدعية الإلهية، شاهدت أم كريم تجثو أمام النعش وهي وحيدة فشعرت بدافع يدفعني أن أتقدم نحوها وأرفع إليها تعزياتي. وفكرت في نفسي هل أتجاسر أن أقف بجانبها؟ وهل من المناسب أن أقترب منها أمام هذه الجماهير الساخطة عليّ؟ إذ ربما اعتبروا ذلك تحديا صارخا مني. وهل من المناسب أيضا أن أقرب تعزياتي بتعزيات من الأب السماوي؟ ولكني تجاسرت وقلت إن وجودي كمسيحية بينهم لابد وأن يستدعي وجود روح المسيح في ذلك المكان، وعنايته الإلهية ستشمل هذه الأرملة الثكلى, لذلك تجرأت ودنوت من أم كريم ووضعت ذراعي حولها وقلت لها بصوت خافت: إنني جد حزينة لوفاة أحد الأعزاء على قلبي. والله العظيم يعزيك ويباركك! والتفتت أم كريم إليّ وكانت علامة الشكر تنعكس في عينيها الدامعتين. فتأكدت أن المسيح كان حاضرا وهو لابد وأن عزى قلبها الحزين. وقبلت أم كريم هذه المشاركة الوجدانية مني بكل ارتياح مع أن الآخرين كانوا يرمقوني بنظرات عاتبة! والدليل على ذلك أني لما رجعت إلى مكاني بعد أن قدمت فروض التعزية لأم كريم شاهدت عددا من أقاربي يتركون المكان واحدا تلو الأخر.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وعلى الأثر بدأت أجاهد ضد عواطفي. فقد انتابني حزن شديد على وفاة كريم، وانزعاج أقاربي بسبب وجودي هناك، وتجاسري على حضور الجنازة. وأخذ قلبي يخفق بسرعة ووصلت العداوة حجها. وكان كل ما أستطيع عمله هو أن أظل جالسة مدة أخرى من الزمن، ثم أترك الغرفة. وعندما تركت لاحظت أن أكثر العيون كانت شاخصة إليّ، وحدجني الكثيرون بنظرات عاتبة. وتوجهت إلى سيارتي وجلست قرب مقودها وأنا أجمع أفكاري وأستعيد ما جرى لي، وقلت في نفسي أني أطعت الله فيما عملت وأن كان الثمن الذي دفعته غاليا. والأفضل لو أني بقيت في البيت ووفرت عليّ الانغماس في هذه الأحزان.
وبعد بضعة أسابيع وكانت حرارة الشمس قد اشتدت بسبب قدوم فصل الصيف الحار، سمعت عن وفاة ابن عم آخر لي. وقد وصلني الخبر أيضا عن طريق الخدم. ووجدت نفسي منساقة للذهاب إلى بيت الفقيد لأكون من عداد المشيعين والمعزين. وفكرت أن الأفضل ألا أفكر بمصلحة ذاتي بل أشارك أرملة ابن عمي الثكلى حزنها، لا سيما وأنه كان لديها ولد في الخامسة من عمره ويقارب ذلك عمر محمود. وكانت تلك الأرملة تشعر أنها متروكة ووحيدة, فوقفت قرب النعش وبكيت على زوجها الراحل وشاركتها أحزانها. وعندما دنوت من الأرملة لأعزيها تلاقت نظراتنا وشاهدت في عينيها الدامعتين شيئا من التردد. غير أنها بتصميم فائق رغم معرفتها أن ذلك يخالف إرادة العائلة مدّت يدها إليّ، وعندما امسكتها بكيت. وتبادلنا كلمات قليلة لكن قلبي ما برح يصلي من أجلها بحرارة. وقد رجوت الروح القدس أن يعزيها وتأكدت أن روح الله سيستجيب لدعائي. لأن المسيح نفسه قال: طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. وهتفت تلك الأرملة من قلب مكلوم: شكرا لك يا بلقيس! فعانقتها وتركت الغرفة من دون أن أتكلم بشئ.
وهكذا حدث أن حصلت بجنازتان في العائلة في مدة متقاربة من الزمن. وكان هذا من غير المعتاد خاصة وأن أفراد عائلتنا كانوا معدودين. وفي كلا الحالتين سمعت صوت أبي السماوي يدعوني للخروج من بيتي والذهاب إلى الأمكنة التي يحتاجون فيها إليّ. وقررت أن أطيع أوامر الله وأن أذهب بشرط أن لا أتكلم كثيرا بل أجعل مجرد حضوري أن يكون شاهدا أمينا على إيماني. وشعرت أن الله كان طوال الوقت يرافقني. وما أكثر الدروس القيمة التي تعلمتها من حضوري حفلات الجنازة هذه!
وحدث هذا الاختبار لي في إحدى الجنازات. فالعادة عند المسلمين أنه عند الوفاة لا يأكل الناس إلا بعد دفن جثمان الميت. ومعنى هذا صيامهم طوال ذلك اليوم. وذات يوم وأنا جالسة وسط الحشد المكتظ من المعزين شعرت بحاجتي إلى تناول الشاي كما اعتدت كل بعد ظهر. وكان هذا صعبا عليّ، فلم أقدر أن أضبط عواطفي لذلك نهضت من مكاني مدعية أني أود غسل يدي وتسللت من بيت الفقيد إلى مقهى مجاور حيث شربت فنجان شاي، ومن ثم رجعت إلى مكاني بين المشيعين. وعلى الأثر شعرت بوحدة غريبة ولمست أن الصديق الوفي الذي كان يجانبي قد تركني. وفعلا فإن روح الله فارقني لأني قلت لمن حولي من الناس ما هو غير صحيح، ساعة اعتذرت لهم أن أريد غسل يدي وذهبت لأتناول فنجان شاي. وعزيت نفسي أنها كذبة بيضاء لكن رغم ذلك فالله لم يكن راضيا عن ذلك لأن لم أشعر بحضوره الإلهي بجانبي ولم أتمتع بالراحة المرجوة التي أحصل عليها بوجود روحه القدوس يحل عليّ.
وأخذت أعاتب نفسي وأقول: هل يتحتم عليّ أن أتمسك بعادات المعزين عند المسلمين؟ فأنا مسيحية ولم أتعود البقاء بدون فنجان شاي بعد الظهر كما هي عادتي. وفي غمرة هذه التساؤلات لم أشعر بحضور الله بجانبي. وفي النهاية عرفت أنني على خطأ وأن ما قلته كان كذبا. وصليت لله ليغفر لي تفكيري الخاطئ. وقلت له: لقد سعيت بالحصول على استحسان الناس لي مهملة الحصول على استحسانك يا إلهي! لقد أذيتك في هذه التصرفات النابية وأعدك ألا أعود إلى مثلها في المستقبل. وعلى أثر هذا الإقرار الخطير لمست روح الله تغمرني وكان يتساقط عليّ مثل المطر على أرض عطشي. فارتاحت نفسي لأني عرفت أن الله معي. وهكذا تعلمت أن أحظى بحضور الله. وعندما كنت لا أشعر بأن الله قريب مني أدرك أنني أسأت إليه بتصرفاتي فاستعيد أحداث الماضي بذاكرتي، فأتذكر كل كلمة تفوهت بها أو فكر مرّ بخاطري فاكتشف في النهاية كيف ضللت سبيلي، وكيف ابتعدت عن الله فأطلب الغفران من أجل خطيئتي وسوء تصرفي!
تعلمت أن أعمل مثل هذا بجسارة متزايدة. وروّضت نفسي على طاعة إلهي. وتعودت على ذلك في المستقبل. ولما كنت أشعر بضعفي الحاضر كنت أنشد قوة الله بالصلاة، وأطلب عونه وإرشاده. وأدركت منذ ذلك الحين أنه لا يوجد ما يدعى بالكذبة البيضاء. فالكذب كذب ومصدره إبليس. والكذب من الوسائل التي يستعملها إبليس ليبعدنا عن الطريق السوي، ويقودنا إلى الكذب الحقيقي، ويغرس فينا هذه الصفة البغيضة. وكل كذبة إنما تقودنا إلى تجربة، وهي من المغريات التي يلجأ إليها إبليس. وهكذا نحن نميل مع العالم عوضا من أن نتبع يسوع الذي هو مصدر لكل حق. وهو القائل: أنا هو الحق.
وحدث مرة أن دعاني مرسل لأحضر بعض اجتماعاته ولم أكن راغبة في ذلك وحاولت خلق المعاذير واصطناع بعض الأعذار فأنا بإنذار خفي يهز نفسي، وعوضا عن اختلاق بعض الأعذار لجأت إلى قول الصدق. فقلت أنني آسف إذ لا أستطيع حضور الاجتماعات. وحاولت مرة أخرى أن أكتب رسالة لصديق لي في لندن. وعندما بدأت في الكتابة أخذت أبسط له الأعذار في تأخري بالكتابة إليه لكوني قد تغيبت عن بلدتي بيد أنني أدركت أن ما أكتبه كان أتوماتيكيا، والعذر الذي أقدمه ليس صحيحا، توقفت عن الكتابة ومزقت الورقة وقلت: هذا ضرب من الكذب والخداع! ثم عدت فكتبت له الحقائق بصورة واضحة وصريحة. وهذه أمور صغيرة نجعلها تمر بنا، ونقول أن لا قيمة لها لكن هذه الصغائر هي مرتع للكبائر. وتغدو أمور حياتنا أسهل إذا استغنى المرء عن ابتداع وسائل للتحايل، والالتجاء إلى الكذب فيركن إلى الصراحة وقول الحق مهما كلفه الأمر.
رد: أقدر أقوله يا بويا
ورويدا رويدا بدأت أتعلم كيف أعيش مع المسيح حياة صحيحة. وبدأت أروض نفسي بأن أجعله رفيقي الدائم. ولم يكن هذا سهلا علي في بداية، إذ كثيرا ما كنت أزوغ عن الطريق المستقيم، أما المهم أنني استفقت إلى هذا الأمر الخطر وصممت أن أسلك السلوك الصحيح مهما كان السبيل إليه صعبا وعسيرا. ومع الوقت اكتشفت الفائدة العملية من هذه المحاولة. وحاولت بكل قوتي أن أطبق الوعد الإلهي القائل: اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وكل هذه تزاد إليكم (متى 33:6). وكنت أردد في أعماق نفسي إذا وضعت الله في رأس قائمة حياتي. فجميع حاجاتي الأخرى ستلبى لي أن عاجلا أو أجلا.
وحدث ذات يوم أن جاءت ريشام إلى غرفتي ودلت ملامح وجهها على شئ من الارتباك وقالت لي بأن سيدة تروم مقابلتي وهي في غرفة الاستقبال. وسألتها إن كانت تعرف السيدة. أجابت: تظن إنها أم كريم. فقلت لها أنت غلطانة لأن أم كريم لا تقوم بزيارات وهي في غمرة أحزانها وتلبس الحداد على ولدها الراحل. فنزلت إلى الطابق الأسفل لأرى بنفسي، عندما لمحتها عرفت إنها بالفعل هي أرملة ابن عمي كريم. وحالما سمعت وقع إقدامي تقدمت مني وعانقتنا وقالت: لقد جئت بنفسي لأقول لك أن وجودك في الجنازة كان سبب تعزية كبيرة لي. ولم أستطع أن أقول ذلك يوم الجنازة لأن لم يكن لدي مجال لذلك. إنني شعرت عند حضورك أن شيئا جديدا وخاصا تسرب إلى حياتي. ولمت نفسي لأني لم أكلمها عن يسوع يوم الجنازة لكنها كانت في غمرة أحزانها والجو لم يكن مواتيا. أما الآن فهي عندي في غرفة الاستقبال فسوف أحدثها ماذا يعنى يسوع لي وكيف أنه ساعدني لتغيير طرق حياتي القديمة. وكيف أنه منحني شخصية جديدة تستمد حيويتها وكيانها من عبير روحه الكي الرائحة. وصرحت لي أرملة كريم أن زيارتي لها يوم الجنازة كان لها أثر كبير على نفسها وهي عنت الشئ الكثير لها. وقد جئت لأشكرك لشعورك معي يا بلقيس وحضورك بشخصك لتعزيتي! وهكذا انتهت هذه الزيارة القصيرة التي بدت لي ممتازة لا سيما أنها اتاحت لي أن أشهد لتلك الأرملة عن المسيح.
ولقد كان لهذه الزيارة المفاجئة أثران كبيرا: الأول أن شخصا آخر لاحظ التغيير الذي طرأ على حياتي بعد إيماني بالمسيح مخلصا وفاديا. والثاني توقعي أن تكون تلك البادرة فاتحة لإنهاء المقاطعة العائلية عني. وإن كانت تلك المقاطعة لم تنته بسرعة لأن لا أحد من العائلة زارني أو حدثني على الهاتف. وكلما قرع جرس الهاتف توقعت أن يكون المتكلم أحد أفراد عائلتي لكنه كان دائما أحج الأخوة المسيحيين. ودهشت عندما سمعت صوت أم ابن عمي الذي توفى مؤخرا وحضرت جنازته. فقالت لي تلك السيدة الثاكلة: إنني أستحسن المساعدة المعنوية التي قدمتها لزوجة ابني الراحل يوم جنازته فقد أخبرتني أنها تأثرت منك في أعماق قلبها وتكلمت إلى روحها بكلمات المحبة والعطف والمتبادل. وتجاه هذا الإطراء قلت أنا لم أفعل شيئا بل إن المسيح هو الذي عمل كل ذلك. وهكذا فإن وجودي مع المحزونين ساعة حزنهم جلب التعزية إلى قلوبهم. وهذا عمل الروح القدس المعزي لأن عملي لا يقارن بما يعمله المسيح لأولئك الحزاني. فهو الرفيق المساعد والروح المعزي للجميع.
وطوال الأسبوع الذي احتفل فيه محمود بعيد ميلاده السادس توافد الزائرون علينا من الأصدقاء والأقارب. ورغم أن زيارتهم كانت قصيرة إلا أنهم قصدوا مشاهدة محمود وتهنئته بعيد ميلاده وقد جلبوا له بعض الألعاب والحلوى. وإن كانت حجتهم الظاهرية رؤية محمود وتهنئته إنما قصدهم الحقيقي كان تخفيف آلام المقاطعة العائلية عني. وبذلك أزالوا ذلك الجدار الذي حجب الكثيرين من الأقارب عن التقرب مني. وفي ذلك الوقت كان قد مرّ عام كامل على قرار قبولي دعوة المسيح لأكون من إتباعه واحدي تلميذاته.
وتطلعت بشوق ولهفة إلى عيد ميلادي وهو يصادف عيد ميلاد المسيح. وقلت سأحتفل بهذا العيد بفرح زائد لأنه يكون قد مر عليّ عام كامل وأنا مسيحية. وكنت قد شاهدت الاحتفالات بعيد الميلاد في أوروبا عندما كنت أعمل مضيفة في تلك البلاد، ولم أكن أدرك عند ذاك المعنى الحقيقي لذلك العيد. فقلت الآن أنا مسيحية وعيد ميلاد المسيح هو عيد ميلادي للحياة الجديدة في المسيح. واستعرت من بعض الأخوة المسيحيين مغارة اصطناعية تمثل الرغيان. وعندما جاء المرسل ميتشل وزوجته جلبا لي شجرة سرو حية، فزينتها بالشموع والشرائط البيضاء. واجتمعنا حولها ورنمنا ترانيم ميلادية واحتفلنا نحن الأسرة الصغيرة بعيد ملك المجد. ولن أنسى رؤية محمود وهو يرقص فرحا ويقفز من شدة سروره بعيد ميلادي وميلاد المسيح.
واكتشفت بعض الخطأ في تصرفات الناس في عدم فهم المعنى الحقيقي للعيد, فأنه رغم البهجة التي ترافق هذه الأعياد لا يشعر الكثيرون بالمعنى الحقيقي لميلاد المسيح. وقلت في نفسي لماذا لا يكون لعيد الميلاد معنى غير هذه المظاهر الخارجية والزينات والبهرجات؟ لماذا لا يعبر هذا العيد عن التغيير الذي حدث فى حياتي! وعليّ أن أبرهن أن العيد له معنى روحي. ولأبرهن على ذلك سوف أقيم حفلة عامة أجعلها مشتركة للجميع وأدعو إليها أهل البلدة وبعض الأخوة المرسلين ليشعر الجميع حقيقة بمولد ملك المحبة يسوع. وفيما أنا أفكر بإقامة حفلة مشتركة أدعو إليها الأغنياء والفقراء إذا بشئ داخلي يقول لي: ألم تسمعي يا بلقيس الانذارات التي وجهت إليك بألا تجعلي إيمانك يظهر علانية للناس! وتذكرت ما قاله الجنرال عامر لي لدي زيارته لي: لا أستطيع أن أقدم لك الحماية إذا وقعت في خطر وحدث عليك اعتداء مع دمت تصرين على إعلان ارتدادك عن الإسلام.
أجل أن حفلة ميلادية مفتوحة للجميع ستجعلني عرضة لتهديدات متنوعة. وقلت: لماذا لا أستشير ربي وإلهي؟ فصليت وجاءني هاتف من السماء قائلا: إن حضور الأب السماوي سيكون أبرز إذا قمت بحفلة عامة أحياء لذكري ميلاد ملك المحبة ورب المجد يسوع المسيح. وعلى أثر ذلك قررت أن أقيم حفلة عامة مشتركة احتفالا بميلاد الرب يسوع. وحضر الكثيرون من المدعوين وتجمعوا حول شجرة الميلاد في غرفة الاستقبال.
تاريخ
رد: أقدر أقوله يا بويا
كما حضر بعض الأخوة المسيحيين ورنمت زوجة القس ترنيمة ميلادية مثيرة. كذلك حضر بعض أقاربي من بلدة راولبندي وفرحت لقدومهم وقلت في نفسي كيف يكون رد فعل أقاربي للحفلة. ولكونهم من طبقة اجتماعية عالية لم يرغبوا الاختلاط بأفراد من طبقة الفقراء والكناسين. لذلك عزلوا أنفسهم وجلسوا في غرفة مجاورة. وخيّم جو من السكون والبهجة على المكان وكنت أذهب من غرفة الاستقبال إلى الغرفة التي جلس فيها أقاربي. وكان موقفي كمن يذهب من حمام بارد إلى حمام ساخن. وعندما رأى أقاربي تصميمي على الاستمرار في الحفلة اظهروا بعض التساهل وقبلوا الاشتراك معنا، فجلسوا حول شجرة الميلاد يتمتعون بمنظرها الجميل وهي مضاءة بالشموع. وعند انتهاء الحفلة ران على المكان جو من التفاهم وروح الأخوة، ورأيتهم يمتزجون معا, الغني مع الفقير، المواطن مع الأجنبي، وتحدث المدعوون مع المساكين وجماعة الكناسين. وكأن الحفلة بشرت بسنة جديدة مغايرة للسابقة. وقد بانت أمامي طرق عديدة وجديدة، وشعرت أني أقف على مفترقها. وقد تقودني الخاطئة منها إلى الاضطراب. لذلك كان عليّ أن أختار الطريق الصالح والمستقيم.
وبعد هذه الحفلة أخذ نوع آخر من الأقارب والأصدقاء القدماء يزورني. وكانت غايتهم أن يقنعوني بالعودة إلى ديني القديم. وكنت أظنهم في بادئ الأمر ممن يهمهم التفرج على مباهج العيد، وزخارف شجرة الميلاد. واحترت كيف أجيب هؤلاء وبأي لهجة أتحدث إليهم. فهل أجيبهم بعدم الكلام وبالصمت التام؟ أم أتجرأ فأفصح عن أفكاري وأجرأ على المجاهرة بعقائدي. وبدّد حيرتي جواب الأب السماوي. وكان المقياس الصحيح لي معرفة ما سأعمل وكيف يجب أن أسلك هو تلمسي لحضور الله، فأن ابتعد هذا الحضور الإلهي معناه أنني على خطأ وإذا أقترب فمعناه أن مسلكي صحيح. وذاك هو الطريق المستقيم الذي يجب أن أسير فيه.
وذات يوم سمعت قرعًا على باب داري وكانت الساعة حول الثانية بعد الظهر. وأخبرتني ريشام عن زائر يروم مقابلتي. ولمست في قولها التردد والوجوم لأني كنت قد أخبرتها بآلا يزعجني أحد بين الظهر والساعة الثالثة. إذ في ذلك الوقت أرغب أن انشد الراحة والسكون. ولم أظهر رغبتي هذه بشكل الأمر بل بشكل رجاء. وقبل سنة كنت أصدر أو أمر مشددة أما الآن فلكوني من إتباع المسيح أصبحت أميل إلى اللطف والكلام المفعم بالمحبة. وأخذت أدرك أن الوقت ليس لي بل لربي وإلهي. لذلك إن حدث ما يستدعي وجودي فلا مانع من إزعاجي لأن الوقت ليس لي. وكان زائر الذي جاء يروم مقابلتي إنكليزيا وكانت رغبته أن يتحدث معي عن الله.
وكان هذا الزائر ينتظرني في غرفة الاستقبال. وشاهدته يرتدي لباسًا باكستانيا من سروال فضفاض وسترة من قماش أبيض. وكان وجهه أصفر اللون وشعره منفوشًا. ولم أتميزه بادئ الأمر لأنني خلته قطعة من أثاث البيت. واعتذر لي لأنه جاء ليزورني على غير ميعاد سابق. وأنه قدم من كراتشي خصوصا ليقابلني وهو من الذين تركوا دينهم المسيحي واعتنقوا الإسلام. ويلذ له أن يتحدث إليّ في شؤون هذين الدينين الذين عرفهما. واعتقدت في داخلي أن هذا مبعوث من قبل عائلتي ولأنهم يعرفون أني أحب الإنجليز فاختاروا لي هذا المرتد عن المسيحية عساه يستطيع إقناعي بالرجوع والعودة إلى الإسلام.
ولشد ما أفصح هذا الزائر عن الغاية من مجيئة فقال: إن شيئا واحد يزعجني حقيقة إذ أتعجب كيف إن مسلما يعتنق المسيحية، لا سيما وإن كتابهم المقدس مترجم وقد تغير وتبدل من كثرة الترجمات على ممر الأجيال وكأنه يعبر عن فئة من الناس الذين يقولون أن الكتاب المقدس قد تعرض للتشوية والتبدل بسبب كثرة الترجمات التي مرت عليه. فقلت له: لقد سمعت الكثير من أمثال هذه التهم الموجهة للكتاب المقدس. ولكن هل يستطيع أحد أن يدلني عن الفصول التي تغيرت أو الأماكن التي بدلت فيها الترجمات المعاني الأساسية فيه؟ وعلى أثر سماع هذا أنحني ضيفي على كرسيه ويداه تداعبان أطراف ذلك الكرسي ولم يتفوه بشئ أو يجب بكلمة.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وتابعت قولي: إنني أخشى ألا تكون هناك أجابة على أسئلتي هذه! وفي المتحف البريطاني نسخ قديمة من الكتاب المقدس نشرت حوالي 300 سنة قبل أن يولد النبي محمد، وهذه النسخ القديمة كلها تطابق ما هو موجود لدينا الآن. ويقول الاخصائيون في أمور الكتاب المقدس أن لا شئ أساسي تغير عن الأصل. وهذا مهم لي شخصيا لأن هذا الكتاب هو كلمة الله الحية. وهو يتكلم إليّ شخصيا، ويغذي روحي ويرشدني إلى طريق الحياة الأمثل. وعندما سمع الزائر هذا التشديد مني على صحة الكتاب المقدس، وعن رغبتي في معرفة الفصول التي جرى فيها تبديل أو تحرير، أغلق فمه ولم يجب بشئ. لكنه عاد فقال: أنت تقولين أن الكلمة ما زالت حية. قلت: نعم لأن المسيح هو كلمة الله الحية. والقرآن الكريم نفسه يشهد بأن المسيح من روح الله. وعلى الأثر تركني هذا الزائر الإنكليزي مع أنني دعوته أن يعود لزيارتي لمتابعة مثل هذه الأحاديث الروحية عن كلام الله والكتاب المقدس. لكني لم آر وجهه مرة ثانية للآسف.
وحظيت مرة أخرى بزائر من نوع ثان. فقد جاء بقصد التحاجج لا سيما فيما يتعلق بالثالوث الأقدس. وقال: المسيحيون يعبدون ثلاث آلهة بدلا من إله واحد. وهذا الثالوث في رأيه يشمل الله ومريم ويسوع. فقلت له أنت مضطلع على القرآن الكريم وأنك تقرأه بلا شك. أفلا تتذكر كيف أن القرآن نفسه ينعت المسيح بأنه روح الله. ولابد وأنك سمعت عن المتنسك الهندي الشهير ساهر سندر الذي تراءى له المسيح في رؤيا وفسر له معنى الثالوث. لقد اهتدى سندر إلى المسيحية بعد أن كان من الهنود السيخ المتعصبين, والتفسير الذي حصل عليه هذا المتنسك هو أن الشمس واحدة لكنها مصدر للنور والحرارة. وإن كانت الشمس هي التي تعطي النور والحرارة ألا أن الحرارة ليس نورا ولا النور حرارة. لأن لكل منهما شكل خاص أو عمل خاص. وهكذا في فكر الثالوث الأقدس هناك الله والمسيح والروح القدس. والأخيران منبثعان عن الله ويختلفان شكلا لكنهما يعطيان نورا للعالم وحرارة للمخلوقات. والثالوث ليس ثلاثة أشخاص بل هم أقانيم ثلاثة لشخص الله. وكما أن الشمس واحدة والحرارة والنور مظهران، هكذا فإن الله وحدة والمسيح والروح القدس اقنومان يتعاونان على إظهار الله بكامل قدرته وجبروته وبعظيم مجده وسنائه.
وساد جو الغرف سكوت ولما فرغت من المحادثة وجدته مستغرفا في التفكير. وأخيرا نهض من مكانه وشكرني لأني أفسح له المجال وأعطيته بعض الوقت للتحدث في مثل هذه الأمور الجوهرية. وشاهدته يسير في طريقه بعد أن ترك بيتي وقلت: هل أمثال ذلك المرتد الإنكليزي أو هذا المتحمس لأمور الدين مبعوثون من الله؟ ولم أكن لأهتم بالنتائج لأن الأمر الذي كان يهمني هو الطاعة. فالمهم عندي هل يريد الله ذلك مني؟ وهل هي رغبته أن أتكلم لهذه الجماعة في هذه الأمور؟ فأنا طوع بنان ربي وإلهي! وكل ما أعمله يجب أن يكون نابعا من عنده لأني أسير حسب وحيه وإرشاده.
وبمجئ الربيع أعطاني الله طرقا أخرى للشهادة إذ أتيح لي أن أذهب للاهور وبعد أن زبت ابني خالد هناك ابتعت مائة نسخة من الكتاب المقدس لأوزعها لمن يلذ له مطالعتها. كما اشتريت كمية من الكراريس الدينية، وأخذت أوزعها في شتي المناسبات والاجتماعات. وقد وضعت البعض منها في الاستراحات العامة والفنادق. ويوما ما عندما دخلت إحدى الاستراحات وجدت قسما من هذه الكراريس التي وضعتها هناك للمطالعة مطروحة بين النفايات. فرفعت يدي وقلت لماذا يحصل مثل هذا!؟! وكثيرون مما اجتمعت بهم استمعوا إلى شهادتي عن المسيح. أجل لقد انتهزت كل فرصة سانحة لأشهد للمسيح ولا أنسى مقابلتي لذلك الإنكليزي المرتد، أو المتحمس الذي جاء يحاججني عن صحة الثالوث الأقدس أو القائد عامر عندما قدم لزيارتي. لقد تكلمت مع كل هؤلاء عن وجود الله وظهور نور حقه لي. واستغربت أن كل هذه الشهادات لم تأت بثمر جيد، لكن قلت إنما علينا أن نبذر بذورا ونترك عملية النمو لله.
رد: أقدر أقوله يا بويا
والتجأت للصلاة لأنها متنفسي الأوحد. وفيما أنا أصلي شعرت أن المسيح حاضر ومستجيب لطلباتي. وشعرت بروحه تملأ جو الغرفة وتفيض علينا بالراحة والاطمئنان. وسمعت في قلبي سؤالا يوجهه المسيح لي إذ يقول: فكّري يا بلقيس في عدد المرات التي سمحت لك بالاجتماع بأقاربك للشهادة، ولا تنسي الزوار الذين جاءوا ليباحثوك، وسؤالي هل كنت تشعرين بحضوري في شتى هذه المناسبات؟ وهل تراءى لك مجدي وأطعت أوامري، وعملت إرادتي الإلهية؟ أجبت بكل إتضاع: نعم يا سيدي الرب. لقد لمست مجدك بسنائه الباهر, وسمعت صوتك الإلهي يشجعني ويهديني إلى الطريق الأمثل الذي يجب أن أسلكه! فقال: إذا هذا كل ما تحتاجينه وهذه هي الطريقة التي يجب إتباعها مع أصدقائك وأقاربك وزائريك فلا تقنطي إن كنت لا تحصلين على نتائج سريعة. فليست النتائج هي المشكلة، لأن كل ما يجب أن يزعجك هو حضوري أو عدمه. فأنشدي حضوري دائما ولا تبالي بالنتائج فهي تأتي تلقائيا.
وتابعت تأدية شهادتي بطرق مختلفة وقد كان هذا المنهاج مثيرا لي ومشجعا لاستمراري في الشهادة المسيحية. فقد أزال الرب عن عيني فكرة النتائج وذكرني بحضوره أو عدمه. وبدأت أسر بالاجتماع مع الأصدقاء والأقارب ولا أشعر بمغبّة الاخفاق. وتعلّمت أن أنتهز الفرص للشهادة سواء أكانت المحادثة تدور حول مواضيع سياسية أم اجتماعية، وكنت أشرع إلى الله أن يلهمني ما أقول وأية أسئلة أختار، وأنسب الأجوبة للسائلين. وعلى سبيل المثال لما كنت أتحدث إلى قريبة لي ذكرت زوجي السابق. وقد أصبح الآن سفير لباكستان فى اليابان. وكنت أرجو أن لا أكون قد أسأت إليه بشيء في تصرفاتي. وسألتني قريبتي: كيف تستطيعين أن تغفري له وقد قام بطلاقك وهذا كان أمرًا صعبًا عليك. فقلت لها: أنا وحدي لا أستطيع أن أغفر له لكني طلبت من سيدي المسيح أن يساعدني ويسوع ساعدني على ذلك. وهو دعانا أن نأتي كي يساعدني ويسوع ساعدني على ذلك. وهو دعاني أن نأتي بأثقالنا وأحمالنا ونضعها بالقرب منه. وربما سمعت قوله الشهير: تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. فهو الذي رفع حمل الكراهية عني، وأزاله عن كاهلي، ومنحني روح المحبة والتسامح.
وتأثرت قريبتي بأقوالي ومن حديثي عن المسيح. وقالت: هذا ما يعنيه الدين الحقيقي، وهذه علامات المسيحية العملية! وأني كنت أجهل مثل هذا من قبل. وإذا كانت المسيحية بهذا الشكل الرفيع فسأجرب أن أتعلم عن يسوع وأن أطلع على تعاليم المسيحية! ولكن كما يبدو لم تتابع قريبتي ما وعدت به ولم تستمر في مواصلة التعرف على المبادئ المسيحية. وكنت في بعض المرات ألاحظ أن مجد الله يختفي عني فأقع في حبائل إبليس. فهو يزين لي بأن حججي قوية وما أقوله جميل وجذاب. وسألت مرة لماذا أعتقد أن كل الحق معي مع أننا كلنا نعبد نفس الإله. فسواء كنا مسيحيين أم مسلمين، بوذيين أم برهميين فنحن ندعو ذلك الإله بأسماء مختلفة ونقترب منه بطرق متنوعة في حين أنه يبرز في النهاية نفس الإله. قلت معلقة على هذا أنت تعني أن الله مثل قمة الجبل وكل الطرق يمكنها أن توصلنا إلى تلك القمة. ولتقبل هذا التشبه أن الله مثل قمة الجبل لكن هناك طريقًا واحدًا يؤدي إلى الوصول إلى تلك القمة وهي طريق المسيح. فهو القائل أنا هو الطريق والحق والحياة. لا يأتي أحد إلى الأب إلا بي. وهكذا في جميع أجوبتي كنت أجعلها ترتكز على روح الله وتنبع من الكتاب المقدس. ولست أدري مدى تأثري على محدثي الذي جاء ليكلمني عن الله أكان قد أقترب أكثر إلى الله أم لا؟ لكني تأكدت من شئ واحد أني تقدمت خطوة كبيرة في الطاعة والإصغاء.
وحدث ذات ليلة مفاجأة خطيرة واختبار مريع لم أكن قد حظيت بمثله بعد أن أصبحت مسيحية, إذ حدث وأني أستعد للنوم أن شعرت بقوى شريرة تقترب من نافذة غرفتي. وقلت ربما كان هذه أبالسة وأرواح شريرة، فارتميت على الأرض وطلبت من ربي أن يغطي جسدي بجناحي حمايته، وعلى الأثر شعرت برداء سماوي يغطيني وقد احتضنني تحت جناحيه كما تحتضن الدجاجة فراخها. وهكذا عاد الدفء إلى جسدي، والراحة والاطمئنان إلى قلبي، ونهضت وإذا أعوان الشر قد ابتعدت عن نافذتي. وتوجهت ثاني يوم لبيت المرسل ميتشل لأطلعه على هذه الرؤية المريعة. وتوجهت بسيارتي وكانت الشمس مشرقة والطبيعة جميلة. ورغم هذا عندما أتذكر ما رأيت كنت أرتعب من شدة الخوف. وعندما وصلت البيت ترددت في اخبار هذه العائلة بما رأيت لكن سينوف لا حفظت الاضطراب على وجهي وسألتني: هل من شئ خطير حدث يا بلقيس؟ قلت: إن أعجب من نفسي إذ أجعل الخوف يلازمني رغم أنني أصبحت مسيحية والمسيحية تستهدف عدم الخوف بل سكينة النفس وسلام القلب.
فقالت سينوف: لست أفهم تماما ماذا تعنين. فنهضت وجلبت كتابي المقدس وفتحت لها ما ورد في الإصحاح السادس من رسالة بولس إلى أهل أفسس حيث يقول الرسول المطوّب: البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس. لأن مصارعتنا هي مع أجناد الشر الروحية في السماوات. ثم رويت لها بالتفصيل ما جرى لي في تلك الليلة. وما تراءى لي من أجناد الشر. وقلت وأنا أصعد ضحكة عصبية: لست أدري إن كان ضروريا أن نتحدث عن هذه الأمور. والأفضل أن نطويها جانبًا. وكنت قد شرحت لهذه العائلة ما تراءى لي في تلك الليلة. وأردفت معلقة على ذلك: ربما كنت متخومة من العشاء الثقيل فتصورت أنني رأيت ما رأيت..
وكانت عائلة أولد في بيت المرسل وقد رغب أولد أن يسمع تفاصيل الرؤية المريعة وقال: لا تقل لي من خطورة هذا الاختبار يا سيدة. فهناك قوى للشر فائقة للطبيعة ومثل هذه الأمور تحدث في الحياة. نعم أن وجود هذه القوى الشريرة أمر حقيقي لكن الله لا يسمح أن نتغلب على نفوس المؤمنين. وأشار كيف أن الله في العهد القديم سمح لأيوب أن يجربه إبليس. حتى أن المسيح نفسه جرب أربعين يوما وهو في البرية من الشيطان. إن الله رتب هذه الأمور لتكون محكا لنا. ولنذكر أنه في كلتا الحالتين انتهى بالنصرة على الشيطان، والتغلب على روح الشر، وانتصار المجربين.
قالت بلقيس: أذكر مهاجمة قوى الشر لي قبل المعمودية ويبدو أن هذه كانت خطة الله. فهو لم يشأ أن يتركني وحيدة وأن أتعلّم لوحدي. إنني انعزلت عن الناس وقاطعني أقاربي وأصدقائي لكني لم أتحطم ولم أصبح ضحية لقوى الشر. لقد انقطعت عن جذوري إنما وجدت لي جذورًا أعمق في ديانة أخرى. ومع إله رحيم أن موطني هو السماء، وملجأي هو رب الوجود. وجميع هذه التجارب أثرت عليّ وجعلتني أعتمد أكثر فأكثر على الله الذي هو الأب السماوي لجميع الناس.
رد: أقدر أقوله يا بويا
بعد بضعة أسابيع من احتفالاتنا البهيجة بدأت رياح التغيير تهب علينا. فقد علمت من اجتماع الأحد للصلاة أن كين وماري سيتركان البلاد في إجازة لمدة سنة. وأول ردّ فعل لديهم كان الخوف عليّ. وخسارة فقدانهما لي، وابتعادهما عني. وقلت في نفس: ماذا أفعل بدونهما، وقد تعودت على عشرتهما. إنما تعزيت أن ميتشل وزوجته سيبقيان. وكنت أعتمد على العائلتين المؤمنتين، في حين أن آل والد ساروا معي في درب الحياة، وشاركوني مسراتي وأتعابي وأحزاني. ولا بد وأن تكون ماري قد قرأت ما جال في خاطري إذ تقدمت مني وأمسكت بيدي والدموع تملأ عينيها وهي تقول: عليك يا عزيزتنا أن تدركي أن هذه هي سنة الحياة. فهي لقاء وفراق، وأوضاعها متقلبة، وليس ثمة شئ دائم في هذه الدنيا سوى الرب يسوع. وأكد لي زوجها أن الله لا يتركني وحيدة، وهو يحيط دائما بدائرة أمني واطمئناني. فلا تحزني من الفراق، فهذه سنة الحياة إنما تهللي لأن الله معك ولن يتركك.
وعندما جاء يوم الفراق تميّز ذلك اليوم بالقتام والوجوم. ولشد ما حاولت أن أملأ هذا الفراغ بقوة الإيمان. وكان الفراق أليما إنما إيماننا أوحي لنا بالشجاعة والثبات رغم أن قلوبنا فقدت أحباء لنا في الرب. وشعرنا أننا خسرنا الكثير بفراق كين وماري العزيزين على قلوبنا. وعندما عدت إلى منزلي شعرت بالفراغ الذي أحدثه غياب هذين الآخرين. وقلت سأعود وحيدة وأعيش مع جماعة معادين لي، إنما كان عزائي هو أن ميتشل وزوجته ما برحا قريبين مني ويقطنان بلدتي واه..
وسرعان ما فتحت طريق الفراق بابًا ثانيًا لي للخدمة والشهادة. إذ ما عتّم حتى تلفن لي الدكتور باكش ليقول لي إن الدكتور ستانلي مونهيم، ممثل جماعة الرؤيا العالمية، ومركزها في كاليفورنيا يرغب في زيارتي. وما كنت قد سمعت عن هذه المنظمة العالمية، إنما قلت إن أبواب بيتي مفتوحة للجميع، حتى لأولئك الذين يتوقون أن يروا مسلمًا أهتدي إلى المسيحية. وما كانت سوى ساعات حتى حضر الدكتور مونهيم. ولم تكن رغبته الإطلاع على طريقة اهتدائي للمسيحية، ولا رواء عاطفة الاستغراب عن مجريات حياتي، إنما سألني إن كنت أرغب أن أزور مدينة سنغافورة لأشهد للناس هناك عن أمر اهتدائي للمسيحية ولقائي مع الأب السماوي. وعلمت منه أن بلي جراهام المبشر العالمي الشهير كان عازما أن يقوم بحملة تبشيرية في تلك الديار، وأنه يقصد أن يعقد مؤتمرًا في بلدة سنغافورة يحضرها أسيويون من مختلف البلاد الشرقية لأن المؤتمر كان يستهدف اجتماع الفئات المؤمنة من أقطار أسيا المختلفة. وسيحضره يابانيون وهنود وأندنيسيون وكورينون وصينيون وباكستانيون. وسيكون شعار المؤتمر: المسيح يزور أسيا. ووجودك يا سيدة بلقيس بين المتكلمين في ذلك المؤتمر سيكون له وقع عظيم، وستكون شهادتك للآخرين مصدر وحي للجميع. فقلت في نفسي: ألا يكفيني أن أشهد في بلدتي واه؟! وكيف أذهب إلى تلك البلدة النائية؟! فأجبت الداعي: سأصلي من أجل ذلك. وتركني وهو يشدد بقبولي الدعوة والذهاب للشهادة إلى سنغافورة.
وبعد أن تركني الدكتور مونهيم جلست على شرفة منزلي وأنا أفكر في هذه المسألة. وصليت إلى الله ليرشدني إلى طريق العمل. وكان جزء مني يقول: هذه فرصة ممتازة يترتب انتهازها. وجانب أخر مني يحذرني حتى من الأفكار بها. ثم حضرتني فكرة مفاجئة وهو أن جواز سفري يحتاج إلى تجديد، وفي الباكستان عند ذاك كان تجديد جواز السفر يتخذ وقتا طويلا، ويمر بمعاملات روتينية عديدة وطويلة. وقلت قد تكون هذه الحجة صوتًا من الله لرفضي الذهاب. وإذا تم تجديد جواز سفري بسرعة فمعناه أن الله يريدني أن أذهب إلى سنغافورة. وللحال ملأت أوراق طلبات تجديد جواز السفر وأرسلتها للمسؤولين. وبعد أن وضعت المعاملة في البريد قلت إن الوقت الذي ستستغرقه المعاملة يعنى الغاء ذهابي، لكن من الغريب أنه لم يمض أسبوع حتى كان جواز سفري قد عاد إليّ. وقد تجدّد رسميا ووقعه المسؤول الأكبر في الدولة عن دائرة المهاجرة.
وبعد بضعة أسابيع من تجديد جواز سفري عزمت على التوجه إلى سنغافورة من أجل الشهادة للمسيح في المؤتمر العالمي المنعقد هناك. فودعت حفيدي محمود، وقصدت لاهور حيث اجتمعت بولدي خالد. ثم انتقلت إلى ميناء كراتشي ومن هناك أخذت الطائرة التي أقلتني إلى سنغافورة. وكان ذلك عام 1968 وقد مرّ عام ونصف منذ أن ظهر الله لي، واهتديت إلى المسيحية. ولمدة سنة ونصف وأنا أهنأ بحياة جديدة مستضيئة بنور الله. ولم يكن ابني خالد مهتما بالاكتشافات الروحية التي حصلت لي، أو بالظهور الإلهي الذي تراءى لي. والآن وقد بلغت الثامنة والأربعين من عمري تراني أقوم برحلة إلى بلد ناء، فلم يمانع خالد في ذهابي لأنه كان يشعر أني والدته، وما برح يبادلني الحب والاحترام. وتمنى لي سفرة سعيدة وموفقة.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وشعرت وأنا في الطائرة أنني قريبة من السماء، ولا غرابة فأنا معلقة بين الأرض والسماء، والطائرة تطير فوق الغمام، ومرتفعة عن أرضنا المملوءة بالآلام والخطايا. وكان على الطائرة عدد كبير من المسيحيين، لكنني لم أعجب من سلوكهم. واستمعت إلى جماعة وهم يرتلون يصفقون بأيديهم ويهتفون هللويا، وقد بدت لي أن أفراحهم هذه كانت مصطنعة. ومثل هذه المظاهر لا تلذ لي كثيرًا. وشعرت أن رحلتي هذه كان لها معنى شخصي، لا مجرد متعة وسفر. إنها كانت دعوة من السماء لي لأشهد للآسيويين بالحياة الجديدة التي دعيت إليها. وكدت أيأس من دعوتي هذه. والناس حولي بعيدون عن الله، ودينهم ظاهري. فقلت أما كان يكفي أن أظل في ضيعتي وأقتصر على الدور الذي أمثله في بلدتي واه؟! ولم أكن أحب أن أظهر أمام المئات أو الألوف من الناس لتأدية شهادتي أمامهم. وربما يكون ذلك تباهيا مني، وربما يظن أولئك الأغراب إنما أقوم بهذا العمل لمنافع شخصية.
وعندما ركبت الطائرة وتطلعت من نافذتي إلى العالم تحتي، رأيت بلادي تغيب عن الإنظار، والباكستان تتواري وراء الضباب. ورغم أنني كنت عالمة بأني سأعود إلى بلدي بعد بضعة أيام، إلا أن شيئا داخليا أوحى إليّ أن هذه ربما تكون البداية في رحلاتي التبشيرية. وأنني سأعود جسديا إلى بلادي إنما روحيا فأنا للعالم أجمع، وشهادتي يجب أن تنطبق لإبناء هذه الدنيا الواسعة. وتعزيت إذ وجدت في شركة الأخوة المسيحيين الحقيقيين موطنا جديد لي، ورفقة في حياتي.
وعلى أثر وصولنا مطار سنغافورة توجهنا رأسا إلى قاعة الاجتماعات وكان المؤتمر قد بدأ. ودهشت للمئات والآلاف الذين جاءوا لحضور هذا المؤتمر الآسيوي المسيحي. وكان هذا العدد من الحضور أكبر عدد من لناس الذين أراهم يجتمعون في مكان واحد. ودخلت قاعة الاجتماعات، وإذا أصوات المرنمين تتعالى مسبحة الخالق بالنشيد الذي مطلعه، ما أعظمك يا الله!! وللحال شعرت بروح الله تغمرني وكان هذه الشعور يختلف عما شعرت به سابقا. واستهدفت للبكاء ليس من الحزن بل مثل هؤ
ويوم الأحد طلبت من محمود أن يظل خارج غرفة الاستقبال خشية أن يشوه منظرها بالعابه المتناثرة. وملأت المزهريات بالأزهار، ورتبت السجاجيد العجمية ذات التقوش الجميلة. وأزلت الغبار عن المفروشات ومن قرب النوافذ. وعندما حان موعد الاجتماع سمعت السيارات تقف عند المدخل، والبوابة تفتح على مصراعيها. وتوافد المدعوون وكنا في الاجتماع 12شخصا. فبدأنا بالترنيم والصلوات وقراءة فصل من الكتاب المقدس. ثم تكلم البعض عن اختباراته الروحية وما صنعه الله في حياته. وكان محمود يجلس في غرفة مجاورة ويصغي بهدوء لما يجري في الاجتماع وتصورت الآلاف من الأشخاص غير المرئيين الذين لابد وأن يرافقونا في الابتهالات والصلوات لله الأب السماوي. بأرواحهم إذ يتعذر وجودهم جسديا.
وبعد الاجتماع تحسست أن الأخوة المسيحيين كانوا قلقين على سلامتي فسألتني ماري: أما زلت قلقة على مصيرك، ومهتمة كثيرا بما حدث لك من تغيير في حياتك؟ ابتسمت وقلت لا أستطيع أن أعمل شيئا لأنه إذا أراد أحد أن يؤذيني ففي وسعه أن يفعل ذلك بسهولة لأن البيت ليس محصنا كفاية. وعلى الأثر نهض كين ليتفحص الأبواب والنوافذ فوجدها غير منيعة. فشبكة الأسلاك الموضوعة على النوافذ مع الزجاج لا تحول دون دخول أي معتد للبيت. وهز رأسه وقال: فعلا إن هذه الوسائل لا تضمن لك الحماية الكافية يا سيدة بلقيس! وإني أقترح وضع قضبان من حديد لتدعم الأسلاك بسهولة. فأجبته سأنظر في هذه الأمور يوم غد. وعندما وعدته بذلك تصورت في مخيلتي اختفاء مجد الرب من حولي. وقلت في نفسي: هل اختفاء الله وعدم حضوره راجع إلى تفكيري الخاطئ، أو هو واقع حقيقي؟ إنما اختباري كان أنه لما أبتعد عن خطة الله يبتعد الأب السماوي عني ويتواري.
وبعد أن تفرق المجتمعون شعرت بأني أسعد من المعتاد، إذ أن اجتماع الأخوة المؤمنين بعث فيّ حيوية جديدة. وعندما فكرت ثاني يوم باستدعاء أحد الحدادين من القرية لوضع بعض القضبان على النوافذ إذا بي أشعر باختفاء الحضرة الإلهية عني وانحجاب مجده الاسني عن منزلي. فقلت ربما كان اختفاء الله راجع لاستسلامي للخوف. وعندما بادرت إلى استدعاء أحد الحدادين بدأ أهل القرية يتهامسون فيما بينهم عن خوفي ومحاولتي حماية المنزل من المعتدين. وكنت أسمع تقولات الناس وهم يعلنون قائلين: ما نوع هذا الدين لأن المرء إذا أصبح مسيحيا يبدأ يعيش في الخوف. وقلت هذا هو السر في انحجاب نور الله عني ساعة خوفي وارتباكي. ونمت تلك الليلة نوما هادئا بعد أن اتخذت قرارا بأن أطيع الله وأن أعدل عن وضع قضبان حديدية على نوافذ بيتي. وكنت متأكدة أن هذا هو القرار الصحيح في هذا الموضوع.
وصحوت أثناء نومي على صوت مفاجئ. فجلست في فراشي لكن بدون أن يلازمني أي خوف أو رجل. وللحال ظهر أمام منظر يخلب الألباب إذ شاهدت من خلال جدران غرفتي الحديقة بأسرها وكانت هذه الرؤية بطريقة فائقة للطبيعة. وكانت الحديقة مغمورة بضوء أبيض لامع فرأيت كل ورقة شجر أو زهرة في البستان. وقد خيمت على الحديقة سكينة وجللهاء الصفاء. وسمعت أبي السماوي يكلمني ويقول: لقد فعلت الشئ الصحيح يا بلقيس. وتأكدي أنني معك دائما! وعلى الأثر تواري ذلك النور الفياض وانحجب ضياء الله، فأشعلت مصباحي ورفعت يدي إلى العلاء شاكرة ربي وحماية أبي السماوي الذي تراءى لي وسط ظلام الليل وأضطراب الحياة. وهتفت من أعماق قلبي قائلة: لا أستطيع يا أبتاه أن أشكرك كفاية لأنك تعتني بي كثيرا ولا تتركني وحيدة!
واستدعيت صباح ذلك اليوم الخدام وقلت لهم في وسمعكم أن تناموا في بيوتكم إن أردتم، أما أنا ومحمود فسنبقى في هذا البيت الكبير وحدنا. وتبادل الخدام نظرات الاستغراب والدهشة بين بعضهم البعض، فبعضهم فرح لهذا الخبر، بينما بات البعض الأخر مشدوها ومذعورًا. وكان هذا قرارا حازما مني أني لا أروم حمايتي بنفسي، فالله هو الذي يحميني، والحماية التي انشدها مصدرها ذلك الأب السماوي. وعلى أثر اتخاذي مثل هذا القرار عاد المجد الإلهي للظهور وأخذ أمد بقائه يطول.
وصدف ذات يوم والجارية ريشام تمشط شعري أن قالت: لقد سمعنا يا سيدتي أن ابن عمتك كريم قد توفى. وكان كريم هذا هو الذي وعد بأن يأخذ محمود لصيد السمك، وليدربه على هذه الهواية. وكنت ممن أحب هذا الشاب الناشئ والطموح. وقلت في نفسي بعد أن تأكدت من هذا الخبر المشؤوم من ريشام، لماذا أبحث عن وفاة كريم الخدام، وربما كانت هذه مجرد إشاعات أو ربما كانت ريشام مخطئته في الاسم، وكان المتوفى شخصا أخر باسم كريم. وبعد الاستفسار والتحري عرفت أن هذا الخبر صحيح وليس إشاعة, وأفادني من أرسلته للاستفسار بأن كريم مات الليلة الماضية أثر نوبة قلبية مفاجئة وأن جنازته ستكون في ذلك اليوم, وتألمت كثيرا عندما عرفت أن عمتي طلبت من عائلتها أن يخبروني بذلك، لكن لا أحد من العائلة نفذ طلبها. وجلست قرب النافذة أفكر في هذه المقاطعة العائلية حتى عند وفاة أحد المقربين الأعزاء. وقلت ها أنا محرومة من حضور الحفلات العائلية لمدة ستة أشهر، ولم تكن المقاطعة قد أثرت عليّ مثلما أثر عليّ هذا الحادث وحرماني من حضور جنازة أحد الأقارب الأعزاء على قلبي.
وفيما أنا جالسة على الكرسي الهزاز قرب فراشي رفعت قلبي بالصلاة لله. وكعادتي بعد كل صلاة كنت أحظى بجواب من أبي السماوي. وما أن فرغت من صلاتي حتى شعرت بعباءة توضع على أكتافي وتجلب الدفء لجسمي. وفي غمرة هذا الشعور والنشوة النورانية تسربت إلى ذهني فكرة مفاجئة وجاءتني خطة غير عادية وجرئية. فقلت إن هذه هي خطة الله وهذا وحي من العلي. وها هو أبي السماوي يكلمني.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وبذكري وفاة كريم جلست قرب نافذتي المطلة على الحديقة مستعيدة لذاكرتي أيام الصبا عندما كنت ألعب مع كريم رفيق صباي، وإذا ريح موسمية فجائية تهب، وتحني الأشجار العالية، وترعب المواطنين. وكثيرا ما يحدث هبوب مثل تلك الرياح العاصفة في الهند. وكأن هذه العاصفة التي الرياح العاصفة في الهند. وكأن هذه العاصفة التي هبت وأنا جالسة قرب نافذتي استعيد فيها الذكريات الماضية كانت رسالة لي ن السماء. وسمعت صوتا يحدثني في وسطها وكان واضحًا إذ أنه صوت الله. ولشد ما سمعت أصواتا عديدة تقول لي أنه من عدم اللائق ذهابي لحضور جنازة كريم. فذهابي ربما يزيد من أحزان الفاقدين ووجودي في الجنازة قد يسئ إلى من هم في الذهاب وإذا حضور الله الاسنى أخذ يتواري عن أنظاري، فأحسست بأن هناك علاقة ويظهر أن الله يريدني أن أحضر الجنازة وأن أقوم بهذا العمل الفائق للطبيعة. وأذن فسوف ألبي رغبة الله ولأذهبن هناك رغم المقاطعة العائلية، ولأواجهن الأقارب رغم كل عداوة أظهورها لي.
وأصعدت نهدات عميقة ونهضت من مكاني وتركت النافذة وقلت بصوت عال: لقد بدأت يا إلهي أتعلم أن ألبي أوامرك، وها هو شعوري الداخلي، وإحساس ضميري يقولان: إن هذا العمل صالح. ويظهر أن أبي السماوي يقول لي أن أذهب لحضور الجنازة.
وما أروع هذه الاختبارات التي أخذت أتحسسها عن حضور الله وإبتعادة عني! وكنت على وشك تفهم هذا العمل الإلهي، واستجلاء السر في حضور الله وتواريه. إنما همي الأكبر كان الحظوة بالتمتع بحضور الله وزمانا أطول وفي فترات أكثر. وهذا درس بدأت أتعلمه ولم أتحقق إن كنت في الشهرين القادمين سأحصل عليّ هذه النعمة، لتقودني خطوة إلى الأمام في فهم مقاصد الله، والتعلم متى يكون حضور الله وظهوره لي، ومتى يكون ابتعاده وتواريه عني.
وأخيرًا ذهبت إلى بيت الفقيد كريم، ورغم أنني وعدت الله بأن أطيعه شعرت كأني مثل الحمامة المتوحدة المطروحة أرضًا فريسة لعدد من الأفاعي والثعابين. وتنفست عميقًا قرب البيت الحجري الذي عرفته منذ الصغر، وعرفت فيه الجدران المبيضة بالكلس، والسقف المزين بالنقوش. ذلك البيت الذي طالما اجتمعت فيه مع كريم ونحن صغار نلعب ونلهو معا. وعندما دخلت أعتاب البيت شاهدت أهل القرية يتطلعون إليّ بعيون فاحصة، وكانوا جالسين حول جثمان الفقيد الراحل. ورغم شيوع الحزن وهيمنة جو من الهدوء على المكان كنت ألمس نظرات السخرية تصوّب إليّ من معظم الحاضرين. حتى إن ابنة عمي التي كنت وإياها من أعز الأصدقاء حدجتني بنظرات ساخرة. ثم أشاحت بنظرها عني وبدأت تتحدث مع جارتها وكأنها لا تحب أن تحدثني أو تراني.
وجلست على إحدى الفرشات الموضوعة على الأرض، والمحاطة بعدد من المخدات والوسائد مثل عادة القرويين من أهل الشرق. وعدّلت الساري الذي كنت أرتديه وجلست أرضًا، وكأن حضوري جعل السكون يهيمن على المكان، لأني غدوت قبلة الأنظار حتى إن الذين يسبحون الله بمسابحهم تمجيدا له توقفوا عن ذلك النوع من التمجيد وتطلعوا إليّ. ورغم أن اليوم كان من أيام الصيف الحارة، ورغم أن الغرفة كانت مكتظة بالحضور شعرت بموجة من البرد تنتابني. فلم أنبس ببنت شفة بل أغلقت عينيي، ورفعت صلاة خافتة لأبي السماوي. ثم قلت: يا يسوع كن معي لأني أمثلك لدي هؤلاء الأصدقاء والأقارب، وكلهم حزين لفقدان هذا العزيز كريم، والقريب الحبوب من الجميع.
وخيّم صمت وسكوت على المكان دام حوالي ربع ساعة. ثم واصل الحضور حديثهم، وبدأوا يعزون الفاقدين. وشعرت أن الوقت قد حان لي لأقوم وأعزي امرأة كريم، فتركت المكان الذي كنت متكئة فيه ودخلت الغرفة الجاورة حيث كان جثمان كريم مسجى على حمالة كما هي العادة عند المسلمين، إذ لا يوضع الجثمان في تابوت مقفل، لأنه على حد تعبيرهم لابد للمتوفى من الجلوس ليتسنى له الإجابة عن بعض الأسئلة للملاك الذي يجئ له ليستنطقه لدي دخوله السماء. وعلى الأثر تقدمت من أرملة الفقيد وعزيتها، وتطلعت إلى وجه الراحل الهادئ وجسده المسجى والملفوف بالأكفان البيضاء. ورفعت دعاء لله من أجل روح هذا الفقيد. وبالفعل كنت أتمنى من كل قلبي لو استطعت التحدث معه، لكنه غدا في عالم آخر.
وسمعت صلوات وأدعية من أفراد عائلة هذا الفقيد، وتعزيات الأقارب، وأدعية المشيعين. ووقفت سيدات وتلون آيات من القرآن الكريم، وكان من المفروض أن يشيع الجثمان إلى مثواه الأخير قبل الغروب. ويرافق المشيعون النعش حتى المقبرة، وهناك يضعونه على الأرض حيث يتلو الأمام آيات من القرآن الكريم. وفيما كنت أستمع إلى التنهدات المواسية والتعزيات الرقيقة، والأدعية الإلهية، شاهدت أم كريم تجثو أمام النعش وهي وحيدة فشعرت بدافع يدفعني أن أتقدم نحوها وأرفع إليها تعزياتي. وفكرت في نفسي هل أتجاسر أن أقف بجانبها؟ وهل من المناسب أن أقترب منها أمام هذه الجماهير الساخطة عليّ؟ إذ ربما اعتبروا ذلك تحديا صارخا مني. وهل من المناسب أيضا أن أقرب تعزياتي بتعزيات من الأب السماوي؟ ولكني تجاسرت وقلت إن وجودي كمسيحية بينهم لابد وأن يستدعي وجود روح المسيح في ذلك المكان، وعنايته الإلهية ستشمل هذه الأرملة الثكلى, لذلك تجرأت ودنوت من أم كريم ووضعت ذراعي حولها وقلت لها بصوت خافت: إنني جد حزينة لوفاة أحد الأعزاء على قلبي. والله العظيم يعزيك ويباركك! والتفتت أم كريم إليّ وكانت علامة الشكر تنعكس في عينيها الدامعتين. فتأكدت أن المسيح كان حاضرا وهو لابد وأن عزى قلبها الحزين. وقبلت أم كريم هذه المشاركة الوجدانية مني بكل ارتياح مع أن الآخرين كانوا يرمقوني بنظرات عاتبة! والدليل على ذلك أني لما رجعت إلى مكاني بعد أن قدمت فروض التعزية لأم كريم شاهدت عددا من أقاربي يتركون المكان واحدا تلو الأخر.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وعلى الأثر بدأت أجاهد ضد عواطفي. فقد انتابني حزن شديد على وفاة كريم، وانزعاج أقاربي بسبب وجودي هناك، وتجاسري على حضور الجنازة. وأخذ قلبي يخفق بسرعة ووصلت العداوة حجها. وكان كل ما أستطيع عمله هو أن أظل جالسة مدة أخرى من الزمن، ثم أترك الغرفة. وعندما تركت لاحظت أن أكثر العيون كانت شاخصة إليّ، وحدجني الكثيرون بنظرات عاتبة. وتوجهت إلى سيارتي وجلست قرب مقودها وأنا أجمع أفكاري وأستعيد ما جرى لي، وقلت في نفسي أني أطعت الله فيما عملت وأن كان الثمن الذي دفعته غاليا. والأفضل لو أني بقيت في البيت ووفرت عليّ الانغماس في هذه الأحزان.
وبعد بضعة أسابيع وكانت حرارة الشمس قد اشتدت بسبب قدوم فصل الصيف الحار، سمعت عن وفاة ابن عم آخر لي. وقد وصلني الخبر أيضا عن طريق الخدم. ووجدت نفسي منساقة للذهاب إلى بيت الفقيد لأكون من عداد المشيعين والمعزين. وفكرت أن الأفضل ألا أفكر بمصلحة ذاتي بل أشارك أرملة ابن عمي الثكلى حزنها، لا سيما وأنه كان لديها ولد في الخامسة من عمره ويقارب ذلك عمر محمود. وكانت تلك الأرملة تشعر أنها متروكة ووحيدة, فوقفت قرب النعش وبكيت على زوجها الراحل وشاركتها أحزانها. وعندما دنوت من الأرملة لأعزيها تلاقت نظراتنا وشاهدت في عينيها الدامعتين شيئا من التردد. غير أنها بتصميم فائق رغم معرفتها أن ذلك يخالف إرادة العائلة مدّت يدها إليّ، وعندما امسكتها بكيت. وتبادلنا كلمات قليلة لكن قلبي ما برح يصلي من أجلها بحرارة. وقد رجوت الروح القدس أن يعزيها وتأكدت أن روح الله سيستجيب لدعائي. لأن المسيح نفسه قال: طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. وهتفت تلك الأرملة من قلب مكلوم: شكرا لك يا بلقيس! فعانقتها وتركت الغرفة من دون أن أتكلم بشئ.
وهكذا حدث أن حصلت بجنازتان في العائلة في مدة متقاربة من الزمن. وكان هذا من غير المعتاد خاصة وأن أفراد عائلتنا كانوا معدودين. وفي كلا الحالتين سمعت صوت أبي السماوي يدعوني للخروج من بيتي والذهاب إلى الأمكنة التي يحتاجون فيها إليّ. وقررت أن أطيع أوامر الله وأن أذهب بشرط أن لا أتكلم كثيرا بل أجعل مجرد حضوري أن يكون شاهدا أمينا على إيماني. وشعرت أن الله كان طوال الوقت يرافقني. وما أكثر الدروس القيمة التي تعلمتها من حضوري حفلات الجنازة هذه!
وحدث هذا الاختبار لي في إحدى الجنازات. فالعادة عند المسلمين أنه عند الوفاة لا يأكل الناس إلا بعد دفن جثمان الميت. ومعنى هذا صيامهم طوال ذلك اليوم. وذات يوم وأنا جالسة وسط الحشد المكتظ من المعزين شعرت بحاجتي إلى تناول الشاي كما اعتدت كل بعد ظهر. وكان هذا صعبا عليّ، فلم أقدر أن أضبط عواطفي لذلك نهضت من مكاني مدعية أني أود غسل يدي وتسللت من بيت الفقيد إلى مقهى مجاور حيث شربت فنجان شاي، ومن ثم رجعت إلى مكاني بين المشيعين. وعلى الأثر شعرت بوحدة غريبة ولمست أن الصديق الوفي الذي كان يجانبي قد تركني. وفعلا فإن روح الله فارقني لأني قلت لمن حولي من الناس ما هو غير صحيح، ساعة اعتذرت لهم أن أريد غسل يدي وذهبت لأتناول فنجان شاي. وعزيت نفسي أنها كذبة بيضاء لكن رغم ذلك فالله لم يكن راضيا عن ذلك لأن لم أشعر بحضوره الإلهي بجانبي ولم أتمتع بالراحة المرجوة التي أحصل عليها بوجود روحه القدوس يحل عليّ.
وأخذت أعاتب نفسي وأقول: هل يتحتم عليّ أن أتمسك بعادات المعزين عند المسلمين؟ فأنا مسيحية ولم أتعود البقاء بدون فنجان شاي بعد الظهر كما هي عادتي. وفي غمرة هذه التساؤلات لم أشعر بحضور الله بجانبي. وفي النهاية عرفت أنني على خطأ وأن ما قلته كان كذبا. وصليت لله ليغفر لي تفكيري الخاطئ. وقلت له: لقد سعيت بالحصول على استحسان الناس لي مهملة الحصول على استحسانك يا إلهي! لقد أذيتك في هذه التصرفات النابية وأعدك ألا أعود إلى مثلها في المستقبل. وعلى أثر هذا الإقرار الخطير لمست روح الله تغمرني وكان يتساقط عليّ مثل المطر على أرض عطشي. فارتاحت نفسي لأني عرفت أن الله معي. وهكذا تعلمت أن أحظى بحضور الله. وعندما كنت لا أشعر بأن الله قريب مني أدرك أنني أسأت إليه بتصرفاتي فاستعيد أحداث الماضي بذاكرتي، فأتذكر كل كلمة تفوهت بها أو فكر مرّ بخاطري فاكتشف في النهاية كيف ضللت سبيلي، وكيف ابتعدت عن الله فأطلب الغفران من أجل خطيئتي وسوء تصرفي!
تعلمت أن أعمل مثل هذا بجسارة متزايدة. وروّضت نفسي على طاعة إلهي. وتعودت على ذلك في المستقبل. ولما كنت أشعر بضعفي الحاضر كنت أنشد قوة الله بالصلاة، وأطلب عونه وإرشاده. وأدركت منذ ذلك الحين أنه لا يوجد ما يدعى بالكذبة البيضاء. فالكذب كذب ومصدره إبليس. والكذب من الوسائل التي يستعملها إبليس ليبعدنا عن الطريق السوي، ويقودنا إلى الكذب الحقيقي، ويغرس فينا هذه الصفة البغيضة. وكل كذبة إنما تقودنا إلى تجربة، وهي من المغريات التي يلجأ إليها إبليس. وهكذا نحن نميل مع العالم عوضا من أن نتبع يسوع الذي هو مصدر لكل حق. وهو القائل: أنا هو الحق.
وحدث مرة أن دعاني مرسل لأحضر بعض اجتماعاته ولم أكن راغبة في ذلك وحاولت خلق المعاذير واصطناع بعض الأعذار فأنا بإنذار خفي يهز نفسي، وعوضا عن اختلاق بعض الأعذار لجأت إلى قول الصدق. فقلت أنني آسف إذ لا أستطيع حضور الاجتماعات. وحاولت مرة أخرى أن أكتب رسالة لصديق لي في لندن. وعندما بدأت في الكتابة أخذت أبسط له الأعذار في تأخري بالكتابة إليه لكوني قد تغيبت عن بلدتي بيد أنني أدركت أن ما أكتبه كان أتوماتيكيا، والعذر الذي أقدمه ليس صحيحا، توقفت عن الكتابة ومزقت الورقة وقلت: هذا ضرب من الكذب والخداع! ثم عدت فكتبت له الحقائق بصورة واضحة وصريحة. وهذه أمور صغيرة نجعلها تمر بنا، ونقول أن لا قيمة لها لكن هذه الصغائر هي مرتع للكبائر. وتغدو أمور حياتنا أسهل إذا استغنى المرء عن ابتداع وسائل للتحايل، والالتجاء إلى الكذب فيركن إلى الصراحة وقول الحق مهما كلفه الأمر.
رد: أقدر أقوله يا بويا
ورويدا رويدا بدأت أتعلم كيف أعيش مع المسيح حياة صحيحة. وبدأت أروض نفسي بأن أجعله رفيقي الدائم. ولم يكن هذا سهلا علي في بداية، إذ كثيرا ما كنت أزوغ عن الطريق المستقيم، أما المهم أنني استفقت إلى هذا الأمر الخطر وصممت أن أسلك السلوك الصحيح مهما كان السبيل إليه صعبا وعسيرا. ومع الوقت اكتشفت الفائدة العملية من هذه المحاولة. وحاولت بكل قوتي أن أطبق الوعد الإلهي القائل: اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وكل هذه تزاد إليكم (متى 33:6). وكنت أردد في أعماق نفسي إذا وضعت الله في رأس قائمة حياتي. فجميع حاجاتي الأخرى ستلبى لي أن عاجلا أو أجلا.
وحدث ذات يوم أن جاءت ريشام إلى غرفتي ودلت ملامح وجهها على شئ من الارتباك وقالت لي بأن سيدة تروم مقابلتي وهي في غرفة الاستقبال. وسألتها إن كانت تعرف السيدة. أجابت: تظن إنها أم كريم. فقلت لها أنت غلطانة لأن أم كريم لا تقوم بزيارات وهي في غمرة أحزانها وتلبس الحداد على ولدها الراحل. فنزلت إلى الطابق الأسفل لأرى بنفسي، عندما لمحتها عرفت إنها بالفعل هي أرملة ابن عمي كريم. وحالما سمعت وقع إقدامي تقدمت مني وعانقتنا وقالت: لقد جئت بنفسي لأقول لك أن وجودك في الجنازة كان سبب تعزية كبيرة لي. ولم أستطع أن أقول ذلك يوم الجنازة لأن لم يكن لدي مجال لذلك. إنني شعرت عند حضورك أن شيئا جديدا وخاصا تسرب إلى حياتي. ولمت نفسي لأني لم أكلمها عن يسوع يوم الجنازة لكنها كانت في غمرة أحزانها والجو لم يكن مواتيا. أما الآن فهي عندي في غرفة الاستقبال فسوف أحدثها ماذا يعنى يسوع لي وكيف أنه ساعدني لتغيير طرق حياتي القديمة. وكيف أنه منحني شخصية جديدة تستمد حيويتها وكيانها من عبير روحه الكي الرائحة. وصرحت لي أرملة كريم أن زيارتي لها يوم الجنازة كان لها أثر كبير على نفسها وهي عنت الشئ الكثير لها. وقد جئت لأشكرك لشعورك معي يا بلقيس وحضورك بشخصك لتعزيتي! وهكذا انتهت هذه الزيارة القصيرة التي بدت لي ممتازة لا سيما أنها اتاحت لي أن أشهد لتلك الأرملة عن المسيح.
ولقد كان لهذه الزيارة المفاجئة أثران كبيرا: الأول أن شخصا آخر لاحظ التغيير الذي طرأ على حياتي بعد إيماني بالمسيح مخلصا وفاديا. والثاني توقعي أن تكون تلك البادرة فاتحة لإنهاء المقاطعة العائلية عني. وإن كانت تلك المقاطعة لم تنته بسرعة لأن لا أحد من العائلة زارني أو حدثني على الهاتف. وكلما قرع جرس الهاتف توقعت أن يكون المتكلم أحد أفراد عائلتي لكنه كان دائما أحج الأخوة المسيحيين. ودهشت عندما سمعت صوت أم ابن عمي الذي توفى مؤخرا وحضرت جنازته. فقالت لي تلك السيدة الثاكلة: إنني أستحسن المساعدة المعنوية التي قدمتها لزوجة ابني الراحل يوم جنازته فقد أخبرتني أنها تأثرت منك في أعماق قلبها وتكلمت إلى روحها بكلمات المحبة والعطف والمتبادل. وتجاه هذا الإطراء قلت أنا لم أفعل شيئا بل إن المسيح هو الذي عمل كل ذلك. وهكذا فإن وجودي مع المحزونين ساعة حزنهم جلب التعزية إلى قلوبهم. وهذا عمل الروح القدس المعزي لأن عملي لا يقارن بما يعمله المسيح لأولئك الحزاني. فهو الرفيق المساعد والروح المعزي للجميع.
وطوال الأسبوع الذي احتفل فيه محمود بعيد ميلاده السادس توافد الزائرون علينا من الأصدقاء والأقارب. ورغم أن زيارتهم كانت قصيرة إلا أنهم قصدوا مشاهدة محمود وتهنئته بعيد ميلاده وقد جلبوا له بعض الألعاب والحلوى. وإن كانت حجتهم الظاهرية رؤية محمود وتهنئته إنما قصدهم الحقيقي كان تخفيف آلام المقاطعة العائلية عني. وبذلك أزالوا ذلك الجدار الذي حجب الكثيرين من الأقارب عن التقرب مني. وفي ذلك الوقت كان قد مرّ عام كامل على قرار قبولي دعوة المسيح لأكون من إتباعه واحدي تلميذاته.
وتطلعت بشوق ولهفة إلى عيد ميلادي وهو يصادف عيد ميلاد المسيح. وقلت سأحتفل بهذا العيد بفرح زائد لأنه يكون قد مر عليّ عام كامل وأنا مسيحية. وكنت قد شاهدت الاحتفالات بعيد الميلاد في أوروبا عندما كنت أعمل مضيفة في تلك البلاد، ولم أكن أدرك عند ذاك المعنى الحقيقي لذلك العيد. فقلت الآن أنا مسيحية وعيد ميلاد المسيح هو عيد ميلادي للحياة الجديدة في المسيح. واستعرت من بعض الأخوة المسيحيين مغارة اصطناعية تمثل الرغيان. وعندما جاء المرسل ميتشل وزوجته جلبا لي شجرة سرو حية، فزينتها بالشموع والشرائط البيضاء. واجتمعنا حولها ورنمنا ترانيم ميلادية واحتفلنا نحن الأسرة الصغيرة بعيد ملك المجد. ولن أنسى رؤية محمود وهو يرقص فرحا ويقفز من شدة سروره بعيد ميلادي وميلاد المسيح.
واكتشفت بعض الخطأ في تصرفات الناس في عدم فهم المعنى الحقيقي للعيد, فأنه رغم البهجة التي ترافق هذه الأعياد لا يشعر الكثيرون بالمعنى الحقيقي لميلاد المسيح. وقلت في نفسي لماذا لا يكون لعيد الميلاد معنى غير هذه المظاهر الخارجية والزينات والبهرجات؟ لماذا لا يعبر هذا العيد عن التغيير الذي حدث فى حياتي! وعليّ أن أبرهن أن العيد له معنى روحي. ولأبرهن على ذلك سوف أقيم حفلة عامة أجعلها مشتركة للجميع وأدعو إليها أهل البلدة وبعض الأخوة المرسلين ليشعر الجميع حقيقة بمولد ملك المحبة يسوع. وفيما أنا أفكر بإقامة حفلة مشتركة أدعو إليها الأغنياء والفقراء إذا بشئ داخلي يقول لي: ألم تسمعي يا بلقيس الانذارات التي وجهت إليك بألا تجعلي إيمانك يظهر علانية للناس! وتذكرت ما قاله الجنرال عامر لي لدي زيارته لي: لا أستطيع أن أقدم لك الحماية إذا وقعت في خطر وحدث عليك اعتداء مع دمت تصرين على إعلان ارتدادك عن الإسلام.
أجل أن حفلة ميلادية مفتوحة للجميع ستجعلني عرضة لتهديدات متنوعة. وقلت: لماذا لا أستشير ربي وإلهي؟ فصليت وجاءني هاتف من السماء قائلا: إن حضور الأب السماوي سيكون أبرز إذا قمت بحفلة عامة أحياء لذكري ميلاد ملك المحبة ورب المجد يسوع المسيح. وعلى أثر ذلك قررت أن أقيم حفلة عامة مشتركة احتفالا بميلاد الرب يسوع. وحضر الكثيرون من المدعوين وتجمعوا حول شجرة الميلاد في غرفة الاستقبال.
تاريخ
رد: أقدر أقوله يا بويا
كما حضر بعض الأخوة المسيحيين ورنمت زوجة القس ترنيمة ميلادية مثيرة. كذلك حضر بعض أقاربي من بلدة راولبندي وفرحت لقدومهم وقلت في نفسي كيف يكون رد فعل أقاربي للحفلة. ولكونهم من طبقة اجتماعية عالية لم يرغبوا الاختلاط بأفراد من طبقة الفقراء والكناسين. لذلك عزلوا أنفسهم وجلسوا في غرفة مجاورة. وخيّم جو من السكون والبهجة على المكان وكنت أذهب من غرفة الاستقبال إلى الغرفة التي جلس فيها أقاربي. وكان موقفي كمن يذهب من حمام بارد إلى حمام ساخن. وعندما رأى أقاربي تصميمي على الاستمرار في الحفلة اظهروا بعض التساهل وقبلوا الاشتراك معنا، فجلسوا حول شجرة الميلاد يتمتعون بمنظرها الجميل وهي مضاءة بالشموع. وعند انتهاء الحفلة ران على المكان جو من التفاهم وروح الأخوة، ورأيتهم يمتزجون معا, الغني مع الفقير، المواطن مع الأجنبي، وتحدث المدعوون مع المساكين وجماعة الكناسين. وكأن الحفلة بشرت بسنة جديدة مغايرة للسابقة. وقد بانت أمامي طرق عديدة وجديدة، وشعرت أني أقف على مفترقها. وقد تقودني الخاطئة منها إلى الاضطراب. لذلك كان عليّ أن أختار الطريق الصالح والمستقيم.
وبعد هذه الحفلة أخذ نوع آخر من الأقارب والأصدقاء القدماء يزورني. وكانت غايتهم أن يقنعوني بالعودة إلى ديني القديم. وكنت أظنهم في بادئ الأمر ممن يهمهم التفرج على مباهج العيد، وزخارف شجرة الميلاد. واحترت كيف أجيب هؤلاء وبأي لهجة أتحدث إليهم. فهل أجيبهم بعدم الكلام وبالصمت التام؟ أم أتجرأ فأفصح عن أفكاري وأجرأ على المجاهرة بعقائدي. وبدّد حيرتي جواب الأب السماوي. وكان المقياس الصحيح لي معرفة ما سأعمل وكيف يجب أن أسلك هو تلمسي لحضور الله، فأن ابتعد هذا الحضور الإلهي معناه أنني على خطأ وإذا أقترب فمعناه أن مسلكي صحيح. وذاك هو الطريق المستقيم الذي يجب أن أسير فيه.
وذات يوم سمعت قرعًا على باب داري وكانت الساعة حول الثانية بعد الظهر. وأخبرتني ريشام عن زائر يروم مقابلتي. ولمست في قولها التردد والوجوم لأني كنت قد أخبرتها بآلا يزعجني أحد بين الظهر والساعة الثالثة. إذ في ذلك الوقت أرغب أن انشد الراحة والسكون. ولم أظهر رغبتي هذه بشكل الأمر بل بشكل رجاء. وقبل سنة كنت أصدر أو أمر مشددة أما الآن فلكوني من إتباع المسيح أصبحت أميل إلى اللطف والكلام المفعم بالمحبة. وأخذت أدرك أن الوقت ليس لي بل لربي وإلهي. لذلك إن حدث ما يستدعي وجودي فلا مانع من إزعاجي لأن الوقت ليس لي. وكان زائر الذي جاء يروم مقابلتي إنكليزيا وكانت رغبته أن يتحدث معي عن الله.
وكان هذا الزائر ينتظرني في غرفة الاستقبال. وشاهدته يرتدي لباسًا باكستانيا من سروال فضفاض وسترة من قماش أبيض. وكان وجهه أصفر اللون وشعره منفوشًا. ولم أتميزه بادئ الأمر لأنني خلته قطعة من أثاث البيت. واعتذر لي لأنه جاء ليزورني على غير ميعاد سابق. وأنه قدم من كراتشي خصوصا ليقابلني وهو من الذين تركوا دينهم المسيحي واعتنقوا الإسلام. ويلذ له أن يتحدث إليّ في شؤون هذين الدينين الذين عرفهما. واعتقدت في داخلي أن هذا مبعوث من قبل عائلتي ولأنهم يعرفون أني أحب الإنجليز فاختاروا لي هذا المرتد عن المسيحية عساه يستطيع إقناعي بالرجوع والعودة إلى الإسلام.
ولشد ما أفصح هذا الزائر عن الغاية من مجيئة فقال: إن شيئا واحد يزعجني حقيقة إذ أتعجب كيف إن مسلما يعتنق المسيحية، لا سيما وإن كتابهم المقدس مترجم وقد تغير وتبدل من كثرة الترجمات على ممر الأجيال وكأنه يعبر عن فئة من الناس الذين يقولون أن الكتاب المقدس قد تعرض للتشوية والتبدل بسبب كثرة الترجمات التي مرت عليه. فقلت له: لقد سمعت الكثير من أمثال هذه التهم الموجهة للكتاب المقدس. ولكن هل يستطيع أحد أن يدلني عن الفصول التي تغيرت أو الأماكن التي بدلت فيها الترجمات المعاني الأساسية فيه؟ وعلى أثر سماع هذا أنحني ضيفي على كرسيه ويداه تداعبان أطراف ذلك الكرسي ولم يتفوه بشئ أو يجب بكلمة.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وتابعت قولي: إنني أخشى ألا تكون هناك أجابة على أسئلتي هذه! وفي المتحف البريطاني نسخ قديمة من الكتاب المقدس نشرت حوالي 300 سنة قبل أن يولد النبي محمد، وهذه النسخ القديمة كلها تطابق ما هو موجود لدينا الآن. ويقول الاخصائيون في أمور الكتاب المقدس أن لا شئ أساسي تغير عن الأصل. وهذا مهم لي شخصيا لأن هذا الكتاب هو كلمة الله الحية. وهو يتكلم إليّ شخصيا، ويغذي روحي ويرشدني إلى طريق الحياة الأمثل. وعندما سمع الزائر هذا التشديد مني على صحة الكتاب المقدس، وعن رغبتي في معرفة الفصول التي جرى فيها تبديل أو تحرير، أغلق فمه ولم يجب بشئ. لكنه عاد فقال: أنت تقولين أن الكلمة ما زالت حية. قلت: نعم لأن المسيح هو كلمة الله الحية. والقرآن الكريم نفسه يشهد بأن المسيح من روح الله. وعلى الأثر تركني هذا الزائر الإنكليزي مع أنني دعوته أن يعود لزيارتي لمتابعة مثل هذه الأحاديث الروحية عن كلام الله والكتاب المقدس. لكني لم آر وجهه مرة ثانية للآسف.
وحظيت مرة أخرى بزائر من نوع ثان. فقد جاء بقصد التحاجج لا سيما فيما يتعلق بالثالوث الأقدس. وقال: المسيحيون يعبدون ثلاث آلهة بدلا من إله واحد. وهذا الثالوث في رأيه يشمل الله ومريم ويسوع. فقلت له أنت مضطلع على القرآن الكريم وأنك تقرأه بلا شك. أفلا تتذكر كيف أن القرآن نفسه ينعت المسيح بأنه روح الله. ولابد وأنك سمعت عن المتنسك الهندي الشهير ساهر سندر الذي تراءى له المسيح في رؤيا وفسر له معنى الثالوث. لقد اهتدى سندر إلى المسيحية بعد أن كان من الهنود السيخ المتعصبين, والتفسير الذي حصل عليه هذا المتنسك هو أن الشمس واحدة لكنها مصدر للنور والحرارة. وإن كانت الشمس هي التي تعطي النور والحرارة ألا أن الحرارة ليس نورا ولا النور حرارة. لأن لكل منهما شكل خاص أو عمل خاص. وهكذا في فكر الثالوث الأقدس هناك الله والمسيح والروح القدس. والأخيران منبثعان عن الله ويختلفان شكلا لكنهما يعطيان نورا للعالم وحرارة للمخلوقات. والثالوث ليس ثلاثة أشخاص بل هم أقانيم ثلاثة لشخص الله. وكما أن الشمس واحدة والحرارة والنور مظهران، هكذا فإن الله وحدة والمسيح والروح القدس اقنومان يتعاونان على إظهار الله بكامل قدرته وجبروته وبعظيم مجده وسنائه.
وساد جو الغرف سكوت ولما فرغت من المحادثة وجدته مستغرفا في التفكير. وأخيرا نهض من مكانه وشكرني لأني أفسح له المجال وأعطيته بعض الوقت للتحدث في مثل هذه الأمور الجوهرية. وشاهدته يسير في طريقه بعد أن ترك بيتي وقلت: هل أمثال ذلك المرتد الإنكليزي أو هذا المتحمس لأمور الدين مبعوثون من الله؟ ولم أكن لأهتم بالنتائج لأن الأمر الذي كان يهمني هو الطاعة. فالمهم عندي هل يريد الله ذلك مني؟ وهل هي رغبته أن أتكلم لهذه الجماعة في هذه الأمور؟ فأنا طوع بنان ربي وإلهي! وكل ما أعمله يجب أن يكون نابعا من عنده لأني أسير حسب وحيه وإرشاده.
وبمجئ الربيع أعطاني الله طرقا أخرى للشهادة إذ أتيح لي أن أذهب للاهور وبعد أن زبت ابني خالد هناك ابتعت مائة نسخة من الكتاب المقدس لأوزعها لمن يلذ له مطالعتها. كما اشتريت كمية من الكراريس الدينية، وأخذت أوزعها في شتي المناسبات والاجتماعات. وقد وضعت البعض منها في الاستراحات العامة والفنادق. ويوما ما عندما دخلت إحدى الاستراحات وجدت قسما من هذه الكراريس التي وضعتها هناك للمطالعة مطروحة بين النفايات. فرفعت يدي وقلت لماذا يحصل مثل هذا!؟! وكثيرون مما اجتمعت بهم استمعوا إلى شهادتي عن المسيح. أجل لقد انتهزت كل فرصة سانحة لأشهد للمسيح ولا أنسى مقابلتي لذلك الإنكليزي المرتد، أو المتحمس الذي جاء يحاججني عن صحة الثالوث الأقدس أو القائد عامر عندما قدم لزيارتي. لقد تكلمت مع كل هؤلاء عن وجود الله وظهور نور حقه لي. واستغربت أن كل هذه الشهادات لم تأت بثمر جيد، لكن قلت إنما علينا أن نبذر بذورا ونترك عملية النمو لله.
رد: أقدر أقوله يا بويا
والتجأت للصلاة لأنها متنفسي الأوحد. وفيما أنا أصلي شعرت أن المسيح حاضر ومستجيب لطلباتي. وشعرت بروحه تملأ جو الغرفة وتفيض علينا بالراحة والاطمئنان. وسمعت في قلبي سؤالا يوجهه المسيح لي إذ يقول: فكّري يا بلقيس في عدد المرات التي سمحت لك بالاجتماع بأقاربك للشهادة، ولا تنسي الزوار الذين جاءوا ليباحثوك، وسؤالي هل كنت تشعرين بحضوري في شتى هذه المناسبات؟ وهل تراءى لك مجدي وأطعت أوامري، وعملت إرادتي الإلهية؟ أجبت بكل إتضاع: نعم يا سيدي الرب. لقد لمست مجدك بسنائه الباهر, وسمعت صوتك الإلهي يشجعني ويهديني إلى الطريق الأمثل الذي يجب أن أسلكه! فقال: إذا هذا كل ما تحتاجينه وهذه هي الطريقة التي يجب إتباعها مع أصدقائك وأقاربك وزائريك فلا تقنطي إن كنت لا تحصلين على نتائج سريعة. فليست النتائج هي المشكلة، لأن كل ما يجب أن يزعجك هو حضوري أو عدمه. فأنشدي حضوري دائما ولا تبالي بالنتائج فهي تأتي تلقائيا.
وتابعت تأدية شهادتي بطرق مختلفة وقد كان هذا المنهاج مثيرا لي ومشجعا لاستمراري في الشهادة المسيحية. فقد أزال الرب عن عيني فكرة النتائج وذكرني بحضوره أو عدمه. وبدأت أسر بالاجتماع مع الأصدقاء والأقارب ولا أشعر بمغبّة الاخفاق. وتعلّمت أن أنتهز الفرص للشهادة سواء أكانت المحادثة تدور حول مواضيع سياسية أم اجتماعية، وكنت أشرع إلى الله أن يلهمني ما أقول وأية أسئلة أختار، وأنسب الأجوبة للسائلين. وعلى سبيل المثال لما كنت أتحدث إلى قريبة لي ذكرت زوجي السابق. وقد أصبح الآن سفير لباكستان فى اليابان. وكنت أرجو أن لا أكون قد أسأت إليه بشيء في تصرفاتي. وسألتني قريبتي: كيف تستطيعين أن تغفري له وقد قام بطلاقك وهذا كان أمرًا صعبًا عليك. فقلت لها: أنا وحدي لا أستطيع أن أغفر له لكني طلبت من سيدي المسيح أن يساعدني ويسوع ساعدني على ذلك. وهو دعانا أن نأتي كي يساعدني ويسوع ساعدني على ذلك. وهو دعاني أن نأتي بأثقالنا وأحمالنا ونضعها بالقرب منه. وربما سمعت قوله الشهير: تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. فهو الذي رفع حمل الكراهية عني، وأزاله عن كاهلي، ومنحني روح المحبة والتسامح.
وتأثرت قريبتي بأقوالي ومن حديثي عن المسيح. وقالت: هذا ما يعنيه الدين الحقيقي، وهذه علامات المسيحية العملية! وأني كنت أجهل مثل هذا من قبل. وإذا كانت المسيحية بهذا الشكل الرفيع فسأجرب أن أتعلم عن يسوع وأن أطلع على تعاليم المسيحية! ولكن كما يبدو لم تتابع قريبتي ما وعدت به ولم تستمر في مواصلة التعرف على المبادئ المسيحية. وكنت في بعض المرات ألاحظ أن مجد الله يختفي عني فأقع في حبائل إبليس. فهو يزين لي بأن حججي قوية وما أقوله جميل وجذاب. وسألت مرة لماذا أعتقد أن كل الحق معي مع أننا كلنا نعبد نفس الإله. فسواء كنا مسيحيين أم مسلمين، بوذيين أم برهميين فنحن ندعو ذلك الإله بأسماء مختلفة ونقترب منه بطرق متنوعة في حين أنه يبرز في النهاية نفس الإله. قلت معلقة على هذا أنت تعني أن الله مثل قمة الجبل وكل الطرق يمكنها أن توصلنا إلى تلك القمة. ولتقبل هذا التشبه أن الله مثل قمة الجبل لكن هناك طريقًا واحدًا يؤدي إلى الوصول إلى تلك القمة وهي طريق المسيح. فهو القائل أنا هو الطريق والحق والحياة. لا يأتي أحد إلى الأب إلا بي. وهكذا في جميع أجوبتي كنت أجعلها ترتكز على روح الله وتنبع من الكتاب المقدس. ولست أدري مدى تأثري على محدثي الذي جاء ليكلمني عن الله أكان قد أقترب أكثر إلى الله أم لا؟ لكني تأكدت من شئ واحد أني تقدمت خطوة كبيرة في الطاعة والإصغاء.
وحدث ذات ليلة مفاجأة خطيرة واختبار مريع لم أكن قد حظيت بمثله بعد أن أصبحت مسيحية, إذ حدث وأني أستعد للنوم أن شعرت بقوى شريرة تقترب من نافذة غرفتي. وقلت ربما كان هذه أبالسة وأرواح شريرة، فارتميت على الأرض وطلبت من ربي أن يغطي جسدي بجناحي حمايته، وعلى الأثر شعرت برداء سماوي يغطيني وقد احتضنني تحت جناحيه كما تحتضن الدجاجة فراخها. وهكذا عاد الدفء إلى جسدي، والراحة والاطمئنان إلى قلبي، ونهضت وإذا أعوان الشر قد ابتعدت عن نافذتي. وتوجهت ثاني يوم لبيت المرسل ميتشل لأطلعه على هذه الرؤية المريعة. وتوجهت بسيارتي وكانت الشمس مشرقة والطبيعة جميلة. ورغم هذا عندما أتذكر ما رأيت كنت أرتعب من شدة الخوف. وعندما وصلت البيت ترددت في اخبار هذه العائلة بما رأيت لكن سينوف لا حفظت الاضطراب على وجهي وسألتني: هل من شئ خطير حدث يا بلقيس؟ قلت: إن أعجب من نفسي إذ أجعل الخوف يلازمني رغم أنني أصبحت مسيحية والمسيحية تستهدف عدم الخوف بل سكينة النفس وسلام القلب.
فقالت سينوف: لست أفهم تماما ماذا تعنين. فنهضت وجلبت كتابي المقدس وفتحت لها ما ورد في الإصحاح السادس من رسالة بولس إلى أهل أفسس حيث يقول الرسول المطوّب: البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس. لأن مصارعتنا هي مع أجناد الشر الروحية في السماوات. ثم رويت لها بالتفصيل ما جرى لي في تلك الليلة. وما تراءى لي من أجناد الشر. وقلت وأنا أصعد ضحكة عصبية: لست أدري إن كان ضروريا أن نتحدث عن هذه الأمور. والأفضل أن نطويها جانبًا. وكنت قد شرحت لهذه العائلة ما تراءى لي في تلك الليلة. وأردفت معلقة على ذلك: ربما كنت متخومة من العشاء الثقيل فتصورت أنني رأيت ما رأيت..
وكانت عائلة أولد في بيت المرسل وقد رغب أولد أن يسمع تفاصيل الرؤية المريعة وقال: لا تقل لي من خطورة هذا الاختبار يا سيدة. فهناك قوى للشر فائقة للطبيعة ومثل هذه الأمور تحدث في الحياة. نعم أن وجود هذه القوى الشريرة أمر حقيقي لكن الله لا يسمح أن نتغلب على نفوس المؤمنين. وأشار كيف أن الله في العهد القديم سمح لأيوب أن يجربه إبليس. حتى أن المسيح نفسه جرب أربعين يوما وهو في البرية من الشيطان. إن الله رتب هذه الأمور لتكون محكا لنا. ولنذكر أنه في كلتا الحالتين انتهى بالنصرة على الشيطان، والتغلب على روح الشر، وانتصار المجربين.
قالت بلقيس: أذكر مهاجمة قوى الشر لي قبل المعمودية ويبدو أن هذه كانت خطة الله. فهو لم يشأ أن يتركني وحيدة وأن أتعلّم لوحدي. إنني انعزلت عن الناس وقاطعني أقاربي وأصدقائي لكني لم أتحطم ولم أصبح ضحية لقوى الشر. لقد انقطعت عن جذوري إنما وجدت لي جذورًا أعمق في ديانة أخرى. ومع إله رحيم أن موطني هو السماء، وملجأي هو رب الوجود. وجميع هذه التجارب أثرت عليّ وجعلتني أعتمد أكثر فأكثر على الله الذي هو الأب السماوي لجميع الناس.
رد: أقدر أقوله يا بويا
بعد بضعة أسابيع من احتفالاتنا البهيجة بدأت رياح التغيير تهب علينا. فقد علمت من اجتماع الأحد للصلاة أن كين وماري سيتركان البلاد في إجازة لمدة سنة. وأول ردّ فعل لديهم كان الخوف عليّ. وخسارة فقدانهما لي، وابتعادهما عني. وقلت في نفس: ماذا أفعل بدونهما، وقد تعودت على عشرتهما. إنما تعزيت أن ميتشل وزوجته سيبقيان. وكنت أعتمد على العائلتين المؤمنتين، في حين أن آل والد ساروا معي في درب الحياة، وشاركوني مسراتي وأتعابي وأحزاني. ولا بد وأن تكون ماري قد قرأت ما جال في خاطري إذ تقدمت مني وأمسكت بيدي والدموع تملأ عينيها وهي تقول: عليك يا عزيزتنا أن تدركي أن هذه هي سنة الحياة. فهي لقاء وفراق، وأوضاعها متقلبة، وليس ثمة شئ دائم في هذه الدنيا سوى الرب يسوع. وأكد لي زوجها أن الله لا يتركني وحيدة، وهو يحيط دائما بدائرة أمني واطمئناني. فلا تحزني من الفراق، فهذه سنة الحياة إنما تهللي لأن الله معك ولن يتركك.
وعندما جاء يوم الفراق تميّز ذلك اليوم بالقتام والوجوم. ولشد ما حاولت أن أملأ هذا الفراغ بقوة الإيمان. وكان الفراق أليما إنما إيماننا أوحي لنا بالشجاعة والثبات رغم أن قلوبنا فقدت أحباء لنا في الرب. وشعرنا أننا خسرنا الكثير بفراق كين وماري العزيزين على قلوبنا. وعندما عدت إلى منزلي شعرت بالفراغ الذي أحدثه غياب هذين الآخرين. وقلت سأعود وحيدة وأعيش مع جماعة معادين لي، إنما كان عزائي هو أن ميتشل وزوجته ما برحا قريبين مني ويقطنان بلدتي واه..
وسرعان ما فتحت طريق الفراق بابًا ثانيًا لي للخدمة والشهادة. إذ ما عتّم حتى تلفن لي الدكتور باكش ليقول لي إن الدكتور ستانلي مونهيم، ممثل جماعة الرؤيا العالمية، ومركزها في كاليفورنيا يرغب في زيارتي. وما كنت قد سمعت عن هذه المنظمة العالمية، إنما قلت إن أبواب بيتي مفتوحة للجميع، حتى لأولئك الذين يتوقون أن يروا مسلمًا أهتدي إلى المسيحية. وما كانت سوى ساعات حتى حضر الدكتور مونهيم. ولم تكن رغبته الإطلاع على طريقة اهتدائي للمسيحية، ولا رواء عاطفة الاستغراب عن مجريات حياتي، إنما سألني إن كنت أرغب أن أزور مدينة سنغافورة لأشهد للناس هناك عن أمر اهتدائي للمسيحية ولقائي مع الأب السماوي. وعلمت منه أن بلي جراهام المبشر العالمي الشهير كان عازما أن يقوم بحملة تبشيرية في تلك الديار، وأنه يقصد أن يعقد مؤتمرًا في بلدة سنغافورة يحضرها أسيويون من مختلف البلاد الشرقية لأن المؤتمر كان يستهدف اجتماع الفئات المؤمنة من أقطار أسيا المختلفة. وسيحضره يابانيون وهنود وأندنيسيون وكورينون وصينيون وباكستانيون. وسيكون شعار المؤتمر: المسيح يزور أسيا. ووجودك يا سيدة بلقيس بين المتكلمين في ذلك المؤتمر سيكون له وقع عظيم، وستكون شهادتك للآخرين مصدر وحي للجميع. فقلت في نفسي: ألا يكفيني أن أشهد في بلدتي واه؟! وكيف أذهب إلى تلك البلدة النائية؟! فأجبت الداعي: سأصلي من أجل ذلك. وتركني وهو يشدد بقبولي الدعوة والذهاب للشهادة إلى سنغافورة.
وبعد أن تركني الدكتور مونهيم جلست على شرفة منزلي وأنا أفكر في هذه المسألة. وصليت إلى الله ليرشدني إلى طريق العمل. وكان جزء مني يقول: هذه فرصة ممتازة يترتب انتهازها. وجانب أخر مني يحذرني حتى من الأفكار بها. ثم حضرتني فكرة مفاجئة وهو أن جواز سفري يحتاج إلى تجديد، وفي الباكستان عند ذاك كان تجديد جواز السفر يتخذ وقتا طويلا، ويمر بمعاملات روتينية عديدة وطويلة. وقلت قد تكون هذه الحجة صوتًا من الله لرفضي الذهاب. وإذا تم تجديد جواز سفري بسرعة فمعناه أن الله يريدني أن أذهب إلى سنغافورة. وللحال ملأت أوراق طلبات تجديد جواز السفر وأرسلتها للمسؤولين. وبعد أن وضعت المعاملة في البريد قلت إن الوقت الذي ستستغرقه المعاملة يعنى الغاء ذهابي، لكن من الغريب أنه لم يمض أسبوع حتى كان جواز سفري قد عاد إليّ. وقد تجدّد رسميا ووقعه المسؤول الأكبر في الدولة عن دائرة المهاجرة.
وبعد بضعة أسابيع من تجديد جواز سفري عزمت على التوجه إلى سنغافورة من أجل الشهادة للمسيح في المؤتمر العالمي المنعقد هناك. فودعت حفيدي محمود، وقصدت لاهور حيث اجتمعت بولدي خالد. ثم انتقلت إلى ميناء كراتشي ومن هناك أخذت الطائرة التي أقلتني إلى سنغافورة. وكان ذلك عام 1968 وقد مرّ عام ونصف منذ أن ظهر الله لي، واهتديت إلى المسيحية. ولمدة سنة ونصف وأنا أهنأ بحياة جديدة مستضيئة بنور الله. ولم يكن ابني خالد مهتما بالاكتشافات الروحية التي حصلت لي، أو بالظهور الإلهي الذي تراءى لي. والآن وقد بلغت الثامنة والأربعين من عمري تراني أقوم برحلة إلى بلد ناء، فلم يمانع خالد في ذهابي لأنه كان يشعر أني والدته، وما برح يبادلني الحب والاحترام. وتمنى لي سفرة سعيدة وموفقة.
رد: أقدر أقوله يا بويا
وشعرت وأنا في الطائرة أنني قريبة من السماء، ولا غرابة فأنا معلقة بين الأرض والسماء، والطائرة تطير فوق الغمام، ومرتفعة عن أرضنا المملوءة بالآلام والخطايا. وكان على الطائرة عدد كبير من المسيحيين، لكنني لم أعجب من سلوكهم. واستمعت إلى جماعة وهم يرتلون يصفقون بأيديهم ويهتفون هللويا، وقد بدت لي أن أفراحهم هذه كانت مصطنعة. ومثل هذه المظاهر لا تلذ لي كثيرًا. وشعرت أن رحلتي هذه كان لها معنى شخصي، لا مجرد متعة وسفر. إنها كانت دعوة من السماء لي لأشهد للآسيويين بالحياة الجديدة التي دعيت إليها. وكدت أيأس من دعوتي هذه. والناس حولي بعيدون عن الله، ودينهم ظاهري. فقلت أما كان يكفي أن أظل في ضيعتي وأقتصر على الدور الذي أمثله في بلدتي واه؟! ولم أكن أحب أن أظهر أمام المئات أو الألوف من الناس لتأدية شهادتي أمامهم. وربما يكون ذلك تباهيا مني، وربما يظن أولئك الأغراب إنما أقوم بهذا العمل لمنافع شخصية.
وعندما ركبت الطائرة وتطلعت من نافذتي إلى العالم تحتي، رأيت بلادي تغيب عن الإنظار، والباكستان تتواري وراء الضباب. ورغم أنني كنت عالمة بأني سأعود إلى بلدي بعد بضعة أيام، إلا أن شيئا داخليا أوحى إليّ أن هذه ربما تكون البداية في رحلاتي التبشيرية. وأنني سأعود جسديا إلى بلادي إنما روحيا فأنا للعالم أجمع، وشهادتي يجب أن تنطبق لإبناء هذه الدنيا الواسعة. وتعزيت إذ وجدت في شركة الأخوة المسيحيين الحقيقيين موطنا جديد لي، ورفقة في حياتي.
وعلى أثر وصولنا مطار سنغافورة توجهنا رأسا إلى قاعة الاجتماعات وكان المؤتمر قد بدأ. ودهشت للمئات والآلاف الذين جاءوا لحضور هذا المؤتمر الآسيوي المسيحي. وكان هذا العدد من الحضور أكبر عدد من لناس الذين أراهم يجتمعون في مكان واحد. ودخلت قاعة الاجتماعات، وإذا أصوات المرنمين تتعالى مسبحة الخالق بالنشيد الذي مطلعه، ما أعظمك يا الله!! وللحال شعرت بروح الله تغمرني وكان هذه الشعور يختلف عما شعرت به سابقا. واستهدفت للبكاء ليس من الحزن بل مثل هؤ