الكتاب المقدس ومكانته فى الكنيسة
بقلم نيافة الأنبا أشعياء
1- الكتاب المقدس وعلاقته بالكنيسة
† الكتاب المقدس بالنسبة للكنيسة... هو المنهج الذى تكرز به الكنيسة للخليقة كلها... لذلك قال الرب يسوع المسيح لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء: "اذهبوا إلى العالم اجمع. واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها..." (مر 15:16).
ثم استكمل القديس مرقس فيقول: "وأما هم فخرجوا وكرزوا فى كل مكان. والرب يعمل معهم، ويثبت الكلام فى الآيات التابعة. أمين" (مر 15:16،20).
وأيضاً فى سفر التثنية يقول الرب: "فضعوا الكلمات هذه على قلوبكم ونفوسكم. واربطوها علامة على أيديكم. ولتكن عصائب بين عيونكم. وعلموها لأولادكم. متكلمين بها حين تجلسون فى بيوتكم. وحين تمشون فى الطريق. وحين تنامون. وحين تقومون. واكتبها على قوائم أبواب بيتك" (تث 18:11-20)
† وبناءً على ذلك تكون الكنيسة هى المنادية والكارزة لهذا الإنجيل... لذلك نسميها (الكرازة المرقسية...) ونسمى رأس هذه الكنيسة المنظور على الأرض (بابا الإسكندرية... وبطريرك الكرازة المرقسية).
تعالوا نتعلم...
† قداسة البابا شنوده الثالث. أطال الله حياته. رأس الكنيسة. معلم المسكونة. الكاروز الإنجيلى. نجد قداسته عندما يجلس فى حوار لاهوتى أو عقيدى... نراه يصطحب الكتاب المقدس ويضعه أمامه... ويقلب صفحاته بمعرفة واضحة.
† ويؤكد بالكتاب المقدس صحة وثبات كل مفهوم لاهوتى بالكنيسة الأرثوذكسية.
† ويؤكد بالكتاب المقدس سلامة وصلابة عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية.
† كما يؤكد أيضاً بالكتاب المقدس نقاوة وعمق تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية... تعالوا نتعلم من قداسة البابا... معلم المسكونة. والكاروز الإنجيلى.
وهنا نطرح سؤال هام هو :
هل الكنيسة سبقت الإنجيل؟!.. أم أن الإنجيل هو الذى سبق الكنيسة؟!
أو بمعنى آخر هل الكنيسة هى التى أعطتنا الإنجيل أم أن الإنجيل هو الذى أعطانا الكنيسة؟
الإجابة :
أ- من المعروف أننا لا نستطيع أن نفرق بين الكنيسة والكتاب المقدس، أو نفصل بينهما... لأن كنيستنا القبطية إنجيلية حتى النخاع... وكتابية الطقس والعقيدة والروحانية.
ب- كل الكتاب هو موحى به من الله... وعليه فالذى كتب الكتاب المقدس من أوله الى أخره، هو الروح القدس... "عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأتى نبوه قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 20:1-21).
ج- فالرجال الذين كتبوا الكتاب المقدس مسوقين بالروح القدس، هم الذين أرسلهم الله كأنبياء فى العهد القديم. واختارهم الرب يسوع المسيح رسلاً فى العهد الجديد... وهم بأنفسهم الذين أسس الرب بهم كنيسة العهد الجديد... وهم بأنفسهم أيضا الكارزين بالإنجيل للخليقة كلها كقول الرب لهم: "اذهبوا الى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 15:16) لذلك يقول القديس باسليوس الكبير: "أن الكنيسة هى صوت الإنجيل الحىّ".
د- الكنيسة هى الإناء الذى أعده الله ليحفظ فيه كلمته، التى هى الكتاب المقدس.
† الكنيسة هى الكرمة، التى غرسها الرب بيده وسقاها ماء الحياة، التى هى كلمات الكتاب المقدس.
† وعليه أن نؤكد القول... أننا لا نستطيع أن نفرق بين الكنيسة والكتاب المقدس، أو نفصل بينهما... كما نستطيع أن نقول بكل صراحة ووضوح "من لا تكون الكنيسة أمه.. فالله ليس أبوه.. ولا الكتاب المقدس معلمه ومرشده".
2- الكتاب المقدس ومفهوم الكنيسة عنه
فالكنيسة تعتبر الكتاب المقدس أنه كتاب الكتب، ومعلم المعلمين، الموحى به من الله...
† تسميته بالكتاب المقدس ليست من وضع البشر، بل هى تسمية من الروح القدس: "وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة..." (2تى 15:3).
† "هو إنجيل الله الذى سبق فوعد به أنبياءه فى الكتب المقدسة" (رو 1:1،2).
† كاتبه هو الروح القدس... "عالمين هذا اولاً أن كل نبوة فى الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأتى نبوه قط بمشيئة إنسان بل تكلم الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 20،21).
† هو روح وحياه.
† "نافع للتعليم - والتوبيخ - للتقويم والتأديب. ليرفع الإنسان إلى حياة الكمال ويكون مستعد لكل عمل صالح" (2تى 16:3).
† الكتاب المقدس عجيب حقاً... يحوى 73 سفراً استغرقت كتابتها نحو 1500 سنة - اشترك فى هذا العمل نحو 40 كاتباً متباينين فى الثقافة - فمنهم الملك كداود وسليمان، وراعى الغنم كعاموس، والكاهن كزكريا، والنبى كصموئيل واشعياء وارمياء، والمشرع كموسى، والقائد كيشوع، وصياد السمك كبطرس ويوحنا، والفيلسوف كبولس، والطبيب كلوقا - كما كُتب فى أماكن متفرقة.
† وبعد كل هذا التباين فى شخصيات كُتاب الكتاب المقدس، وأماكن وأزمنة كتابتهم فإن أسفاره الـ 73 تؤلف كتاباً واحداً.. واحد فى الروح والموضوع والهدف...
ولا عجب فى ذلك، فالذى ألهم الجميع فى كتابته هو الروح القدس الواحد.
† الكتاب المقدس.. فيه جمال وروعه. وقوة تأثير - فيه حلاوة نادرة، وعزوبة لا توصف - له سلطان لا يُغلب - ورهبة مقدسة - تقرأه كل يوم بلذة جديدة... لذلك لا نمله ولا نستثقله.
† الكتاب المقدس لجميع الناس قاطبة، مهما اختلفت جنسياتهم وبيئاتهم، ومهما تباينت لغاتهم.
† يلائم كل العصور... وهو أقدم الكتب، ومع ذلك فهو حديث كل يوم. تعتمد الكتب الأخرى فى دعوتها على الأساطير، والخيال المستمد من الحياة المادية والغرائز، والانفعالات السائدة فى المجتمعات التى تتواجد بها. بينما الكتاب المقدس يعتمد على الوحى الإلهى، الصادر من الله مباشرة لرسالة ضرورية لازمة للبشر.
† تختلف الكتب الأخرى من مذهب الى آخر.. فمثلاً ما يدعو إلى إشباع حاجة
نفسية أو غريزة جسدية - ومنها ما يهدف إلى فائدة عينة من الناس على حساب غيرها...
† أما الكتاب المقدس فيهدف إلى بناء النفس البشرية، والسمو بها وخلاصها الأبدى.
† تتغير تعاليم الكتب الأخرى من عصر إلى أخر، ومن بيئة إلى أخرى، تبعاً لاختلاف حضارة وثقافة ذلك العصر أو تلك البيئة.
† بينما تعاليم الكتاب المقدس ثابتة لا تتغير، فهى تتلائم مع كل نفس، فى كل زمان ومكان.
† تعاليم الكتب الأخرى يكتنفها السذاجة والبدائية والغموض.. بينما تعاليم الكتاب المقدس سهلة الأسلوب واضحة المعانى تسد :
- حاجة العقل إلى الحقيقة...
- وحاجة الإرادة إلى الخير...
- وحاجة الروح إلى الغذاء والامتلاء...
- وحاجة النفس إلى السلام والاطمئنان...
† تفرض الكتب الأخرى قيوداً على العقل البشرى، فلا يستطيع التحرر منها ويظل جامداً... أما الكتاب المقدس يدعو إلى التحرر الفكرى فى المسيح يسوع، والنمو الروحى من أجل خلاصنا الأبدى.
† فى الكتاب المقدس نلاحظ تدرجاً منهجياً فى الوصايا الأدبية والتشريعية. فيبدأ مع الإنسان الأول بالوصايا الشفهية وناموس الضمير، ثم ينتقل إلى الناموس الكتابى (عهد قديم).
ثم جاء السيد المسيح لينقل البشرية إلى النعمة والتبنى، ويعتمد الإنسان فى سلوكه على عناية وإرشاد الروح القدس.
الكتاب المقدس يحتل مكان الصدارة فى الكنيسة.. وبؤرة الشعور.. ومركز القلب.. وصمام الأمن.. وهو القائد لتراث الكنيسة العريض والضخم.. هو المُلهمِ والراعى لهذا التراث.. وهو الرقيب، والضابط والحارس والحاكم لهذا التراث.
† التقليد المتبع فى المجامع المسكونية أو الإقليمية المحلية، هو أن يضع الأساقفة الكتاب المقدس أمامهم فى مكان بارز - ولا تعارض معه - وبناء عليه تصدر القرارات متفقة مع الكتاب المقدس والتقليد، فى وحدة روحية لا تنفك ولا تنحل أبداً.
أولاً: الكتاب المقدس ومكانته فى الكنيسة من خلال عبادتها وطقوسها :
1- بشارة الإنجيل موضوعة على المذبح دائماً... ومرفوعة على الرؤوس حينما يتلى الإنجيل فى الكنيسة.. ونقبلها بتوقير شديد.
2- الإنجيل له مكان خاص أمام الهيكل، محاط بالأنوار وهى المنجليه.
3- أوشية الإنجيل وهى طلبة خاصة، يصليها الكاهن قبل قراءة الإنجيل - يطلب فيها بركة للشعب، وقوه لتتميم الوصايا وطاعتها، وأن يثمروا فيها (ثلاثون وستون ومائة).
4- إضاءة الشموع والأنوار وقت قراءة الإنجيل... ليفهم الجميع أنه نور الحياة، والطريق الذى يضئ ذهن البشر.
5- نداء الشماس قبل قراءة الإنجيل لكل من فى الكنيسة: (قفوا بخوف من الله وانصتوا لسماع الإنجيل المقدس... إلى أخره).
6- وضع الإنجيل فى الأساسات عند بناء الكنائس.
7- فى العصور الأولى للمسيحية كانت القراءات فى الكتاب المقدس مطوله، ومن العهدين. ويؤكد هذا القديس يوستينوس الشهيد أن يذكر ضمن طقوس القداس الإلهى (يقف القارئ فى الوسط فى موضع عالى ويقرأ من كتب موسى ويشوع.. و.. و.. ويرتل قارئ آخر من تسبيحات داود. وبعد ذلك يقرأ قارئ آخر من كتاب أعمالنا ومن رسائل بولس. وبعد ذلك فليقرأ قسيس أو شماس الإنجيل).
8- لا توجد عبادة فى الكنيسة ولا يوجد طقس من طقوس الكنيسة، إلا ويحتوى على قراءات إنجيلية متعددة من العهد الجديد، وكذلك من العهد القديم.
† فى القداس الإلهى الواحد يتم قراءة تسعة فصول من الكتاب المقدس: مزمور وإنجيل فى كل من رفع بخور عشية - رفع بخور باكر - ثم البولس والكاثوليكون والابركسيس.
† فى الصوم الكبير وصوم نينوى تقرأ النبوات من العهد القديم فى رفع بخور باكر.
† فى أسبوع الآلام تقرأ كميات ضخمة من العهدين بطريقة رائعة، تناسب أحداث الآلام المجيدة يوماً بيوم وساعة بساعة.
† فى صلوات اللقان (الغطاس - خميس العهد - عيد الرسل) نجد قراءات كثيرة من العهدين.
† فى صلوات التدشين (الكنائس – المذابح – المعموديات – الأوانى – الأيقونات.. الخ) فيها قراءات كثيرة جداً من العهدين.
† فى السيامات (سيامة الرهبان والراهبات) فيها قراءات من العهدين...
† فى صلوات التجنيز للاكليروس بكل رتبه، والشعب بكل فئاته وجنسه، نجد قراءات من الكتاب المقدس.
ثانياً: الكتاب المقدس ومكانته فى الكنيسة من خلال الليتورجية وصلواتها :
† كل صلوات الكنيسة وخصوصاً القداس الإلهى، فكل عباراته التى يتكون منها القداس الإلهى مأخوذة ومقتبسه من كلمات الكتاب المقدس بعهديه.
† فى صلاة الصلح بالقداس الإلهى، تعلن الكنيسة خلق الله للإنسان على غير فساد، كما جاء فى سفر التكوين عن خلق الإنسان، ونقول أيضاً: أنه بالخطية دخل الموت إلى البشر حسب ما جاء فى سفر التكوين، عن شجرة معرفة الخير والشر (تك 17:2). وبمجىء ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح هدم الموت وأعطى الإنسان الحياة مرة أخرى، كما يقول العهد الجديد: "كما فى ادم يموت الجميع هكذا فى المسيح سيحيا الجميع" (1كو 22:15).
† تكملة صلاة الصلح بتسبحة الملائكة أثناء ولادة السيد المسيح له المجد "المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو 14:2). إنها نصوص إنجيلية: تتكون منها صلوات القداس الإلهى.
† وباقى صلوات القداس.. تجسد وتأنس.. تألم ومات وقبر.. قام فى اليوم الثالث.. صعد إلى السموات.. جلس عن يمين أبيه... يأتى ليدين الأحياء والأموات.. ويجازى كل واحد حسب أعماله. كلها أحداث مقتبسه من الكتاب المقدس.
† الكنيسة فى صلوات القداس الإلهى تصنع ما صنعه السيد المسيح له المجد تماماً، كما جاء فى الكتاب المقدس.. أخذ خبزاً على يديه.. وباركه.. وكسره.. وقال خذوا كلوا هذا هو جسدى وهكذا أيضاً الكأس بعد العشاء.. خذوا اشربوا هذا هو دمى.. إنه تسليم حىّ ثابت كما جاء فى الكتاب المقدس.
† فى باقى صلوات القداس الإلهى، ورفع البخور، تصلى الكنيسة صلوات وتطلب الخير من أجل الحكام - الناس - ومن أجل الحيوان والنبات وأهوية السماء..
كلها من روح الكتاب المقدس، وما جاء فيه عن الرب يسوع الذى كان يجول
يصنع خيراً.
† فى صلوات الأجبية كلها من العهدين: فهناك المزامير من العهد القديم، والإنجيل من العهد الجديد والقطع من روح الإنجيل. وهكذا نجد الكتاب المقدس محور كل ليتورجيات الكنيسة وصلواتها.
ثالثاً: الكتاب المقدس ومكانته فى تسبحة الكنيسة :
† لا توجد كنيسة فى العالم مثل الكنيسة الأرثوذكسية، تعتبر الكتاب المقدس هو المنهج لصلواتها وتسابيحها.. وتقتبس منه كل تسابيحها، التى تقدم بها
ذبيحة التسبيح، من خلال الكتاب المقدس بعهديه وتسمو بأرواح المؤمنين الى درجات روحية عالية.
† ففى تسبحة نصف الليل التى تبدأ بعبارة "قوموا يا بنى النور لنسبح رب القوات" تمشياً مع قول الكتاب المقدس: "سبقت عيناى فى وقت السحر لأتلو فى جميع أقوالك".
† وأيضاً فى تسبحة نصف الليل نجد :
- الهوس الأول : يحكى قصة عبور البحر الأحمر كما جاءت فى سفر الخروج.
- الهوس الثانى : مزمور 135.
- الهوس الثالث : قصة الثلاثة فتية كما جاءت فى سفر دانيال.
- الهوس الرابع : مزامير 148، 149، 150.
† وهكذا أيضاً ثيئوطوكيات الأيام وذكصولوجياتها.. فهى تحتوى على شروحات فى غاية الدقة عن رموز العذراء، كما جاءت فى العهد القديم، وقدمها لنا القديس كيرلس عمود الدين منظومة فى إيقاع شعرى رائع، يسبى العقل، ويرتفع بالنفس البشرية إلى عنان السماء.
† وكذلك فى تسبحة كيهك... نجد اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس...
† وهنا نستطيع القول: بأن الكنيسة تقدم للرب ذبيحة التسبيح، من نفس كلماته التى أعطاها لها فى الكتاب المقدس