مخطوطات العهد الجديد
قال المعترض: «لما كانت النسخة الأصلية للكتاب المقدس غير موجودة الآن، فلا يجوز الاعتماد على النسخ الأثرية».
وللرد نقول: هذا الاعتراض مرفوضٌ للأسباب الآتية:
(1) لا يوجد أثر لأصول أهم الكتب القديمة، مثل لوْحَي الحجر اللذين كُتبت عليهما الوصايا العشر، ومع ذلك لا يشك أحد في أن الوصايا العشر الواردة الآن في التوراة هي بعينها التي كانت مدوَّنة على اللوحين المذكورين، لأن التواتر العام دليل على صدقها.
(2) عاصر كثيرون من المسيحيين النسخة الأصلية وهذه النسخ معاً. ولو كان قد حدث فيها تحريف، لثاروا ضده وأعلنوا اعتراضهم على الملأ.
(3) يرجع تاريخ بعض نُسخ الكتاب إلى سنة 125م، أي بعد الانتهاء من كتابة أجزاء الكتاب المقدس الأصلية بمدة تتراوح بين 60 و25 سنة فقط. وهذا لا يدع مجالاً لحدوث أي تحريف فيها. ويتفوَّق الكتاب المقدس على سائر الكتب بمخطوطاته في الكثرة، فهناك نسخة كاملة من إنجيل يوحنا وُجدت سنة 1923 على بعد 28 كيلو متراً جنوب أسيوط (في مصر) يرجع تاريخها إلى سنة 125م، وهي محفوظة الآن بمكتبة ريلاندز بمانشستر (إنجلترا). وهناك أيضاً بقايا نسخ من الأناجيل التي كتبها كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مع رسائل بولس الرسول، وجزء من سفر الرؤيا يرجع تاريخها إلى سنة 180م، وجميعها محفوظة أيضاً هناك. وعدا ذلك توجد مجموعة شتوبي التي تحتوي على أجزاء من العهدين القديم والجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 200م. كما توجد مخطوطة مدينة دورا (الواقعة على نهر الفرات) وتحتوي على أجزاء من العهد الجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 275م. ومجموعة أرسانيوس (بالفيوم - مصر) تحتوي على كثير من أقوال المسيح، ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن الرابع. وبالإضافة إلى ذلك، هناك ست نسخ كاملة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الثالث والخامس، نُشرت صورٌ لبعض صفحاتها في الكتب والمراجع الهامة، وهي:
(أ) النسخة الإخميمية: اكتشفها العلامة تشستر بيتي في إخميم بصعيد مصر سنة 1945م، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث، وهي محفوظة الآن في لندن.
(ب) نسخة سانت كاترين: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد اكتشفتها بعثة أمريكية بمساعدة بعض الأساتذة المصريين من جامعة »فاروق« سابقاً (الإسكندرية حالياً) وقد أشارت إلى هذه النسخة الجرائد المصرية لا سيما جريدة الزمان في 15 يوليو (تموز) 1950 وجريدة الأهرام في 6 يوليو (تموز) 1966 عند حديثها عن احتفال جامعة الإسكندرية بمناسبة مرور 1400 سنة على إنشاء دير سانت كاترين، وعند الاحتفال بإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة عام 1991.
(ج) النسخة السينائية: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد عثر تشندروف العالم الألماني على 45 ورقة منها في سنة 1842م في دير سانت كاترين (في شبه جزيرة سيناء)، وعثر على الباقي في المدة من سنة 1852-1859م، ثم أهداها إلى الإسكندر إمبراطور روسيا، وقد صُوِّرت صفحاتها سنة 1911 وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب. ولما قامت الثورة الشيوعية عُرضت هذه النسخة للبيع، فاشتراها المتحف البريطاني سنة 1935 بما يوازي بضعة ملايين من الدولارات.
(د) النسخة الفاتيكانية: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وسُمِّيت بهذا الاسم لأنها كانت ملكاً لمكتبة الفاتيكان بروما، وورد ذكرها في محتويات هذه المكتبة سنة 1475م. لكن لما اقتحمت جيوش نابليون إيطاليا، نُقلت إلى باريس ليدرسها العلماء فيها. وفي عام 1889 صُوِّرت صفحاتها وطُبع منها عدد كبير، أُرسل إلى بعض المتاحف والجامعات. ومن الأدلة على قِدم هذه النسخة، عدم انفصال كلماتها بعضها عن بعض. ويقول رجال الآثار إن كاتبها مصري.
(هـ) النسخة الإسكندرانية: ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وتتكوَّن من أربعة مجلدات ضخمة، وقد عثر عليها في الإسكندرية لوكاربوس بطريرك الأستانة، فأرسلها إلى تشارلز الأول ملك إنجلترا، على يد السير توماس سفير إنجلترا في الأستانة سنة 1624م. وأُودعت بعد ذلك في المتحف البريطاني سنة 1853م. ويقول رجال الآثار إن النسخة المذكورة كتبها شخص يُدعى «تكلا» وإنها كانت إحدى النسخ التي جُمعت من الإسكندرية سنة 615م لمقارنة الترجمة السريانية عليها. ومن الأدلة على قِدمها أن رسائل بولس الرسول ترد بها غير مقسمة إلى أصحاحات، على نقيض النسخ التي كُتبت بعد القرن الخامس. وقد صُوِّرت صفحاتها سنة 1869م وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب.
(و) النسخة الأفرائيمية: ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وكانت مِلكاً لعائلة مديشي في فلورنسا، ثم نُقلت إلى باريس في القرن السادس عشر، وأُودعت بدار الكتب بها.
وعدا النسخ التي ذكرناها توجد النسخة الأمبروسانية (وترجع إلى سنة 450م) والنسخة البيزائية (550م) والنسخة الشرقية (820م) والنسخة البطرسية (916م)، كما توجد 674 نسخة غير كاملة يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الخامس والعاشر، وجميعها محفوظة في المتاحف ودور الكتب الأوروبية.
(ز) وعلاوة على النسخ القديمة توجد جداول لمحتويات الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث وما بعده:
هناك 13 جدولاً للكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الثالث والقرون الأربعة التالية له، يحتوي كل منهما على أسماء أسفار هذا الكتاب وملخص كل سفر منه، وأشهرها: جدول مورتوري المحفوظ بميلان، وجدول أوريجانوس المحفوظ بباريس، وجدول يوذينوس، وجدول أثناسيوس، وجدول يوسابيوس، وجدول لاودكية، وجدول سلاميس، وجدول غريغوريوس. وهذه الجداول محفوظة الآن في متحف لندن وغيره. وقد قام يوشيان وغيره من العلماء بمضاهاة نسخ الكتاب المقدس الموجود بين أيدينا الآن، فلم يجدوا اختلافاً ما، الأمر الذي يدل على أنه لم يحدث به تحريف أو تغيير.
(ح) وتوجد كتب دينية بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الأول وما بعده:
1- فمن القرن الأول توجد:
(1) رسالة لأكليمندس (أسقف روما سنة 80م) الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (فيلبي 4:3) تحتوي على 59 فصلاً، كلها مواعظ مؤسسة على فصول من الإنجيل. وقد أشار إليها إيريناوس سنة 170م وديونسيوس أسقف كورنثوس سنة 190م وهذه الرسالة محفوظة الآن بمتحف لندن.
(2) ثلاثة كتب لهرميس الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (رومية 16:14) وتتحدث عن حياة المسيح والعقائد المسيحية الواردة في العهد الجديد.
(3) سبع رسائل لأغناطيوس (أسقف أنطاكية سنة 95م) تحث على التقوى والقداسة والإيمان الحقيقي بالمسيح، وهي محفوظة الآن بمتحف باريس
2- ومن القرن الثاني توجد:
(1) رسالة لبوليكاربوس (أسقف سميرنا، المعروفة اليوم باسم أزمير، والذي كان تلميذاً ليوحنا الرسول) وهي تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده.
(2) تفسير الإنجيل تأليف بابياس أسقف هيرابوليس في ستة مجلدات.
(3) كتاب ليوستينوس الفيلسوف يدافع فيه عن المسيحية، ويجادل بشأنها كثيرين، من بينهم شخص يهودي اسمه تريفو. وكتب يوستينوس أيضاً رسائل إلى الإمبراطورين تيطس أنطونيوس ومارك أنطونيوس، وإلى أعضاء مجلس الشيوخ في روما، يوضح فيها أسباب اعتناقه للمسيحية.
(4) كتاب لهيجسبوس يصف فيه رحلته إلى الكنائس الشرقية والغربية. سجل فيه أنه وجد الكنائس المذكورة تسير وفقاً للتعاليم الواردة في إنجيل يسوع المسيح.
(5) كتاب لإيريناوس أسقف ليون ذكر فيه ما سمعه عن رسل المسيح الإثني عشر، من الأشخاص الذين عاصروهم.
(6) كتاب لأثيناغورس أحد فلاسفة المسيحيين القدامى سجل فيه أن الكنائس تواظب على دراسة إنجيل المسيح المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا.
(7) كتاب للفيلسوف أرستيدس يتضمن خلاصة التعاليم المسيحية، وقد أهداه مؤلفه إلى الإمبراطور أدريانوس.
(8) كتاب «اتفاق البشائر الأربع» بقلم تيتيانوس.
(9) تفسير الإنجيل بقلم باتنينوس وآخر بقلم أكليمندس.
(10) مؤلفات الفيلسوف ترتليان عن العقائد المسيحية.
3- ومن القرن الثالث يوجد:
(1) كتب أوريجانوس في التفسير والبحوث الدينية، وعددها كما يقول المؤرخون أكثر من 500 كتاب.
(2) تاريخ الكنيسة وتعاليمها الأساسية ليوسابيوس المؤرخ المشهور.
(3) كتب غريغوريوس أسقف قيصرية، وديونسيوس أسقف الإسكندرية، وكبريان أسقف قرطجنة، وكلها تحتوي على دراسة للعقائد المسيحية، وتفسير لبعض الآيات الكتابية، وكثير من الحوادث التاريخية التي جرت في القرنين الأول والثاني.
وقد أحصى علماء الكتاب المقدس الآيات التي اقتبسها أصحاب الكتب المذكورة، فوجدوا أنها تبلغ حوالي ثلاثة أرباع الآيات الواردة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا، وتحوي كل آيات العهد الجديد ما عدا إحدى عشرة آية، كما وجدوا أنه ليس هناك اقتباس في هذه الكتب إلا وهو موجود في هذا الكتاب. وقال علماء الكتاب المقدس إنه لو ضاعت نسخ الكتاب المقدس الحالي من الوجود، لأمكن جمع معظمه من الكتب الدينية السابق ذكرها، الأمر الذي يدل على أن نسخة الكتاب المقدس الحالية هي هي كما كانت منذ القرون الأول، دون تغيير أو تبديل
(4) من هو النبي الصادق؟
تأيَّدت التوراة والإنجيل بالمعجزات الباهرة، وبالتعليم المعجزي، فموسى عمل المعجزات الباهرة من فلق البحر الأحمر وإخراج الماء من الصخرة وغير ذلك، وتلقَّى الوصايا من ربه على لوحي حجر. والمسيح أقام الموتى وفتح أعين العميان وشفى المصابين بأمراض متنوعة، وعلَّم تعاليم رائعة غير مسبوقة، وخصوصاً في الموعظة على الجبل، التي ستظل نوراً للأجيال.
وتأيدت الكتب المقدسة بالنبوَّات أيضاً، فالنبوَّة هي معرفة الغيب. والإنسان مهما أوتي من الذكاء يعجز عن معرفة المستقبل، لأنها غير مبنيَّة على المشاهدة أو الاستنتاج حتى كان يمكن أن يُقاس عليها الغائب، بل كثيراً ما تكون منافية للأحوال العادية والانتظار البشري. ويخرج عن هذا التعريف نبوات الرجل السياسي، لأنه يقيس الغائب على الحاضر، وينبىء عن حوادث مستقبلة بناءً على ما عرفه من طباع قومه وأخلاقهم، وبناءً على ما عرفه من أخلاق الأمة المجاورة لبلاده. ومع ذلك فكثيراً ما يخطئ. ومما يشبه السياسي في إصابة الظن رئيس الجيش ولاعب الشطرنج، فإن معرفة كلٍ منهما بالفوز والغلبة على قرينة مبنيّة على مقدِّمات مشاهَدة، وليس على أمور مبنيّة على الغيب.
وتمتاز النبوّات الصحيحة من الكاذبة بأمور، منها: أن النبوات الكاذبة تكون مبهمة ملتَبَسة، مثل هذا لما استشار كروسوس العرّافة في دلفي بخصوص محاربة الفرس، أنبأته بأنه «سيُخرب مملكة عظمى». ففهم بذلك أنه ينتصر على الفرس، وإن كانت هذه العبارة تحتمل أيضاً معنى هزيمته هو، فحارب الفرس وانهزم شرَّ هزيمة.
كثيرون من البشر مخلصون في حمل الحق، لكن هذا لا ينفي أن هناك عدداً من البشر أساءوا استخدام الحق، فلبسوا ثيابه واستخدموه لتحقيق أغراض خاصة، مثل مكسب مادي أو اجتماعي، وأضلّوا خلفهم الكثيرين. ترى كيف نتعرَّف على هؤلاء ونكتشفهم؟
يعلّمنا المسيح عن كيفية التفرقة بين حامل الحق ومزيِّف الحق، أو كيف نكتشف كذب المعلّم.
(1) نكتشف صدق المعلم من صدق رسالته: قال المسيح: «احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة» (متى 7: 15). وأيضاً: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متى 7: 22، 23).
ويتَّضح كذب الرسالة عندما نطابقها بكلمة الله الصادقة التي أوحى بها منذ البدء لأنبيائه، في تسلسل واضح وبطريق تصاعُدي. فالمعلم الذي يكرر رسالة جاءت من قبل ليس معلماً، لكنه مقلِّد، لأنه لم يأتِ بجديد في الطريق التصاعدي لوحي الله. فقد بدأ الوحي الإلهي بالوحي الشفهي بدءاً من آدم إلى موسى، ثم بالوحي المكتوب ابتداءً من موسى إلى المسيح، ثم بالوحي المتجسِّد في المسيح: «الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين» (عبرانيين 1:1). فالوحي تدرَّج من وحي شفهي، إلى كتابي، إلى متجسِّد. والأحكام تدرَّجت من عين بعين وسن بسن، إلى تحب قريبك كنفسك، ثم إلى أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مبغضيكم.
ولقد حدث كثيراً في تاريخ شعب الرب أن ظهر أنبياء يقطعون هذا التسلسل الإلهي والتصاعدي، ويرتدُّون إلى تعاليم السَّلَف، ويرجعون بالإنسان إلى دائرة أو مرحلة تخطّاها من زمن بعيد في علاقته بالله. وقد قال الله عن هؤلاء: «لم أرسل الأنبياء بل هم جَرَوْا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا. ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي وردُّوهم عن طريقهم الرّديء وعن شر أعمالهم. ألعلّي إلهٌ من قريب يقول الرب، ولست إلهاً من بعيد؟.. قد سمعتُ ما قالتْهُ الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلِمْتُ حلمت.. النبي الذي معه حُلمٌ فليقُصَّ حُلماً، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق. ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟ أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب وكمطرقةٍ تحطم الصخر.. وأنا لم أرسلهم ولا أمرتُهم» (إرميا 23: 21-32).
ويقول بطرس الرسول: «نائلين غاية إيمانكم خلاصَ النفوس، الخلاصَ الذي فتَّش وبحث عنه أنبياءٌ. الذين تنبَّأوا عن النعمة التي لأجلكم. باحثين أيُّ وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدلُّ عليه روحُ المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها» (1بطرس 1: 9-11). وأيضاً «عندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها، كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلم» (2بطرس 1: 19).
فمقياس صحة التعليم هو الكلمة المقدسة الموحى بها في العهدين القديم والجديد. وإذا أردت أن تمتحن صدق معلِّمٍ من المعلمين، فامتحن ما يقوله بمقارنته بالكلمة المقدسة: هل يسير في الطريق الذي رسمه الله من قبل للبشر؟ هل تتطابق كلماته مع الوحي المقدس السابق له؟ هل يتوافق مع النَّغم الإلهي المتصاعد، من كلمة شفهية إلى كلمة مكتوبة إلى الكلمة المتجسِّد؟ هذا هو السؤال، وهذا هو المحك.
(2) نكتشف صدق المعلم أو النبي من معجزته الحقيقية: فكل معلم يأتي بكلام الله، يؤيده الله بمعجزة حقيقية شكلاً وموضوعاً. يقول المسيح: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط» (متى 7: 22، 23). وهؤلاء أنبياء صنعوا معجزات لكنها غير حقيقية. فقد قاموا بالمعجزة كشكل خارجي، أو بمعنى آخر استدعوا المعجزة من خارجهم كالحُواة والسحرة. لكن معجزة النبي الحقيقي هي التي تنبع من داخله، أي يكون هو كشخصٍ معجزةً في ذاته، لأن الله يؤيده.
بعد أن أجرى المسيح معجزة إشباع الخمسة آلاف فتش الناس عليه ولم يجدوه، فركبوا مراكب إلى كفرناحوم ووجدوه في عبر البحر، فقالوا له: «يا معلم متى صرت هنا؟» فواجههم بالقول: «الحق الحق أقول لكم، أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي». قالوا له: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟» أجاب: «هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله». فسألوه: «أيّةُ آيةٍ تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية..» قال لهم: «الحق الحق أقول لكم، ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء». فقالوا له: «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز». فقال: «أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يوحنا 6: 25-40).
قال المعترض: «لما كانت النسخة الأصلية للكتاب المقدس غير موجودة الآن، فلا يجوز الاعتماد على النسخ الأثرية».
وللرد نقول: هذا الاعتراض مرفوضٌ للأسباب الآتية:
(1) لا يوجد أثر لأصول أهم الكتب القديمة، مثل لوْحَي الحجر اللذين كُتبت عليهما الوصايا العشر، ومع ذلك لا يشك أحد في أن الوصايا العشر الواردة الآن في التوراة هي بعينها التي كانت مدوَّنة على اللوحين المذكورين، لأن التواتر العام دليل على صدقها.
(2) عاصر كثيرون من المسيحيين النسخة الأصلية وهذه النسخ معاً. ولو كان قد حدث فيها تحريف، لثاروا ضده وأعلنوا اعتراضهم على الملأ.
(3) يرجع تاريخ بعض نُسخ الكتاب إلى سنة 125م، أي بعد الانتهاء من كتابة أجزاء الكتاب المقدس الأصلية بمدة تتراوح بين 60 و25 سنة فقط. وهذا لا يدع مجالاً لحدوث أي تحريف فيها. ويتفوَّق الكتاب المقدس على سائر الكتب بمخطوطاته في الكثرة، فهناك نسخة كاملة من إنجيل يوحنا وُجدت سنة 1923 على بعد 28 كيلو متراً جنوب أسيوط (في مصر) يرجع تاريخها إلى سنة 125م، وهي محفوظة الآن بمكتبة ريلاندز بمانشستر (إنجلترا). وهناك أيضاً بقايا نسخ من الأناجيل التي كتبها كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مع رسائل بولس الرسول، وجزء من سفر الرؤيا يرجع تاريخها إلى سنة 180م، وجميعها محفوظة أيضاً هناك. وعدا ذلك توجد مجموعة شتوبي التي تحتوي على أجزاء من العهدين القديم والجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 200م. كما توجد مخطوطة مدينة دورا (الواقعة على نهر الفرات) وتحتوي على أجزاء من العهد الجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 275م. ومجموعة أرسانيوس (بالفيوم - مصر) تحتوي على كثير من أقوال المسيح، ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن الرابع. وبالإضافة إلى ذلك، هناك ست نسخ كاملة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الثالث والخامس، نُشرت صورٌ لبعض صفحاتها في الكتب والمراجع الهامة، وهي:
(أ) النسخة الإخميمية: اكتشفها العلامة تشستر بيتي في إخميم بصعيد مصر سنة 1945م، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث، وهي محفوظة الآن في لندن.
(ب) نسخة سانت كاترين: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد اكتشفتها بعثة أمريكية بمساعدة بعض الأساتذة المصريين من جامعة »فاروق« سابقاً (الإسكندرية حالياً) وقد أشارت إلى هذه النسخة الجرائد المصرية لا سيما جريدة الزمان في 15 يوليو (تموز) 1950 وجريدة الأهرام في 6 يوليو (تموز) 1966 عند حديثها عن احتفال جامعة الإسكندرية بمناسبة مرور 1400 سنة على إنشاء دير سانت كاترين، وعند الاحتفال بإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة عام 1991.
(ج) النسخة السينائية: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد عثر تشندروف العالم الألماني على 45 ورقة منها في سنة 1842م في دير سانت كاترين (في شبه جزيرة سيناء)، وعثر على الباقي في المدة من سنة 1852-1859م، ثم أهداها إلى الإسكندر إمبراطور روسيا، وقد صُوِّرت صفحاتها سنة 1911 وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب. ولما قامت الثورة الشيوعية عُرضت هذه النسخة للبيع، فاشتراها المتحف البريطاني سنة 1935 بما يوازي بضعة ملايين من الدولارات.
(د) النسخة الفاتيكانية: ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وسُمِّيت بهذا الاسم لأنها كانت ملكاً لمكتبة الفاتيكان بروما، وورد ذكرها في محتويات هذه المكتبة سنة 1475م. لكن لما اقتحمت جيوش نابليون إيطاليا، نُقلت إلى باريس ليدرسها العلماء فيها. وفي عام 1889 صُوِّرت صفحاتها وطُبع منها عدد كبير، أُرسل إلى بعض المتاحف والجامعات. ومن الأدلة على قِدم هذه النسخة، عدم انفصال كلماتها بعضها عن بعض. ويقول رجال الآثار إن كاتبها مصري.
(هـ) النسخة الإسكندرانية: ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وتتكوَّن من أربعة مجلدات ضخمة، وقد عثر عليها في الإسكندرية لوكاربوس بطريرك الأستانة، فأرسلها إلى تشارلز الأول ملك إنجلترا، على يد السير توماس سفير إنجلترا في الأستانة سنة 1624م. وأُودعت بعد ذلك في المتحف البريطاني سنة 1853م. ويقول رجال الآثار إن النسخة المذكورة كتبها شخص يُدعى «تكلا» وإنها كانت إحدى النسخ التي جُمعت من الإسكندرية سنة 615م لمقارنة الترجمة السريانية عليها. ومن الأدلة على قِدمها أن رسائل بولس الرسول ترد بها غير مقسمة إلى أصحاحات، على نقيض النسخ التي كُتبت بعد القرن الخامس. وقد صُوِّرت صفحاتها سنة 1869م وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب.
(و) النسخة الأفرائيمية: ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وكانت مِلكاً لعائلة مديشي في فلورنسا، ثم نُقلت إلى باريس في القرن السادس عشر، وأُودعت بدار الكتب بها.
وعدا النسخ التي ذكرناها توجد النسخة الأمبروسانية (وترجع إلى سنة 450م) والنسخة البيزائية (550م) والنسخة الشرقية (820م) والنسخة البطرسية (916م)، كما توجد 674 نسخة غير كاملة يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الخامس والعاشر، وجميعها محفوظة في المتاحف ودور الكتب الأوروبية.
(ز) وعلاوة على النسخ القديمة توجد جداول لمحتويات الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث وما بعده:
هناك 13 جدولاً للكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الثالث والقرون الأربعة التالية له، يحتوي كل منهما على أسماء أسفار هذا الكتاب وملخص كل سفر منه، وأشهرها: جدول مورتوري المحفوظ بميلان، وجدول أوريجانوس المحفوظ بباريس، وجدول يوذينوس، وجدول أثناسيوس، وجدول يوسابيوس، وجدول لاودكية، وجدول سلاميس، وجدول غريغوريوس. وهذه الجداول محفوظة الآن في متحف لندن وغيره. وقد قام يوشيان وغيره من العلماء بمضاهاة نسخ الكتاب المقدس الموجود بين أيدينا الآن، فلم يجدوا اختلافاً ما، الأمر الذي يدل على أنه لم يحدث به تحريف أو تغيير.
(ح) وتوجد كتب دينية بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الأول وما بعده:
1- فمن القرن الأول توجد:
(1) رسالة لأكليمندس (أسقف روما سنة 80م) الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (فيلبي 4:3) تحتوي على 59 فصلاً، كلها مواعظ مؤسسة على فصول من الإنجيل. وقد أشار إليها إيريناوس سنة 170م وديونسيوس أسقف كورنثوس سنة 190م وهذه الرسالة محفوظة الآن بمتحف لندن.
(2) ثلاثة كتب لهرميس الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (رومية 16:14) وتتحدث عن حياة المسيح والعقائد المسيحية الواردة في العهد الجديد.
(3) سبع رسائل لأغناطيوس (أسقف أنطاكية سنة 95م) تحث على التقوى والقداسة والإيمان الحقيقي بالمسيح، وهي محفوظة الآن بمتحف باريس
2- ومن القرن الثاني توجد:
(1) رسالة لبوليكاربوس (أسقف سميرنا، المعروفة اليوم باسم أزمير، والذي كان تلميذاً ليوحنا الرسول) وهي تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده.
(2) تفسير الإنجيل تأليف بابياس أسقف هيرابوليس في ستة مجلدات.
(3) كتاب ليوستينوس الفيلسوف يدافع فيه عن المسيحية، ويجادل بشأنها كثيرين، من بينهم شخص يهودي اسمه تريفو. وكتب يوستينوس أيضاً رسائل إلى الإمبراطورين تيطس أنطونيوس ومارك أنطونيوس، وإلى أعضاء مجلس الشيوخ في روما، يوضح فيها أسباب اعتناقه للمسيحية.
(4) كتاب لهيجسبوس يصف فيه رحلته إلى الكنائس الشرقية والغربية. سجل فيه أنه وجد الكنائس المذكورة تسير وفقاً للتعاليم الواردة في إنجيل يسوع المسيح.
(5) كتاب لإيريناوس أسقف ليون ذكر فيه ما سمعه عن رسل المسيح الإثني عشر، من الأشخاص الذين عاصروهم.
(6) كتاب لأثيناغورس أحد فلاسفة المسيحيين القدامى سجل فيه أن الكنائس تواظب على دراسة إنجيل المسيح المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا.
(7) كتاب للفيلسوف أرستيدس يتضمن خلاصة التعاليم المسيحية، وقد أهداه مؤلفه إلى الإمبراطور أدريانوس.
(8) كتاب «اتفاق البشائر الأربع» بقلم تيتيانوس.
(9) تفسير الإنجيل بقلم باتنينوس وآخر بقلم أكليمندس.
(10) مؤلفات الفيلسوف ترتليان عن العقائد المسيحية.
3- ومن القرن الثالث يوجد:
(1) كتب أوريجانوس في التفسير والبحوث الدينية، وعددها كما يقول المؤرخون أكثر من 500 كتاب.
(2) تاريخ الكنيسة وتعاليمها الأساسية ليوسابيوس المؤرخ المشهور.
(3) كتب غريغوريوس أسقف قيصرية، وديونسيوس أسقف الإسكندرية، وكبريان أسقف قرطجنة، وكلها تحتوي على دراسة للعقائد المسيحية، وتفسير لبعض الآيات الكتابية، وكثير من الحوادث التاريخية التي جرت في القرنين الأول والثاني.
وقد أحصى علماء الكتاب المقدس الآيات التي اقتبسها أصحاب الكتب المذكورة، فوجدوا أنها تبلغ حوالي ثلاثة أرباع الآيات الواردة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا، وتحوي كل آيات العهد الجديد ما عدا إحدى عشرة آية، كما وجدوا أنه ليس هناك اقتباس في هذه الكتب إلا وهو موجود في هذا الكتاب. وقال علماء الكتاب المقدس إنه لو ضاعت نسخ الكتاب المقدس الحالي من الوجود، لأمكن جمع معظمه من الكتب الدينية السابق ذكرها، الأمر الذي يدل على أن نسخة الكتاب المقدس الحالية هي هي كما كانت منذ القرون الأول، دون تغيير أو تبديل
(4) من هو النبي الصادق؟
تأيَّدت التوراة والإنجيل بالمعجزات الباهرة، وبالتعليم المعجزي، فموسى عمل المعجزات الباهرة من فلق البحر الأحمر وإخراج الماء من الصخرة وغير ذلك، وتلقَّى الوصايا من ربه على لوحي حجر. والمسيح أقام الموتى وفتح أعين العميان وشفى المصابين بأمراض متنوعة، وعلَّم تعاليم رائعة غير مسبوقة، وخصوصاً في الموعظة على الجبل، التي ستظل نوراً للأجيال.
وتأيدت الكتب المقدسة بالنبوَّات أيضاً، فالنبوَّة هي معرفة الغيب. والإنسان مهما أوتي من الذكاء يعجز عن معرفة المستقبل، لأنها غير مبنيَّة على المشاهدة أو الاستنتاج حتى كان يمكن أن يُقاس عليها الغائب، بل كثيراً ما تكون منافية للأحوال العادية والانتظار البشري. ويخرج عن هذا التعريف نبوات الرجل السياسي، لأنه يقيس الغائب على الحاضر، وينبىء عن حوادث مستقبلة بناءً على ما عرفه من طباع قومه وأخلاقهم، وبناءً على ما عرفه من أخلاق الأمة المجاورة لبلاده. ومع ذلك فكثيراً ما يخطئ. ومما يشبه السياسي في إصابة الظن رئيس الجيش ولاعب الشطرنج، فإن معرفة كلٍ منهما بالفوز والغلبة على قرينة مبنيّة على مقدِّمات مشاهَدة، وليس على أمور مبنيّة على الغيب.
وتمتاز النبوّات الصحيحة من الكاذبة بأمور، منها: أن النبوات الكاذبة تكون مبهمة ملتَبَسة، مثل هذا لما استشار كروسوس العرّافة في دلفي بخصوص محاربة الفرس، أنبأته بأنه «سيُخرب مملكة عظمى». ففهم بذلك أنه ينتصر على الفرس، وإن كانت هذه العبارة تحتمل أيضاً معنى هزيمته هو، فحارب الفرس وانهزم شرَّ هزيمة.
كثيرون من البشر مخلصون في حمل الحق، لكن هذا لا ينفي أن هناك عدداً من البشر أساءوا استخدام الحق، فلبسوا ثيابه واستخدموه لتحقيق أغراض خاصة، مثل مكسب مادي أو اجتماعي، وأضلّوا خلفهم الكثيرين. ترى كيف نتعرَّف على هؤلاء ونكتشفهم؟
يعلّمنا المسيح عن كيفية التفرقة بين حامل الحق ومزيِّف الحق، أو كيف نكتشف كذب المعلّم.
(1) نكتشف صدق المعلم من صدق رسالته: قال المسيح: «احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة» (متى 7: 15). وأيضاً: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متى 7: 22، 23).
ويتَّضح كذب الرسالة عندما نطابقها بكلمة الله الصادقة التي أوحى بها منذ البدء لأنبيائه، في تسلسل واضح وبطريق تصاعُدي. فالمعلم الذي يكرر رسالة جاءت من قبل ليس معلماً، لكنه مقلِّد، لأنه لم يأتِ بجديد في الطريق التصاعدي لوحي الله. فقد بدأ الوحي الإلهي بالوحي الشفهي بدءاً من آدم إلى موسى، ثم بالوحي المكتوب ابتداءً من موسى إلى المسيح، ثم بالوحي المتجسِّد في المسيح: «الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكل شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين» (عبرانيين 1:1). فالوحي تدرَّج من وحي شفهي، إلى كتابي، إلى متجسِّد. والأحكام تدرَّجت من عين بعين وسن بسن، إلى تحب قريبك كنفسك، ثم إلى أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مبغضيكم.
ولقد حدث كثيراً في تاريخ شعب الرب أن ظهر أنبياء يقطعون هذا التسلسل الإلهي والتصاعدي، ويرتدُّون إلى تعاليم السَّلَف، ويرجعون بالإنسان إلى دائرة أو مرحلة تخطّاها من زمن بعيد في علاقته بالله. وقد قال الله عن هؤلاء: «لم أرسل الأنبياء بل هم جَرَوْا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا. ولو وقفوا في مجلسي لأخبروا شعبي بكلامي وردُّوهم عن طريقهم الرّديء وعن شر أعمالهم. ألعلّي إلهٌ من قريب يقول الرب، ولست إلهاً من بعيد؟.. قد سمعتُ ما قالتْهُ الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلِمْتُ حلمت.. النبي الذي معه حُلمٌ فليقُصَّ حُلماً، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمتي بالحق. ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟ أليست هكذا كلمتي كنارٍ يقول الرب وكمطرقةٍ تحطم الصخر.. وأنا لم أرسلهم ولا أمرتُهم» (إرميا 23: 21-32).
ويقول بطرس الرسول: «نائلين غاية إيمانكم خلاصَ النفوس، الخلاصَ الذي فتَّش وبحث عنه أنبياءٌ. الذين تنبَّأوا عن النعمة التي لأجلكم. باحثين أيُّ وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدلُّ عليه روحُ المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها» (1بطرس 1: 9-11). وأيضاً «عندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها، كما إلى سراجٍ منيرٍ في موضعٍ مظلم» (2بطرس 1: 19).
فمقياس صحة التعليم هو الكلمة المقدسة الموحى بها في العهدين القديم والجديد. وإذا أردت أن تمتحن صدق معلِّمٍ من المعلمين، فامتحن ما يقوله بمقارنته بالكلمة المقدسة: هل يسير في الطريق الذي رسمه الله من قبل للبشر؟ هل تتطابق كلماته مع الوحي المقدس السابق له؟ هل يتوافق مع النَّغم الإلهي المتصاعد، من كلمة شفهية إلى كلمة مكتوبة إلى الكلمة المتجسِّد؟ هذا هو السؤال، وهذا هو المحك.
(2) نكتشف صدق المعلم أو النبي من معجزته الحقيقية: فكل معلم يأتي بكلام الله، يؤيده الله بمعجزة حقيقية شكلاً وموضوعاً. يقول المسيح: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط» (متى 7: 22، 23). وهؤلاء أنبياء صنعوا معجزات لكنها غير حقيقية. فقد قاموا بالمعجزة كشكل خارجي، أو بمعنى آخر استدعوا المعجزة من خارجهم كالحُواة والسحرة. لكن معجزة النبي الحقيقي هي التي تنبع من داخله، أي يكون هو كشخصٍ معجزةً في ذاته، لأن الله يؤيده.
بعد أن أجرى المسيح معجزة إشباع الخمسة آلاف فتش الناس عليه ولم يجدوه، فركبوا مراكب إلى كفرناحوم ووجدوه في عبر البحر، فقالوا له: «يا معلم متى صرت هنا؟» فواجههم بالقول: «الحق الحق أقول لكم، أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي». قالوا له: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟» أجاب: «هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله». فسألوه: «أيّةُ آيةٍ تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية..» قال لهم: «الحق الحق أقول لكم، ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء». فقالوا له: «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز». فقال: «أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يوحنا 6: 25-40).