3)السند المتَّصل للكتاب المقدس
وصلت أسفار الكتاب المقدس إلينا بسند متَّصل وتواتر قوي، وإليك الأدلة:
السند المتصل للعهد القديم
قال المعترض: «لا يوجد سند متَّصل لكتاب من كتب العهد القديم أو الجديد. ولا بد قبل قبول أي كتاب سماوي أن نثبت أولاً بالدليل القاطع أن هذا الكتاب كُتب بواسطة النبي الفلاني، ووصل إلينا بالسند المتصل، بلا تغيير ولا تبديل. أما الظن والوهم فلا يكفيان لإثبات أنه من كتابة ذلك النبي».
وللرد نقول: نورد الأدلة التي تؤيد صحة سند هذه الكتب إلى الأنبياء المنسوبة إليهم:
(1) أوحى الله بالتوراة لكليمه موسى، وخصَّص سبط لاوي من الاثني عشر سبطاً للمحافظة عليها وإقامة سُننها وفرائضها وأحكامها، واختصَّ هذا السبط بامتيازات خصوصية ليتفرَّغ للعبادة. وأقام بنو إسرائيل الفرائض والأحكام المدوّنة في شريعتهم، وتعبَّدوا بقراءتها في أيام مواسمهم وأعيادهم كل سنة، ونفذوا أحكامها في الأمراض والعاهات، وما يجوز من الزواج وما لا يجوز، إلى يومنا هذا، وتسلمها الخلف من السلف. وهذه أدلة قوية على حفظهم إياها، وعلى السند المتصل أن هذه الكتب أُوحي بها لأولئك الأنبياء المنسوبة إليهم، وأنهم عملوا المعجزات الباهرة لتأييد دعواهم.
ولا ينكر أحد أن صولون سنَّ قوانين لسكان أثينا كانت مرعيةً عندهم، وأن ليكارجوس سنَّ قوانين لسكان إسبرطة كانوا يقيمون حدودها وسُننها، ولم يشكَّ أحدٌ في نسبة القوانين التي وضعها كل منهما إليهما. فكم بالحري الكتب المقدسة التي اتَّخذها بنو إسرائيل دستوراً في عبادتهم ومعاملاتهم! فلا ينكر أحد نسبتها إلى موسى ولا إلى الأنبياء. وقد شهد الأنبياء الذين أتوا بعد موسى لهذه الأسفار، واستشهدوا بها في أقوالهم، وحضّوا بني إسرائيل على التمسك بفرائضها وسننها.
(2) انتشار كتب موسى والأنبياء وتداولها أدلة عظيمة على صحة نسبتها إلى الأنبياء المنسوبة إليهم. وقد كانت الغاية من الوحي بها هي نشرها بينهم. والدليل على ذلك أن المؤرخ يوسيفوس قال إن موسى النبي أمر بتوزيع نسخة على كل سبط من أسباط بني إسرائيل. وانتشارها بين بني إسرائيل يثبت عدم تغييرها أو تبديلها، أو تحريف نسبتها إلى غير ما هي له، لأنه إذا تجرَّأ أحد أسباط بني إسرائيل على ذلك هاجمته بقية الأسباط. وهل يُعقل أن بني إسرائيل يغيّرون أو يحرّفون الكتب المقدسة التي تمنحهم امتيازات وبركات تسبّب تمتعهم بالنعيم الدائم؟
(3) ظهرت الكتب المقدسة بين بني إسرائيل مقترنة بأسماء الأنبياء الذين كتبوها. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يخل بنسبتها هو أن كاتبها يذكر حوادث لم تحدث. والكتب المقدسة منزهة عن ذلك، فموسى قال إنه غلب سحرة المصريين وشقَّ البحر الأحمر، وإن الله أنزل المنّ والسلوى.
(4) عدم اعتراض أحد من علماء الوثنيين على نسبة هذه الكتب إلى أصحابها يبرهن صحتها.
(5) مما يدل على صحة نسبتها: أسلوب كل نبي، فمثلاً أسلوب موسى غير أسلوب غيره من الأنبياء. وهكذا أسلوب معلقات العرب هو غير أسلوب قصائد الشعراء المخضرمين والمتأخرين، وكذلك طرق المراسلات. فاختلاف أساليب الأنبياء هو من الأدلة على صحة نسبتها إلى كل واحد.
قال المعترض: «ينقطع تواتر التوراة قبل زمان يوشيا بن آمون، والنسخة التي وُجدت بعد 18 سنة من توليه المُلك لا اعتماد عليها، بل ضاعت لما خرّب بختنصر الهيكل، ثم أن أنطيوخوس أبيفانيس دمَّر الكتاب المقدس لما خرَّب الهيكل».
وللرد نقول: (1) كانت التوراة منتشرة بين الأسباط، وأمر موسى اللاويين بوضع الكتاب في جانب التابوت شهادةً عليهم (تثنية 31: 25، 26). ولما أُعيد بناء هيكل سليمان وُضع الكتاب فيه مع جميع كتب الأنبياء. ولما أتى بختنصر وخرَّب الهيكل، لم يمس كهنتهم بشيء، لأنه لم يكن يطلب استئصال ديانتهم. نعم إنه أخذ ذخائر الهيكل والأواني المقدسة، وكان ذلك طمعاً في المال. أما الكتاب المقدس فلم يلتفت إليه (2ملوك 25 و2أخبار 36 وإرميا 52). ومع ذلك فلما سباهم إلى بابل أخذ بنو إسرائيل معهم نسخاً من الكتب المقدسة، كما يُستدل من استشهاد النبي دانيال بالشريعة (دانيال 9: 11، 14) وقد ذكر أيضاً نبوات إرميا (دانيال 9: 2)
(2) ورد في عزرا 6: 18 أنه لما تم بناء الهيكل في السنة السادسة من حكم داريوس أُعيدت عبادة بني إسرائيل حسب ما هو مكتوب في كتاب موسى، فلو لم تكن عندهم نسخ من كتب موسى لتعذَّر عليهم عبادة الله حسب ما هو مدون في الشريعة. ومما يدل على أنه كان عندهم نسخ من الكتاب المقدس بعد السبي إلى بابل، أن بني إسرائيل الذين كانوا في السبي طلبوا من عزرا أن يأتي بسفر شريعة موسى، فأتى بها وقرأ فيها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء (نحميا 8: 1-6). فلو لم تكن موجودة لما تيسّر أن يقرأ فيها من الصباح إلى الظهر. وفي عهد يهوشافاط ملك يهوذا (سنة 912 ق.م) أمر بالاهتمام الزائد بحفظ الفرائض المدوّنة في الشريعة.
(3) لما مات الملك سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين، استقلّت عشرة أسباط عن سبطي يهوذا وبنيامين، ومع ذلك فقد حافظت الأسباط العشرة على التوراة، وتُسمَّى نسختهم بالتوارة السامرية، وهي محفوظة إلى عصرنا هذا. وهناك نسخة أخرى من التوراة عند سبطي يهوذا وبنيامين. فلو ضاعت أو تغيَّرت (كما ادّعى المعترض) لوُجد فيها اختلاف. فعدم وجود اختلاف بينهما، رغم شدة العداوة بين الفريقين، هو من أعظم الأدلة على بقائها على أصلها.
(4) في سنة 286 ق.م أمر بطليموس ملك مصر بترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية، وكلَّف اثنين وسبعين من علماء بني إسرائيل فترجموها، لأن بني إسرائيل كانوا منتشرين في أنحاء الدنيا. وهذا يجعل تغييرها وتبديلها بعد انتشارها وترجمتها مستحيلاً.
(5) جمع عزرا النبي كل الأسفار المقدسة في مجلد واحد بمساعدة أعضاء مجلس بني إسرائيل، وكان من أعضائه الأنبياء حجي وزكريا وملاخي، فجمع هؤلاء الأنبياء الكرام الكتب المقدسة (ما عدا أسفار عزرا ونحميا وملاخي). وهذه الثلاثة ضمّها إلى الكتاب المقدس شمعون الورع الذي كان آخر أعضاء المجمع اليهودي.
وقد أجمع المحقِّقون على بطلان الادِّعاء أن أنطيوخوس أبيفانيس دمَّر الكتاب المقدس لما خرَّب الهيكل، ويقول المؤرخون إن يهوذا المكابي هزم جيوش أنطيوخوس وأعاد الديانة اليهودية إلى رونقها وبهائها، وبنى الهيكل، وأعاد التابوت ووضع الكتب المقدسة فيه.
هذا هو تاريخ الكتب المقدسة، من وقت الأنبياء إلى مجيء المسيح. أما تاريخها من عصر المسيح إلى عصر المدارس التلمودية فهو أن بني إسرائيل تشتتوا، وكانت اللغة المتداولة وقتئذ يونانية، فاستعملوا التوراة المترجمة إلى اليونانية، والمعروفة باسم «السبعينية». ولما أتى المسيح إلى عالمنا حثَّ الشعب على مطالعتها وتأمل معانيها. ومع أنه كان يوبخهم على غلاظة عقولهم، إلا أنه لم يتَّهمهم بتبديل كتبهم، بل كان يوبخهم على تمسكهم بالقشور، والاقتصار على مظاهر الدين الخارجية، وعدم المبالاة بالأمور الجوهرية، فقال لهم: «فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي» (يوحنا 5: 39). وقال أيضاً: «تضلون إذ لا تعرفون الكتب» (متى 22: 29). وكثيراً ما استشهد بالتوراة في أقواله: «لا يمكن أن يُنقَض المكتوب» (متى 26: 54). وقال الرسول بولس إن التوراة وحيٌ إلهي (2تيموثاوس 3: 16) وإنها أقوال الله (رومية 3: 2) وكلمة الله (رومية 9: 6). وكان بنو إسرائيل والمسيحيون يطالعونها بالتدقيق. فلو كانت مغيَّرة أو مبدَّلة أو محرَّفة لما كان المسيح له المجد يحثُّ على مطالعتها، ولما استشهد بها تلاميذه في عظاتهم وكتاباتهم.
تاريخ التوراة إلى الطبع
أما تاريخ التوراة من عصر المدارس التلمودية إلى عصر الطباعة، فهو أنه لما خرَّب الرومان أورشليم، وتبدد شمل بني إسرائيل، وجَّه بعض الذين تشتَّتوا في الشرق أنظارهم إلى دراسة الأدب، وفتحوا مدارس لمطالعة الكتب المقدسة، كانت من أفضلها مدرسة طبرية في فلسطين، (وقال إيرونيموس إنها كانت موجودة في القرن الخامس) فتفرّغوا للتمكن من الكتب المقدسة، وبالغوا في التحقيق والتدقيق والحفظ حتى توصّلوا إلى معرفة عدد حروفها. فقالوا ورد حرف الألف في التوراة العبرية نحو 42377، والبت (وهي الباء) نحو 38218، والجمل (وهي الجيم) 29537، والدالث 32530، واليود 66420، والكاف 48253، واللامد 41517 الخ. وهذا ليس بغريب على هذه الأمة التي تتعبد بتلاوة التوراة.
السند المتَّصل للعهد الجديد
جُمعت أسفار العهد الجديد قبل موت الرسول يوحنا، فاطّلع عليها وصدّقها، لأن الله أطال حياته ليقوم بهذه المهمة. وقد حافظ أئمة المسيحيين على هذه الأسفار من جيل إلى آخر بغاية الاهتمام، كما فعل أفراد سبط لاوي الذي أفرزه الله ليحافظ على الشريعة ويقيم شعائرها، فكان أئمة الدين المسيحي منقطعين لتفسيرها وشرحها والوعظ منها، وكانوا شديدي الحرص عليها لأنها تعلن طريق الخلاص والأمجاد السماوية. وترجموها وتناقلوها بالسند القوي المتَّصل من جيل إلى آخر، فانتشرت بين أمم شتى في أنحاء الدنيا، مترجمةً بلغاتهم، فكانت تُتلى عليهم في كنائسهم، وانتشرت انتشاراً عظيماً بحيث أصبح يستحيل إدخال شيء فيها من التغيير أو التبديل.. فكيف يتَّفق أصحاب العقائد العديدة المنتشرة في أنحاء الدنيا على تغيير كتابهم الذي يحضّهم على الأمانة والصدق والحق؟ وقد ورد فيه صريحاً أن «من يزيد على هذا الكتاب يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوَّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة» (رؤيا 22: 18، 19). فمن يقبل على نفسه الضربات واللعنات؟
ولم يكن ممكناً أن يحرِّف المسيحيون كتابهم، لأن اليهود الذين اشتهروا بعداوتهم لهم كانوا واقفين لهم بالمرصاد.. ثم كيف كان المسيحيون يقبلون كتاباً محرَّفاً؟.. وكيف كانوا يقبلون الاضطهاد والموت في سبيل كتاب محرَّف؟
ولنذكر أسماء بعض الذين ظهروا في القرن الأول إلى الرابع الميلادي واستشهدوا بالكتب المقدسة وتكلموا عنها، مما يدل على متانة السند المتصل لكتب العهد الجديد
استشهاد الرسل بكلام بعضهم:
استشهد الرسل بكتب بعضهم بعضاً، معترفين بأنها وحي إلهي. فقال بولس الرسول في 1تيموثاوس 5: 18 «الفاعل مستحق أجرته» وهي العبارة الواردة في لوقا 10: 7 مما يدل على أن إنجيل لوقا كان منتشراً وقت كتابة الرسول بولس لتيموثاوس. وقال الرسول يعقوب: «فإن كنتم تكمّلون الناموس الملوكي حسب الكتاب: تحب قريبك كنفسك، فحسناً تفعلون» (2: 8). وهو اقتباس من متى 22: 39. وقال بطرس الرسول: «كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً، متكلّماً فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم» (2بطرس 3: 15، 16). وبما أن الله خصَّ الرسل بقوّة المعجزات، فقد ميَّزوا بين الكتب الموحى بها من غيرها، وكانوا يستشهدون بكتب بعضهم كاستشهادهم بكتب أنبياء العهد القديم. أما الذين كانوا معاصرين لهم، فنذكر منهم:
من رجال القرن الأول:
(1) برنابا: عمل مع الرسول بولس (أعمال 13: 2، 3، 46، 47 و1كورنثوس 9: 6)، ويُسمّى رسولاً أيضاً (أعمال 14:14) وألّف رسالة كانت لها منزلة كبرى عند القدماء ولا تزال موجودة، استشهد فيها بإنجيل متى ونقل عنه بقوله «مكتوب». وكان اليهود يستعملون هذه الكلمة عند الاستشهاد بالكتب المقدسة. واستشهد بكثير من أقوال العهد الجديد، وذكر عجائب المسيح، واختياره 12 تلميذاً، وجَلْده ولطمه والاستهزاء به والاقتراع على لباسه، وقيامته في أول الأسبوع، وصعوده إلى السماء، وغير ذلك.
(2) أكليمندس: أسقف روما وعمل مع الرسول بولس (فيلبي 4: 3) وكتب رسالة إلى كنيسة كورنثوس استشهد فيها بكثير من أقوال المسيح الواردة في الإنجيل، ومن رسائل الرسل. ويُظن أنه عُيِّن أسقفاً على روما سنة 91م وتوفي سنة 100م في السنة الثالثة من حكم الإمبراطور تراجان.
(3) هرماس: كان معاصراً لبولس الرسول، وذكر اسمه في رومية 16: 4. كتب ثلاثة مجلدات في أواخر القرن الأول استشهد فيها بكثير من كتب العهد الجديد. وكانت له منزلة كبرى عند القدماء.
(4) أغناطيوس: كان أسقف أنطاكية في سنة 70م واستُشهد في سنة 107م، وكتب عدَّة رسائل لا تزال موجودة، استشهد فيها بالأناجيل ورسائل الرسل.
(5) بوليكاربوس: كان تلميذ الرسول يوحنا، رسمه أسقفاً على إزمير، واجتمع بكثير من الذين رأوا المسيح، ومات شهيداً في سنة 166م وبقيت من مؤلفاته رسالة استشهد فيها بنحو أربعين آية من العهد الجديد، ذكر فيها اتِّضاع المسيح وتعليمه وآلامه وموته على الصليب، وقيامته وصعوده. وأشار فيها إلى ما كابده بولس وغيره من الرسل من الأتعاب في الكرازة والتبشير، وتكلم عن تعاليم المسيح، ونقل عن الرسول يوحنا وغيره.
ومن رجال القرن الثاني:
(1) بابياس: أسقف هيرابوليس في آسيا، نبغ بين سنة 110 و116م، واجتمع ببوليكاربوس، وربما اجتمع بيوحنا الرسول. واستشهد في مؤلفاته بالأناجيل الأربعة وبرسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنا الأولى وأعمال الرسل والرؤيا.
(2) جستن الشهيد: وُلد في إحدى مدن السامرة في فلسطين سنة 89م وآمن بالمسيحية سنة 133م واشتهر في سنة 140م إلى أن استُشهد سنة 168. وكتب عدَّة كتب دفاعاً عن المسيحية، منها رسالة للإمبراطور تيطس أنطونيوس بيوس، ورسالة للإمبراطور ماركوس أنطونيوس ولأعضاء مجلس الشيوخ في روما ولسكانها. وله محاورة مع تريفو اليهودي باقية إلى الآن تُظهر تبحّره في فلسفة فيثوغورس وأفلاطون، وأنه رأى أن الأسلم التمسّك بالمسيحية. وتكلم عن الأناجيل الأربعة، وقال إن المسيحيين كانوا يتعبدون بتلاوتها في معابدهم، وتكلم عن رسائل بولس وبطرس ويوحنا وسفر الرؤيا. ولشهادته منزلة رفيعة لأنها شهادة فيلسوف علاّمة.
(3) المسيحيون في فرنسا: في سنة 170 في عهد ماركوس أنطونيوس قاسى المسيحيون في فرنسا اضطهادات أليمة، ولا سيما في ليون وويانة، فأرسلوا إلى إخوانهم في آسيا رسائل تشرح ما يقاسونه، أشاروا فيها إلى إنجيلي لوقا ويوحنا وأعمال الرسل ورسائل بولس إلى رومية وأفسس وفيلبي وتيموثاوس الأولى وبطرس الأولى ويوحنا والرؤيا. وحافظ أوسابيوس على معظمها.
(4) مليتو، أسقف ساردس: الذي ألَّف 13 كتاباً وصلنا بعضها، ومن مؤلفاته تفسير الرؤيا.
(5) إيريناوس: أسقف ليون سنة 170م، وشهادته جليلة لأنه كان تلميذ الرسول يوحنا، واجتمع بكثير ممن رأوا الرسل. ومؤلفاته كثيرة بقي منها خمسة كتب، دحض فيها ضلالات المضلّين، وهي تدل على سعة اطّلاعه على كتب الوثنيين، وتمكُّنه من معرفة كتب العهدين القديم والجديد. واستشهد بجميع كتب العهد الجديد، ماعدا رسالة فليمون ورسالة يوحنا الثالثة ورسالة يهوذا.
(6) أثيناغوروس: نبغ في سنة 180م وكان من فلاسفة أثينا، وهو من مشاهير الكتَّاب. وألَّف رسالة دفاعاً عن المسيحيين قدَّمها للإمبراطور ماركوس أنطونيوس، ورسالة أخرى عن قيامة الموتى استشهد فيها بالكتب المقدسة.
(7) ثاوفيلس: أسقف أنطاكية (181م) الذي ألَّف ثلاثة كتب اقتبس فيها من العهدين القديم والجديد.
ومن رجال القرن الثالث:
ظهر كثيرون من العلماء في القرن الثالث، منهم أوريجانوس الذي وُلد في مصر سنة 184م، وتوفي سنة 253، واشتهر بالتقوى والفضيلة، حتى كان فلاسفة الوثنيين يعرضون مؤلّفاتهم عليه لتنقيحها وتهذيبها. وفسر الكتب المقدسة، وله مواعظ. وقِسْ على ذلك ديونيسيوس أسقف نيو قيصرية وغيرهم.
ومن رجال القرن الرابع: أوسابيوس المؤرخ أسقف قيصرية، الذي مات سنة 340 ، وهيلاريوس سنة 366، وغيرهما.
وقد وصلنا من مؤلفات أولئك الأئمة الأفاضل نحو خمسين مؤلَّفاً من مؤلَّفاتهم التي تبلغ نحو مائة، منها تفاسير على الكتب المقدسة، ومنها في مواضيع شتى مؤيدة بآيات كثيرة من معظم الكتب المقدسة. وكان أولئك الشهود في أزمنة متنوعة وفي ممالك شتى، فنبغ أكليمندس في روما، وأغناطيوس في أنطاكية، وبوليكاربوس في سميرنا (إزمير)، وجستن الشهيد في سوريا، وإيريناوس في فرنسا، وأثيناغورس في أثينا، وثيوفيلوس في أنطاكية، وأكليمندس وأوريجانوس في الإسكندرية، وترتليان في قرطاجنة، وأغسطينوس في هبّو (وكلاهما في شمال أفريقيا) وأوسابيوس في قيصرية. وهذا يدل على انتشار المسيحية وكتبها المقدسة. ولا يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً قد تواطأوا على تحريف كتبهم، ولكنهم شهدوا للحق.
وقد قارن علماء المسيحيين نحو 686 نسخة من كتب العهد الجديد خلاف التراجم والاقتباسات والاستشهادات، فوُجدت متوافقة. وهذا يدل على تنزّه الكتب المقدسة عن التحريف والتبديل، وسلامتها من شائبة الزيادة والنقصان. وأجمع الجميع أن كتب العهد الجديد كانت متواترة بينهم.
قال المعترض: «اختلف العلماء في زمن كتابة الأناجيل، لأن القدماء الأوَّلين صدَّقوا الكتابات الواهية ودوّنوها، فاقتفى أثرهم الذين أتوا بعدهم».
وللرد نقول: عدم تحديد زمن كتابة كل إنجيل بالتدقيق لا يعني أن ما جاء بها واهٍ، فالمعوّل عليه هو ما جاء في نصوص الإنجيل
وصلت أسفار الكتاب المقدس إلينا بسند متَّصل وتواتر قوي، وإليك الأدلة:
السند المتصل للعهد القديم
قال المعترض: «لا يوجد سند متَّصل لكتاب من كتب العهد القديم أو الجديد. ولا بد قبل قبول أي كتاب سماوي أن نثبت أولاً بالدليل القاطع أن هذا الكتاب كُتب بواسطة النبي الفلاني، ووصل إلينا بالسند المتصل، بلا تغيير ولا تبديل. أما الظن والوهم فلا يكفيان لإثبات أنه من كتابة ذلك النبي».
وللرد نقول: نورد الأدلة التي تؤيد صحة سند هذه الكتب إلى الأنبياء المنسوبة إليهم:
(1) أوحى الله بالتوراة لكليمه موسى، وخصَّص سبط لاوي من الاثني عشر سبطاً للمحافظة عليها وإقامة سُننها وفرائضها وأحكامها، واختصَّ هذا السبط بامتيازات خصوصية ليتفرَّغ للعبادة. وأقام بنو إسرائيل الفرائض والأحكام المدوّنة في شريعتهم، وتعبَّدوا بقراءتها في أيام مواسمهم وأعيادهم كل سنة، ونفذوا أحكامها في الأمراض والعاهات، وما يجوز من الزواج وما لا يجوز، إلى يومنا هذا، وتسلمها الخلف من السلف. وهذه أدلة قوية على حفظهم إياها، وعلى السند المتصل أن هذه الكتب أُوحي بها لأولئك الأنبياء المنسوبة إليهم، وأنهم عملوا المعجزات الباهرة لتأييد دعواهم.
ولا ينكر أحد أن صولون سنَّ قوانين لسكان أثينا كانت مرعيةً عندهم، وأن ليكارجوس سنَّ قوانين لسكان إسبرطة كانوا يقيمون حدودها وسُننها، ولم يشكَّ أحدٌ في نسبة القوانين التي وضعها كل منهما إليهما. فكم بالحري الكتب المقدسة التي اتَّخذها بنو إسرائيل دستوراً في عبادتهم ومعاملاتهم! فلا ينكر أحد نسبتها إلى موسى ولا إلى الأنبياء. وقد شهد الأنبياء الذين أتوا بعد موسى لهذه الأسفار، واستشهدوا بها في أقوالهم، وحضّوا بني إسرائيل على التمسك بفرائضها وسننها.
(2) انتشار كتب موسى والأنبياء وتداولها أدلة عظيمة على صحة نسبتها إلى الأنبياء المنسوبة إليهم. وقد كانت الغاية من الوحي بها هي نشرها بينهم. والدليل على ذلك أن المؤرخ يوسيفوس قال إن موسى النبي أمر بتوزيع نسخة على كل سبط من أسباط بني إسرائيل. وانتشارها بين بني إسرائيل يثبت عدم تغييرها أو تبديلها، أو تحريف نسبتها إلى غير ما هي له، لأنه إذا تجرَّأ أحد أسباط بني إسرائيل على ذلك هاجمته بقية الأسباط. وهل يُعقل أن بني إسرائيل يغيّرون أو يحرّفون الكتب المقدسة التي تمنحهم امتيازات وبركات تسبّب تمتعهم بالنعيم الدائم؟
(3) ظهرت الكتب المقدسة بين بني إسرائيل مقترنة بأسماء الأنبياء الذين كتبوها. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يخل بنسبتها هو أن كاتبها يذكر حوادث لم تحدث. والكتب المقدسة منزهة عن ذلك، فموسى قال إنه غلب سحرة المصريين وشقَّ البحر الأحمر، وإن الله أنزل المنّ والسلوى.
(4) عدم اعتراض أحد من علماء الوثنيين على نسبة هذه الكتب إلى أصحابها يبرهن صحتها.
(5) مما يدل على صحة نسبتها: أسلوب كل نبي، فمثلاً أسلوب موسى غير أسلوب غيره من الأنبياء. وهكذا أسلوب معلقات العرب هو غير أسلوب قصائد الشعراء المخضرمين والمتأخرين، وكذلك طرق المراسلات. فاختلاف أساليب الأنبياء هو من الأدلة على صحة نسبتها إلى كل واحد.
قال المعترض: «ينقطع تواتر التوراة قبل زمان يوشيا بن آمون، والنسخة التي وُجدت بعد 18 سنة من توليه المُلك لا اعتماد عليها، بل ضاعت لما خرّب بختنصر الهيكل، ثم أن أنطيوخوس أبيفانيس دمَّر الكتاب المقدس لما خرَّب الهيكل».
وللرد نقول: (1) كانت التوراة منتشرة بين الأسباط، وأمر موسى اللاويين بوضع الكتاب في جانب التابوت شهادةً عليهم (تثنية 31: 25، 26). ولما أُعيد بناء هيكل سليمان وُضع الكتاب فيه مع جميع كتب الأنبياء. ولما أتى بختنصر وخرَّب الهيكل، لم يمس كهنتهم بشيء، لأنه لم يكن يطلب استئصال ديانتهم. نعم إنه أخذ ذخائر الهيكل والأواني المقدسة، وكان ذلك طمعاً في المال. أما الكتاب المقدس فلم يلتفت إليه (2ملوك 25 و2أخبار 36 وإرميا 52). ومع ذلك فلما سباهم إلى بابل أخذ بنو إسرائيل معهم نسخاً من الكتب المقدسة، كما يُستدل من استشهاد النبي دانيال بالشريعة (دانيال 9: 11، 14) وقد ذكر أيضاً نبوات إرميا (دانيال 9: 2)
(2) ورد في عزرا 6: 18 أنه لما تم بناء الهيكل في السنة السادسة من حكم داريوس أُعيدت عبادة بني إسرائيل حسب ما هو مكتوب في كتاب موسى، فلو لم تكن عندهم نسخ من كتب موسى لتعذَّر عليهم عبادة الله حسب ما هو مدون في الشريعة. ومما يدل على أنه كان عندهم نسخ من الكتاب المقدس بعد السبي إلى بابل، أن بني إسرائيل الذين كانوا في السبي طلبوا من عزرا أن يأتي بسفر شريعة موسى، فأتى بها وقرأ فيها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء (نحميا 8: 1-6). فلو لم تكن موجودة لما تيسّر أن يقرأ فيها من الصباح إلى الظهر. وفي عهد يهوشافاط ملك يهوذا (سنة 912 ق.م) أمر بالاهتمام الزائد بحفظ الفرائض المدوّنة في الشريعة.
(3) لما مات الملك سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين، استقلّت عشرة أسباط عن سبطي يهوذا وبنيامين، ومع ذلك فقد حافظت الأسباط العشرة على التوراة، وتُسمَّى نسختهم بالتوارة السامرية، وهي محفوظة إلى عصرنا هذا. وهناك نسخة أخرى من التوراة عند سبطي يهوذا وبنيامين. فلو ضاعت أو تغيَّرت (كما ادّعى المعترض) لوُجد فيها اختلاف. فعدم وجود اختلاف بينهما، رغم شدة العداوة بين الفريقين، هو من أعظم الأدلة على بقائها على أصلها.
(4) في سنة 286 ق.م أمر بطليموس ملك مصر بترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية، وكلَّف اثنين وسبعين من علماء بني إسرائيل فترجموها، لأن بني إسرائيل كانوا منتشرين في أنحاء الدنيا. وهذا يجعل تغييرها وتبديلها بعد انتشارها وترجمتها مستحيلاً.
(5) جمع عزرا النبي كل الأسفار المقدسة في مجلد واحد بمساعدة أعضاء مجلس بني إسرائيل، وكان من أعضائه الأنبياء حجي وزكريا وملاخي، فجمع هؤلاء الأنبياء الكرام الكتب المقدسة (ما عدا أسفار عزرا ونحميا وملاخي). وهذه الثلاثة ضمّها إلى الكتاب المقدس شمعون الورع الذي كان آخر أعضاء المجمع اليهودي.
وقد أجمع المحقِّقون على بطلان الادِّعاء أن أنطيوخوس أبيفانيس دمَّر الكتاب المقدس لما خرَّب الهيكل، ويقول المؤرخون إن يهوذا المكابي هزم جيوش أنطيوخوس وأعاد الديانة اليهودية إلى رونقها وبهائها، وبنى الهيكل، وأعاد التابوت ووضع الكتب المقدسة فيه.
هذا هو تاريخ الكتب المقدسة، من وقت الأنبياء إلى مجيء المسيح. أما تاريخها من عصر المسيح إلى عصر المدارس التلمودية فهو أن بني إسرائيل تشتتوا، وكانت اللغة المتداولة وقتئذ يونانية، فاستعملوا التوراة المترجمة إلى اليونانية، والمعروفة باسم «السبعينية». ولما أتى المسيح إلى عالمنا حثَّ الشعب على مطالعتها وتأمل معانيها. ومع أنه كان يوبخهم على غلاظة عقولهم، إلا أنه لم يتَّهمهم بتبديل كتبهم، بل كان يوبخهم على تمسكهم بالقشور، والاقتصار على مظاهر الدين الخارجية، وعدم المبالاة بالأمور الجوهرية، فقال لهم: «فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي» (يوحنا 5: 39). وقال أيضاً: «تضلون إذ لا تعرفون الكتب» (متى 22: 29). وكثيراً ما استشهد بالتوراة في أقواله: «لا يمكن أن يُنقَض المكتوب» (متى 26: 54). وقال الرسول بولس إن التوراة وحيٌ إلهي (2تيموثاوس 3: 16) وإنها أقوال الله (رومية 3: 2) وكلمة الله (رومية 9: 6). وكان بنو إسرائيل والمسيحيون يطالعونها بالتدقيق. فلو كانت مغيَّرة أو مبدَّلة أو محرَّفة لما كان المسيح له المجد يحثُّ على مطالعتها، ولما استشهد بها تلاميذه في عظاتهم وكتاباتهم.
تاريخ التوراة إلى الطبع
أما تاريخ التوراة من عصر المدارس التلمودية إلى عصر الطباعة، فهو أنه لما خرَّب الرومان أورشليم، وتبدد شمل بني إسرائيل، وجَّه بعض الذين تشتَّتوا في الشرق أنظارهم إلى دراسة الأدب، وفتحوا مدارس لمطالعة الكتب المقدسة، كانت من أفضلها مدرسة طبرية في فلسطين، (وقال إيرونيموس إنها كانت موجودة في القرن الخامس) فتفرّغوا للتمكن من الكتب المقدسة، وبالغوا في التحقيق والتدقيق والحفظ حتى توصّلوا إلى معرفة عدد حروفها. فقالوا ورد حرف الألف في التوراة العبرية نحو 42377، والبت (وهي الباء) نحو 38218، والجمل (وهي الجيم) 29537، والدالث 32530، واليود 66420، والكاف 48253، واللامد 41517 الخ. وهذا ليس بغريب على هذه الأمة التي تتعبد بتلاوة التوراة.
السند المتَّصل للعهد الجديد
جُمعت أسفار العهد الجديد قبل موت الرسول يوحنا، فاطّلع عليها وصدّقها، لأن الله أطال حياته ليقوم بهذه المهمة. وقد حافظ أئمة المسيحيين على هذه الأسفار من جيل إلى آخر بغاية الاهتمام، كما فعل أفراد سبط لاوي الذي أفرزه الله ليحافظ على الشريعة ويقيم شعائرها، فكان أئمة الدين المسيحي منقطعين لتفسيرها وشرحها والوعظ منها، وكانوا شديدي الحرص عليها لأنها تعلن طريق الخلاص والأمجاد السماوية. وترجموها وتناقلوها بالسند القوي المتَّصل من جيل إلى آخر، فانتشرت بين أمم شتى في أنحاء الدنيا، مترجمةً بلغاتهم، فكانت تُتلى عليهم في كنائسهم، وانتشرت انتشاراً عظيماً بحيث أصبح يستحيل إدخال شيء فيها من التغيير أو التبديل.. فكيف يتَّفق أصحاب العقائد العديدة المنتشرة في أنحاء الدنيا على تغيير كتابهم الذي يحضّهم على الأمانة والصدق والحق؟ وقد ورد فيه صريحاً أن «من يزيد على هذا الكتاب يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوَّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة» (رؤيا 22: 18، 19). فمن يقبل على نفسه الضربات واللعنات؟
ولم يكن ممكناً أن يحرِّف المسيحيون كتابهم، لأن اليهود الذين اشتهروا بعداوتهم لهم كانوا واقفين لهم بالمرصاد.. ثم كيف كان المسيحيون يقبلون كتاباً محرَّفاً؟.. وكيف كانوا يقبلون الاضطهاد والموت في سبيل كتاب محرَّف؟
ولنذكر أسماء بعض الذين ظهروا في القرن الأول إلى الرابع الميلادي واستشهدوا بالكتب المقدسة وتكلموا عنها، مما يدل على متانة السند المتصل لكتب العهد الجديد
استشهاد الرسل بكلام بعضهم:
استشهد الرسل بكتب بعضهم بعضاً، معترفين بأنها وحي إلهي. فقال بولس الرسول في 1تيموثاوس 5: 18 «الفاعل مستحق أجرته» وهي العبارة الواردة في لوقا 10: 7 مما يدل على أن إنجيل لوقا كان منتشراً وقت كتابة الرسول بولس لتيموثاوس. وقال الرسول يعقوب: «فإن كنتم تكمّلون الناموس الملوكي حسب الكتاب: تحب قريبك كنفسك، فحسناً تفعلون» (2: 8). وهو اقتباس من متى 22: 39. وقال بطرس الرسول: «كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلها أيضاً، متكلّماً فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم» (2بطرس 3: 15، 16). وبما أن الله خصَّ الرسل بقوّة المعجزات، فقد ميَّزوا بين الكتب الموحى بها من غيرها، وكانوا يستشهدون بكتب بعضهم كاستشهادهم بكتب أنبياء العهد القديم. أما الذين كانوا معاصرين لهم، فنذكر منهم:
من رجال القرن الأول:
(1) برنابا: عمل مع الرسول بولس (أعمال 13: 2، 3، 46، 47 و1كورنثوس 9: 6)، ويُسمّى رسولاً أيضاً (أعمال 14:14) وألّف رسالة كانت لها منزلة كبرى عند القدماء ولا تزال موجودة، استشهد فيها بإنجيل متى ونقل عنه بقوله «مكتوب». وكان اليهود يستعملون هذه الكلمة عند الاستشهاد بالكتب المقدسة. واستشهد بكثير من أقوال العهد الجديد، وذكر عجائب المسيح، واختياره 12 تلميذاً، وجَلْده ولطمه والاستهزاء به والاقتراع على لباسه، وقيامته في أول الأسبوع، وصعوده إلى السماء، وغير ذلك.
(2) أكليمندس: أسقف روما وعمل مع الرسول بولس (فيلبي 4: 3) وكتب رسالة إلى كنيسة كورنثوس استشهد فيها بكثير من أقوال المسيح الواردة في الإنجيل، ومن رسائل الرسل. ويُظن أنه عُيِّن أسقفاً على روما سنة 91م وتوفي سنة 100م في السنة الثالثة من حكم الإمبراطور تراجان.
(3) هرماس: كان معاصراً لبولس الرسول، وذكر اسمه في رومية 16: 4. كتب ثلاثة مجلدات في أواخر القرن الأول استشهد فيها بكثير من كتب العهد الجديد. وكانت له منزلة كبرى عند القدماء.
(4) أغناطيوس: كان أسقف أنطاكية في سنة 70م واستُشهد في سنة 107م، وكتب عدَّة رسائل لا تزال موجودة، استشهد فيها بالأناجيل ورسائل الرسل.
(5) بوليكاربوس: كان تلميذ الرسول يوحنا، رسمه أسقفاً على إزمير، واجتمع بكثير من الذين رأوا المسيح، ومات شهيداً في سنة 166م وبقيت من مؤلفاته رسالة استشهد فيها بنحو أربعين آية من العهد الجديد، ذكر فيها اتِّضاع المسيح وتعليمه وآلامه وموته على الصليب، وقيامته وصعوده. وأشار فيها إلى ما كابده بولس وغيره من الرسل من الأتعاب في الكرازة والتبشير، وتكلم عن تعاليم المسيح، ونقل عن الرسول يوحنا وغيره.
ومن رجال القرن الثاني:
(1) بابياس: أسقف هيرابوليس في آسيا، نبغ بين سنة 110 و116م، واجتمع ببوليكاربوس، وربما اجتمع بيوحنا الرسول. واستشهد في مؤلفاته بالأناجيل الأربعة وبرسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنا الأولى وأعمال الرسل والرؤيا.
(2) جستن الشهيد: وُلد في إحدى مدن السامرة في فلسطين سنة 89م وآمن بالمسيحية سنة 133م واشتهر في سنة 140م إلى أن استُشهد سنة 168. وكتب عدَّة كتب دفاعاً عن المسيحية، منها رسالة للإمبراطور تيطس أنطونيوس بيوس، ورسالة للإمبراطور ماركوس أنطونيوس ولأعضاء مجلس الشيوخ في روما ولسكانها. وله محاورة مع تريفو اليهودي باقية إلى الآن تُظهر تبحّره في فلسفة فيثوغورس وأفلاطون، وأنه رأى أن الأسلم التمسّك بالمسيحية. وتكلم عن الأناجيل الأربعة، وقال إن المسيحيين كانوا يتعبدون بتلاوتها في معابدهم، وتكلم عن رسائل بولس وبطرس ويوحنا وسفر الرؤيا. ولشهادته منزلة رفيعة لأنها شهادة فيلسوف علاّمة.
(3) المسيحيون في فرنسا: في سنة 170 في عهد ماركوس أنطونيوس قاسى المسيحيون في فرنسا اضطهادات أليمة، ولا سيما في ليون وويانة، فأرسلوا إلى إخوانهم في آسيا رسائل تشرح ما يقاسونه، أشاروا فيها إلى إنجيلي لوقا ويوحنا وأعمال الرسل ورسائل بولس إلى رومية وأفسس وفيلبي وتيموثاوس الأولى وبطرس الأولى ويوحنا والرؤيا. وحافظ أوسابيوس على معظمها.
(4) مليتو، أسقف ساردس: الذي ألَّف 13 كتاباً وصلنا بعضها، ومن مؤلفاته تفسير الرؤيا.
(5) إيريناوس: أسقف ليون سنة 170م، وشهادته جليلة لأنه كان تلميذ الرسول يوحنا، واجتمع بكثير ممن رأوا الرسل. ومؤلفاته كثيرة بقي منها خمسة كتب، دحض فيها ضلالات المضلّين، وهي تدل على سعة اطّلاعه على كتب الوثنيين، وتمكُّنه من معرفة كتب العهدين القديم والجديد. واستشهد بجميع كتب العهد الجديد، ماعدا رسالة فليمون ورسالة يوحنا الثالثة ورسالة يهوذا.
(6) أثيناغوروس: نبغ في سنة 180م وكان من فلاسفة أثينا، وهو من مشاهير الكتَّاب. وألَّف رسالة دفاعاً عن المسيحيين قدَّمها للإمبراطور ماركوس أنطونيوس، ورسالة أخرى عن قيامة الموتى استشهد فيها بالكتب المقدسة.
(7) ثاوفيلس: أسقف أنطاكية (181م) الذي ألَّف ثلاثة كتب اقتبس فيها من العهدين القديم والجديد.
ومن رجال القرن الثالث:
ظهر كثيرون من العلماء في القرن الثالث، منهم أوريجانوس الذي وُلد في مصر سنة 184م، وتوفي سنة 253، واشتهر بالتقوى والفضيلة، حتى كان فلاسفة الوثنيين يعرضون مؤلّفاتهم عليه لتنقيحها وتهذيبها. وفسر الكتب المقدسة، وله مواعظ. وقِسْ على ذلك ديونيسيوس أسقف نيو قيصرية وغيرهم.
ومن رجال القرن الرابع: أوسابيوس المؤرخ أسقف قيصرية، الذي مات سنة 340 ، وهيلاريوس سنة 366، وغيرهما.
وقد وصلنا من مؤلفات أولئك الأئمة الأفاضل نحو خمسين مؤلَّفاً من مؤلَّفاتهم التي تبلغ نحو مائة، منها تفاسير على الكتب المقدسة، ومنها في مواضيع شتى مؤيدة بآيات كثيرة من معظم الكتب المقدسة. وكان أولئك الشهود في أزمنة متنوعة وفي ممالك شتى، فنبغ أكليمندس في روما، وأغناطيوس في أنطاكية، وبوليكاربوس في سميرنا (إزمير)، وجستن الشهيد في سوريا، وإيريناوس في فرنسا، وأثيناغورس في أثينا، وثيوفيلوس في أنطاكية، وأكليمندس وأوريجانوس في الإسكندرية، وترتليان في قرطاجنة، وأغسطينوس في هبّو (وكلاهما في شمال أفريقيا) وأوسابيوس في قيصرية. وهذا يدل على انتشار المسيحية وكتبها المقدسة. ولا يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً قد تواطأوا على تحريف كتبهم، ولكنهم شهدوا للحق.
وقد قارن علماء المسيحيين نحو 686 نسخة من كتب العهد الجديد خلاف التراجم والاقتباسات والاستشهادات، فوُجدت متوافقة. وهذا يدل على تنزّه الكتب المقدسة عن التحريف والتبديل، وسلامتها من شائبة الزيادة والنقصان. وأجمع الجميع أن كتب العهد الجديد كانت متواترة بينهم.
قال المعترض: «اختلف العلماء في زمن كتابة الأناجيل، لأن القدماء الأوَّلين صدَّقوا الكتابات الواهية ودوّنوها، فاقتفى أثرهم الذين أتوا بعدهم».
وللرد نقول: عدم تحديد زمن كتابة كل إنجيل بالتدقيق لا يعني أن ما جاء بها واهٍ، فالمعوّل عليه هو ما جاء في نصوص الإنجيل