--------------------------------------------------------------------------------
العذراء مريم ام البشرية
مريم هي أم البشرية، وهذه الأمومة الإلهية تزعج الكثيرين، وأمومتها البشرية أيضاً تزعج الكثيرين، لقد جاء في إنجيل القديس يوحنا ما يلي: "يسوع لما رأى الأم وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال للأم: يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هذه أمك، ومنذ تلك الساعة أخذها التلميذ إليه".(26:19-28).
لا نقللَّنَّ من قيمة نص قد منحه الكاتب الملهم ذلك المكان وتلك الأهمية، إن الكثيرين لا يرون فيه حتى اليوم إلا بادرة خاصة تتعلق بالواجب البنوي، من اجل حل الوضع الاقتصادي والاجتماعي لتلك الأم الأرملة التي سوف تفقد ابنها الوحيد، فيما أن النص هو ابعد من ذلك بكثير، لوصية المسيح قيمة كبرى، هذا ما يؤكده:
1-اللتسميتان "الأم" و "التلميذ" وليس "أمه" وليس "تلميذه".
إن ضمير الامتلاك في الآية (25) "أمه" والعبارة الوصفية في الآية (26) التلميذ الذي كان يحبه، يختفيان في ما بعد لتحل محلهما عبارتا "الأم" و "التلميذ"، وذلك مرتين آية (26 و 27)... ذلك يعني أن دعوة مريم لم تعد في كونها "أم يسوع" قط بل هي "الأم"، أم البشر اجمع، أم الكنيسة، أيقونة الكنيسة الأم..، ولم يعد يوحنا "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" بل "التلميذ"، المؤمن في الكنيسة، أيقونة المؤمن الذي يرافق المسيح حتى الجلجلة.. فكأن الإنجيلي لم يعد مهتماً لتاريخ مريم ويوحنا الفردي بل لدعوتهما الشخصية، لوضعهما اللاهوتي في الإنجيل، لدورهما حيال الكنيسة، لعلاقتهما الصوفية مع المسيح وعمله.
2-المنادى "يا امرأة":
هذه التسمية تُحيل إلى ما سُمي "الإنجيل الأول" في سفر التكوين 3/11 "وأجعل عداوة بينك وبين المرأة"، كما وإلى حادثة قانا الجليل "يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد".. فلو كان الموضوع لا يتعدى الواجب البنوي لكان المسيح قد اكتفى بأن يناديها: "أمي"، الأمر الذي يتوافق مع المعنى الأدبي المزعوم للنص، ومع العادات اليهودية.. فلما ناداها كما قيل عنها في سفر التكوين، وكما قال لها في قانا الجليل بكلمة "امرأة"، دل على نيته باعتبار تلك المرأة الفريدة ليس كأمه البشرية، بل كتلك التي لها دور في سحق رأس الحية الجهنمية.
3-سياق الكلام:
سياق الكلام في مشهد الجلجلة، سياق كتابي، أي إن الإنجيلي يدعم المشاهد المحيطة بوصية المسيح، بتحقيق ما جاء في الكتاب المقدس، من اقتسام للثياب، واقتراع على القميص (مزمور 22/19)، وعطش المصلوب (مزمور 69/22 ، 22/16)، وطعنه بالحربة (مزمور 34/21، خروج 12/46، زكريا 12/10)، الأمر الذي يدل على أن يوحنا من خلال هذا الإطار الكتابي "يرى هنا عملاً يتجاوز مجرد الواجب البنوي ليتناول إعلان أمومة مريم الروحية".
فإن كان سياق الكلام كله قد اختير بالنظر إلى إتمام نبوءة، يسعنا القول إن وصية يسوع ليست أمراً ثانوياً يتعلق بمسألة عائلية، بل هي أمر يتعلق مثل غيره من أمور الصلب برسالة المسيح، ويستند إلى ما جاء في الكتاب المقدس، وإن كان ضمناً.
والى ذلك فإن الكلمات كلها التي نطق بها يسوع على الصليب، تتعلق برسالته الإلهية، ألا يكون مدهشاً أن يُستثنى كلامه لأمه ولتلميذه، فيصبح وكأنه كلام بشري محض لا داعي له أبداً في تلك الساعة كما سنرى بعد قليل؟..
وسياق الكلام في مشهد الجلجلة سياق عقائدي، وضع اللوحة المكتوب عليها "يسوع الناصري ملك اليهود"، واقتسام الثياب، والاقتراع على القميص، والطعن بالحربة، كلها أمور تتسم بطابع لاهوتي عميق، إنها توحي بمَلَكية المسيح، وكهنوته، وكونه الحمل الفصحي عند المسحيين، فهل يُعقل أن لا يكون لوصية المسيح النازلة في هذا السياق الكلامي إلا البعد البشري العائلي، ولا تكون مرتبطة بالعمل الفدائي الذي يتم على الصليب؟.. لا يُعقل، لاسيما أن الإنجيلي يتابع حالاً ويقول: "وبعد ذلك (بعد الوصية)، إذ رأى أن كل شيء قد تم (بها) قال، ليتم الكتاب: لقد تم"، أليس في ذلك إشارة إلى أن وصية المسيح مندرجة في "إتمام" التدبير الخلاصي؟..
وصيته هذه هي آخر ما قام به المسيح، قبل أن يلفظ الروح، ساعة كان يقوم برسالته الأساسية فـ "يُتِمَّ" ما كان الآب قد أرسله لأجله، فلا يُعقل بالتالي أن يكون قد اختار مثل هذه الساعة المهيبة، ساعة إتمام الفداء، لترتيب أمور أمه الاجتماعية، هذا ولا يُعقل في المجتمع الشرقي أن يسلِّم أمور أمه الاجتماعية إلى يوحنا، في حين أن نسيبة أمه زوجة كلاوبا كانت هناك، ولا أن يُسلم أمور تلميذه يوحنا إلى مريم أمه وكأن يوحنا كان يتيماً أو طفلاً يحتاج لرعاية، في حين أن سالومي أمه كانت هناك حية ترزق، كما وانه لا يُعقل – في حال أن وصية يسوع هي فرضاً عمل بنوي إنساني لا غير – أن يسلم يوحنا لرعاية مريم، بل يسلم مريم لرعاية يوحنا، ويكتفي بالقول:"يوحنا!.. أمي هذه، يجب أن تتكفل بها وتحميها".
فلما وجه كلامه خلافاً لما كان متوقع، أولاً إلى أمه وقال مشيراً إلى يوحنا: "هوذا ابنك"، كان ذلك منه تكريساً لها في رسالة مرتبطة بالعمل الفدائي الذي هو مخلص العالم، منصرف إلى إتمامه.
إن صح القول إن أول عمل مسيحاني قام به الكلمة المتجسد، يوم البشارة هو أن يقيم مريم أماً له جسدية، صح القول أيضاً إن آخر أعماله المسيحانية على الصليب كان أن يكرس أمه أماً روحية لجميع البشر، ويُقيمنا نحن في البنوة المريمية.
أمومة مريم العذراء للبشر هي:
1-أمومة روحية:
رسالة مريم الأمومية تجاه التلاميذ، هي رسالة روحية تندرج في الخلاص الممنوح للبشر، فدورها أن تساعد نمو الحياة الروحية، أي النشر في النفوس لنعمة المصالحة التي استحقها المسيح لما قدَّم ذاته على الصليب تضحية اتحدت بها مريم واشتركت فيها بتألمها.
فوجود أم في حياة النعمة هو مصدر انتعاش وفرح، فإن المسيحيين يرون في وجه مريم الأم تعبيراً خاصاً عن محبة ذلك الإله الرحوم، الذي جعل الحضور الأمومي طريقة فضلى لإدراك عطف الآب وجوده، وإذا بمريم هي التي تجذب الخطأة وتكشف لهم عن مشروع المصالحة بتعاطفها ورأفتها، هذا وإن المسيح قد أشار قبل القبض عليه بساعات إلى ثمرة ذبيحته، لما قال: "أيها الآب.. إن الذين أعطيتني أريد أن يكونوا هم أيضاً حيث أكون أنا، لكي يشاهدوا المجد الذي أعطيتني" (يوحنا 34:17)، إن كانت مريم أماً لجميع الذين يحبون المسيح وهم له، فإن رغبتها الوحيدة أن لا ينفصل أبداً أبناؤها لا عن المسيح ولا عنها، ولا بعضهم عن بعض، أما رغبة يسوع بل إرادته الواضحة فهي أن يعتبر تلاميذه تلك المرأة الواقفة عند الصليب أماً لهم، إن هم أرادوا حقاً أن "يكون فيهم.. لكي يكونوا مكملين في الوحدة" (يوحنا 23:17)، ذلك أنه كما أن وحدة أعضاء جسده الطبيعي تمت في مريم أمه، كذلك أيضاً تتم وحدة أعضاء جسده السري في مريم نفسها، فيا له من بعد مسكوني موقف المسيحيين من العذراء مريم!..
في وصية المسيح على الصليب لاهوت حقيقي لأمومة مريم الروحية، فاللاهوت هو جوهرياً، البَسْطُ المنسجم لعمل تأسيسي قد عاشه المسيح، كما أن صلبه الطوعي افتداءً للبشر، وعليه فإن وصيته هذه تُظهر بقوة دور مريم الخلاصي بصفتها أماً للبشر، وتقيمها في علاقة مع المؤمنين تجعلها قريبة منهم، بقدر ما هي متحدة بمصير ابنها.
إن كان يسوع في عمله الفدائي الأسمى قد كرَّس أمومة أمه الروحية، أفلا يكون تجاهل الأمر أو سوء تقديره عملاً أخرق ومهيناً له؟.. "هذه أمك" هذا القول لا يعني أنها لك مثال فالأم قبل أن تكون مثالاً هي التي تلد الحياة، "هذه أمك" تعني أن هذه الأم التي تلدك لحياة العهد معي.
يتوسع الأسقف الشرقي جيورجيوس النيكوميدي (القرن التاسع) في كلام يسوع لأمه فيقول:
"ها هو قريب منكِ التلميذ الذي استند إلى صدري.. خذي مكاني وابقي معه ومع مَنْ حوله، أسلمكِ أيضاً من خلاله سائر التلاميذ.. كوني لهم ما هي كل أم لأبنائها، أو بالأحرى ما أنا هو بحضوري، وهم فليكونوا لكِ ما هم الأبناء والرعية، وليكرموكِ كما يليق بأم ربتهم، وكما أن حضوري بينهم كان بواسطتك، كذلك كوني لهم وساطة سهلة بيني وبينهم"،..
ثم يتوسع في كلام المسيح ليوحنا فيقول:
"إنها منذئذ مرشدة التلاميذ بصفتها أماً ليس فقط لكَ بل لجميع الآخرين، وإني أريد أن تُكرَّم حتماً وبملء الحق كما يليق بمقام الأم، لقد منعتكم من أن تدعوا أحداً على الأرض أباً (متى 9:23) غير أني أريد أن تدعوا هذه أماً، وأن تكريموها بهذه الصفة".
فولادة المؤمنين للخلاص بفضل اتحاد مريم بآلام المسيح: "لما كانت على الجلجلة قد تحمّلت حقاً عذاب الولادة في آلام ابنها الوحيد، فإن العذراء الطوباوية قد ولدت خلاصنا الشامل، ولذا فهي أمنا جميعاً".
إن كانت مريم أمنا فنحن إذاً إخوة يسوع وقد ولدنا وإياه من رحمها، لأن الإخوة يولدون من رحم واحدة، الفرق بيننا وبينه أنه هو وُلِد منها "جسديا"، أما نحن فولدنا منها "روحياً"، ولما كان أنه نصبح إخوة المسيح بالمعمودية، ألا نستطيع القول أن جرن المعمودية هو نوعاً ما رحم العذراء الروحية؟... إن قال أحد: "في كلامك هذا مغالاة"، ألا فليقل لي كيف إذاً نحن إخوة يسوع؟.. أيكون لأننا مثله أبناء الله الآب؟.. لكن الله الآب لا ابن له مولوداً منه إلا واحد أوحد هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، هذا الأقنوم الأزلي لم يولد من مريم، ونحن لسنا إخوته من هذا القبيل الذي ولد من مريم هو الأقنوم المتجسد يسوع المسيح الذي كرّس أمه أماً روحية لنا، ونحن إخوته من هذا القبيل، أيقال إن الأخوَّة القائمة بيننا وبين المسيح هي أخوَّة رمزية لأن أمومة مريم لما هي أمومة رمزية؟.. أبداً.
أمومة مريم لنا هي:
2-أمومة حقيقية وصيرورة جديدة:
"هوذا ابنكِ.." في هذا الإعلان أكثر من تكريس لمريم في أمومة روحية محض، هناك حال جديدة، وصفة ترتكز عليها أمومتها، فالمسيح لم يقل: "يا امرأة تصرفي مع يوحنا وكأنه ابنكِ"، لا.. ولم يقل ليوحنا:"تصرف مع مريم وكأنها أمك"، بل قال: "يا امرأة هوذا ابنكِ.. وأنت يا يوحنا هوذا أمك"، فالأمومة أمومة حقيقية، والبنوة بنوة حقيقية، هناك حال جديدة، وصيرورة جديدة.
قال أحدهم: "على الجلجلة طرأ على العلاقة بين الأم والابن تحول بادر إليه يسوع: أمومة من نوع آخر غير الجسدي، قد حلت محل أمومة مريم الجسدية، هي الأمومة بالنسبة إلى تلاميذ المسيح الممثلين في التلميذ الذي كان يحبه.. إنها بنت صهيون قد ولدت بالأوجاع وفي يوم واحد الشعب الجديد (أشعياء 7:66-8 ويوحنا 21:16)، إنها أورشليم أم أبناء الله المشتتين، قد عادوا وتجمعوا في هيكل أقنوم المسيح".
صاحب هذا القول يتكلم على التحول الحاصل في أمومة مريم، التي من جسدية صارت روحية، ولذا فلقد نعت أحدهم وصية المسيح بـ "العمل السري نوعاً ما"، وفي الحال إن الكلام في أسرار الكنيسة يفعل ما يعني، هكذا مثلاً في الافخارستيا، كلام التقديس يحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، هنا كلام المسيح يجعل حقاً وروحياً مريم أم يوحنا ويوحنا ابن مريم، هاتان الأمومة والبنوة لم تكونا قبل وصية المسيح، إلا مقدرتين في أمومة مريم بالنسبة إلى المخلص رأس الجسد السري، فكان لابد من عمل إلهي مباشر لكي ينتقل المقدر والمستتر إلى حيز الوجود، وتبلغ النضوج تلك البذرة الدفين، هذا ما حصل على الجلجلة، حيث القدرة الخلاقة والفادية أحدثت في مريم وفي يوحنا تحولاً أساسياً رافعة إياهما إلى أمومة جديدة وبنوة جديدة، أي أن صيرورة جديدة حيث في المسيح تحل روابط الإيمان محل روابط الدم "هذا هو جسدي"، فصار الخبز جسده، "هذه هي أمكم" فصارت مريم أمنا.
ساعة انكشف عمق أقنومية المسيح، انكشف أيضاً عمق أقنومية مريم، إنها قد وُجدت لتكون أماً، ليس إلا، هذا هو كيانها العميق أن تكون أماً ليسوع ولكل مَنْ فيه يعيش هو القائم من بين الأموات، لا.. ليست مريم عَرَضاً ولا هي أداة اختبرت بالصدفة، بل هي تلك التي ترتبط دعوتها بتاريخ ابنها، إنها الأم.
يلتقي في ذلك مع تعاليم الكنيسة عن مريم بعض البروتستانت، فيقول القس جان دي سوسور مخاطباً المسيح: "لما كان أني أموت معك على الصليب، فإن تلك الواقفة قربه هي أيضاً واقفة بالقرب مني ومن كل مَنْ يموت معك.. إنها تحتضن بحنانها نزاع المسيحيين، وهي بإرادتك أم لكل من تلاميذك الذين تحبهم، أيها الإله الذي صار إنساناً، لقد أحببت فيها كنيستك التي صارت امرأة، يا صورة الله غير المنظور، لقد سلمتنا فيها صورة الكنيسة غير المنظورة، "هذه أمك" شكراً لك يا رب، لمنحنا تلك الأم اللذيذة، على كل حال لما تفضلتَ برحمتك وجعلتنا إخوة لك، كيف لا تكون أمك أماً لنا، نحن أعضاء جسدك الذين يجمعنا بك روح واحد؟..".
وكان أوريجينوس قد قال في القرن الثالث: "إن لم يكن لمريم إلا ابن واحد هو يسوع، وإن كان يسوع قد قال لأمه: "هوذا ابنكِ"، لا: "هذا ابن آخر"، فكأننا به يقول: "هوذا يسوع الذي قد ولدتِ"، وفي الحال إن كل من اكتمل اتحاده بالمسيح لم يعد هو الذي يحيا، بل هو المسيح الذي يحيا فيه (غلاطية 20:2)، ولأن المسيح يحيا فيه فعنه يقول لأمه (وعنك أيها المستمع وعني): "هوذا ابنكِ المسيح".
مريم أم الكنيسة:
مريم هي أم الكنيسة، فهي تحتل في الكنيسة وبعد المسيح المقام الأسمى معاً والأقرب إلينا، وإننا لمجدها ولانتعاشنا نُعلن أن مريم الكلية القداسة هي أم الكنيسة جمعاء، أي أم شعب الله بأكله، المؤمنين منهم والرعاة، أولئك الذين يدعونها بالأم الودود، وإننا نريد أن يكرمها الشعب المسيحي ويبتهل إليها بهذا اللقب، فحضور مريم في التدبير الخلاصي هو أداة وقناة مميزتان لتجسد الكلمة وحلوله في ما بيننا.
مريم متحدة بالمسيح، مريم متحدة بالكنيسة.. إنها نموذج الكنيسة بسبب أمومتها الإلهية، وللكنيسة أن تكون مثل مريم أماً بتولاً، أماً، لأنها بالكرازة والعماد تلد إلى الحياة الجديدة غير الفانية أبناءً مولودين من الله بفعل الروح القدس.. وبتولاً، لأنها تحفظ إيمانها بعريسها غير منقوص ولا مشوب، فحياة الكنيسة في أن تحقق هذا "الوجه المريمي"، هذا "البعد المريمي".
هذا الوجه المريمي هو للكنيسة من حيث التأصل والميزة، ما هو لها – إن لم يكن أكثر – وجهها الرسولي والبطرسي، مع حفظ الارتباط بينهما..
من هذا القبيل، فإن البعد المريمي للكنيسة يسبق بعدها البطرسي، فالبريئة مريم تسبق الجمع حتى بطرس نفسه والرسل.. إذ إن مهمة هؤلاء ليست إلا أن يربوا الكنيسة في القداسة التي كُونت سابقاً في مريم ورُمز إليها بها، فمريم هي سلطانة الرسل ولو بدون سلطة رسولية، فهي شيء آخر وأكثر.. إن حضور مريم في العلية إلى جانب الرسل مصلية معهم ولهم بانتظار الروح القدس، هو من هذا القبيل بليغ جداً.. فليت التمسك بمريم وبمَثَلِها يمنحنا المزيد من الحب والحنان والانصياع لصوت الروح القدس، إذن لكان يغتني من الداخل تفاني كل منا في الخدمة الكنسية.
في أفسس سنة 431 اُعلنت مريم أماً لله كعقيدة مًلزمة، وفي روما سنة 1964 اُعلنت مريم أماً للكنيسة ولكن ليست كعقيدة ملزمة، فهل من علاقة بين هذين الاعلانين اللذين يفصل الواحد عن الآخر خمسة عشر قرناً ؟..
في أفسس، انتصب كيرلس الإسكندري في وجه نسطورس الرافض لمريم لقب "أم الله" أي (ثيوتوكوس) وغير المحتفظ لها إلا بلقب "أم المسيح" أي (خريستوتوكوس)، جعل الكنيسة كلها تدرك أن مَنْ يرفض لمريم لقب "أم الله" إنما يرفض وحدة الناسوت باللاهوت في أقنوم الكلمة الواحد، فيرفض بذات الفعل أن يكون ابنها يسوع إلهاً لأنها لم تعد إلا أم يسوع الإنسان، وليست أم يسوع الإله.. ولما أعلن مجمع أفسس أن مريم هي أم الله، أعلن الإيمان بالوحدة القائمة بين الإنسان والله في أقنوم المسيح الإلهي الواحد.
في روما، جعل بولس السادس الكنيسة تدرك أن مَنْ يرفض لمريم أم المسيح لقب "أم الكنيسة" إنما يفسخ الوحدة القائمة بين المسيح والكنيسة، بين الرأس والجسد، إذ إنه يجعل من جهة يسوع المسيح الرأس الذي أمه هي مريم، ومن جهة أخرى كنيسة المسيح الجسد الذي لا أم له، تماماً كما أنه في أفسس كان رفض أمومة مريم الإلهية يجعل المسيح الإنسان من جهة، والمسيح الإله من جهة أخرى.
وكما أن كيرلس الإسكندري في مجمع أفسس جعل الكنيسة تدرك أن لقب "أم الله" أمراً أساسياً للإيمان بوحدة المسيح الأقنومية من حيث اللاهوت والناسوت، كذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني جعل بولس السادس الكنيسة تدرك أن لقب "أم الكنيسة" أمراً أساسياً للإيمان المسيحي بوحدة المسيح والكنيسة، وحدة هي حجر الزاوية لفهم سر المسيح والكنيسة فهماً صحيحاً، فلما أعلن بولس السادس مريم "أم الكنيسة" ختم وحدة الكنيسة التي هي "المسيح المُفاض والمبلَّغ".
لا "أمَّة" كما في الترجمات المتداولة، بل "الأم" كما لو أن الإنجيلي أراد أن "يُلمِّح بذلك إلى أن مريم لم تعد أم يسوع فقط" بل "أم البشرية جمعاء"، واغلب الظن أنهم كانوا يسمونها هكذا في الجماعة المسحية الأولى، كما هي الحال في بعض البلاد الأوربية والأميركية الجنوبية منقول
[b]