لمن هذا الكرسي؟
أو
أمجاد تنتظرني!
أو
أمجاد تنتظرني!
في حجرة النوم
سمعت الفتاة الباب يقرع، وكم كان دهشتها إذ رأت على الباب راهبًا غريبًا. ارتبكت الفتاة، ولم تعرف ماذا تفعل. لكن الراهب أدرك ارتباكها فابتسم قليلاً، وهو يقول لها: "أتسمحين لي بالدخول؟"
أجابت الفتاة: "تفضل يا أبي".
دخل الراهب مع الفتاة حجرة الاستقبال، وساد الجو نوعًا من الهدوء، لكن فكر الفتاة بدأ يجول هنا وهناك:
"ترى ماذا يريد هذا الراهب مني؟ ألا يعلم إني أفتح بيتي للخطية؟
ألعل الشهوة قد ألهبته؟ أم جذبه جمالي؟ ألا يخاف من ألسنة الناس ونظراتهم؟
لكنني أرى ملامح العفة واضحة على محياه، فأنا أعرف الرجال تمامًا، ولن تخيب نظرتي فيهم.
ألعله جاء ليوبخني وينتهرني؟ وهل يتجاسر ويفعل هذا في بيتي؟
إني لن أسمح له؟ ليفعل ذلك في ديره أو كنيسته، لكنه لا يقتحم بيتي ليوبخني".
وبينما كانت الفتاة الجميلة تسترسل في أفكارها، قطع الراهب تفكيرها تمامًا، ففي رقة ولطف سألها عن حالها. أجابته: "بخير". وقبل أن تسأله عن اسمه وديره، وضع الراهب يده في جيبه ليقدم لها دينارًا.
بدأت الفتاة تدرك سرّ حضوره. أدركت أن جمالها يجتذب حتى أحد الرهبان. أمسكت الفتاة بيده، ودخلت به إلى حجرة نومها ، والرجل ينقاد إليها. وإذ جلسا سألها الراهب: "ألا توجد حجرة أخرى داخلية لا يرانا فيها أحد؟" وبالفعل دخلت معه حجرة داخلية. وللمرة الثانية سألها الراهب:
- ألا توجد حجرة داخلية أخرى حتى لا يرانا أحد؟
- لماذا يا راهب؟
- أريد ألا يرانا أحد.
- ليس أحد في الحجرة غيرنا، ولن يدخل إنسان علينا هنا.
- أريد حجرة أكثر أمانًا، لا أريد أن يرانا أحد.
- ماذا تقصد بقولك: لن يرانا أحد؟
- أريد حجرة لا يرانا فيها اللَّه.
- ماذا تقول يا أبي؟ لا يرانا اللَّه! كيف يكون ذلك؟ اللَّه يرانا أينما كنا.
عندئذ بدأت الدموع تنهمر من عينيْ الراهب، وهو يقول: "لا أستطيع يا ابنتي أن أرتكب هذا الفعل أمام عينيْ من أحبني، وأسلم ابنه الحبيب لخلاصي. لا أقدر أن أحزن قلبه. إني لا أخاف الناس. ليقولوا ما يريدون، لكنني أخاف اللَّه وحده الذي خلقني على صورته ومثاله، عندما سقطت لم يحتمل موتي وهلاكي، بل مات هو ليحييني".
استرسل الراهب في حديثه عن محبة اللَّه اللانهائية وعمله الخلاصي حتى بدأت الدموع تتساقط من عيني الفتاة.
فجأة قطعت الفتاة حديثه، إذ انهمرت عيناها بالدموع، قالت له:
- وما هو الحل يا أبي؟ هل يقبلني اللَّه؟
- نعم يا ابنتي، إنه يريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون.
- إني زانية يا أبي.
- الرب يقدس الخطاة.
- لقد أفسدتُ حياة الكثيرين، وحطمت بيوتًا.
- لا تخافي، فإن السماء كلها تفرح بتوبتك.
- لعلك لا تعرف يا أبي كم أنا شريرة؟ أنا لست إنسانة. أنا شيطان! لقد أمتزج دمي بالشهوة، وجسدي بالخطية. صرت مع الخطية شيئًا واحدًا. هل يحتمل اللَّه شيطانًا مثلي؟ لقد قاومت طريقه، وأفسدت خليقته.
انهارت الفتاة عند قدمي الأب، وإذ لم يحتمل الراهب دموعها بكي هو أيضًا، وأمسك بها ليرفعها، وهو يقول لها: "لا تخافي يا ابنتي... ترجي الرب. إنه يحبك! لقد أرسلني إليك لأجل خلاصك!"
تمالكت الفتاة نفسها قليلاً لتقول للأب الراهب:
"لا تتركنني يا أبي حتى تخرج بي من بهجة الخطية هذه. أخرج بي من هنا فإني لا أطيق الوضع".
أجابها الراهب: "لن أتركك يا ابنتي حتى تطمئن نفسي عليكِ".
سألته الفتاة: "هل يوجد مكان خارج هذه المدينة أكمل فيه بقية أيام غربتي في طريق التوبة؟"
أجابها الراهب: "سأعد لكِ مكانًا".
في وسط السوق
انتفضت الفتاة وقامت وهي تقول للأب الراهب: "احتمل يا أبي ضعفي واسمح أن تنتظر بضع ساعات، فإني أريد أن أتخلص من كل ما قد جمعته بواسطة النجاسة والخطية".
استأذن الراهب منها وخرج إلى الصالة وترك الفتاة تجمع كل ما لديها من ملابس وأدوات زينة ومقتنيات، وكانت تلقي بها في حقائبها. وبعد قرابة ساعة واحدة، استأجرت الفتاة بعض الحمّالين، وخرجت معهم، تاركة الأب الراهب في الصالة بمفرده.
سارت الفتاة نحو سوق المدينة ومعها الحمّالون، وكان أهل المدينة يتعجبون من تصرفاتها ويتهامسون فيما بينهم متسائلين:
"ما الذي حدث؟ إلى أين ترحل الجميلة تائيس؟
هل تترك الدعارة؟ ألعها وجدت مكانًا أكثر إغراءً؟
لكن لماذا خلعت عنها ثيابها الخليعة؟
لقد تغيرت حتى في حركات سيرها... إذ تسير في جدية لم نعهدها فيها من قبل.
العلها قدمت توبة؟ ولكن كيف تقدر أن تكف عن زناها التي عاشت فيه زمانًا هذا مقداره؟"
على أي الحالات، كان الكثير يرقبونها، بل وسار البعض من بعيد وراءها ليعرفوا أين تذهب. وإذ بلغت وسط المدينة جاءت إلى موضع مهمل وطلبت من الحمالين أن يلقوا حقائبها، ومع أنها دفعت لهم أجرتهم لكنهم وقفوا مندهشين، بل وتجمَّع معهم كثيرون دون أن يسأل أحد تائيس شيئًا.
تطلعت تائيس إلى الجمهور، وكادت تختنق من الدموع، لكنها تمالكت نفسها وهي تقول:
"هلموا جميعًا يا من تاجرتم معي، انظروا. هاأنذا أحرق أمام أعينكم كل كسب جمعته خلال الخطية".
ثم أشعلت تائيس النار في حقائبها قبل أن تسمع تعليقًا واحدًا من الواقفين حولها. ثم تركت النيران مشتعلة والجمع يتزايد، وتسللت إلى بيتها.
قرعت تائيس الباب، وفي هدوء فتحته لتجد الأب الراهب واقفًا نحو الشرق وقد بسط يديه يصلي، وقد ظهرت ملامح الفرح على وجهه. لم تنتظر تائيس الراهب ينهي صلاته بل ارتمت عند قدميه، وهي تقول: "ها أنا بين يديك يا أبي، لا تتركني حتى تعمل نعمة اللَّه فيّ، أفعل بي ما تشاء".
توقف الراهب عن صلاته، وحاول أن يقيم تائيس عن الأرض، لكنها أصرت ألا تجلس على كرسي.
سألها الراهب: ما هي خطتك يا ابنتي؟
- ليس لي خطة يا أبي. اللَّه الذي أرشدك إلىّ يتكلم على فمك، ويعمل بك حتى تطلقني من هذا الموضع.
- لا أعرف مكانًا غير أديرة العذارى.
- وهل يقبلونني يا أبي؟
- إن كان اللَّه يقبلك، فهل يرفضك أحد؟
- أنا إنسانة نجسة، كيف أعيش بين العذارى؟
- لا تخافي، فإن اللَّه هو مقدس الجميع.
- لعلك يا أبي لا تعرف نجاسات قلبي الداخلية.
- أنا أعلم أن اللَّه محب الخطاة الذي يخلصنا بدمه.
وبعد حديث ليس بكثير خرج الاثنان معًا، وكان أهل المدينة يتطلعون من بعيد وهم يتعجبون: من هو هذا الجبار الذي غيَّر حياة هذه الشريرة؟ أما هي فكانت تسير بهدوء، قلبها منكسر، ورأسها منحنية، والدموع تنهمر من عينها. كانت ترافق الأب الراهب لا تنظر يمينًا أو يسارًا، حتى وصل الاثنان إلى أحد أديرة العذراء.
سلم الراهب الفتاة تائيس لرئيسة الدير وأوصاها بها. أما تائيس فنظرت إلى الرئيسة، وهي تقول:
"لي طلب واحد يا أمي. إني نجسة القلب والفكر والجسد. أنا محتاجة أن أعيش في حجرة صغيرة بمفردي أبكي بقية أيام غربتي على ما اقترفته يداي".
حاولت الأم أن تربت على كتفي الفتاة وهي تقول: "أنت إبنتي وأختي الصغيرة. الرب غافر خطايانا جميعًا".
لكن تائيس قاطعتها لتقول لها:
"أرجوك لا تعامليني هكذا يا أمي.
لا تترفقي بي، ولا يحنو قلبكِ علي.
أنا محتاجة إلى تأديبات قاسية.
قلبي متعب، وأفكاري شريرة، وجسدي تربي في الخطية.
أنا لا أقدر أن أعيش بين القديسات.
اتركيني أعيش وحدي. أنا لست إنسانة".
أصرت تائيس على طلبها، ووافقها الأب الراهب، عندئذ قدمت الأم الرئيسة قلاية صغيرة لتائيس، بها نافذة ضيقة، من خلالها يقدم لها القليل من الخبز الجاف والماء.
وإذ أراد الأب الراهب أن يستأذن ليعود إلى ديره، سألته تائيس: لم تقل يا أبي كيف أصلي؟
صمت الأب طويلاً وهو يفكر، لكنه إذ أراد لها أن تعيش في مشاعر التوبة الصادقة، أجابها: "أنتِ لا تستحقين أن تصلي إلى اللَّه، ولا أن تذكري اسمه بشفتيكِ، ولا أن تبسطي يديكِ نحوه، لأن شفتيك نجستان، ويديك غير طاهرتين، إنما يجب عليكِ أن تجلسي وتثبتي نظرك نحو الشرق، وترددين: يا من خلقتني ارحمني".
فرحت تائيس بهذه الكلمات، وصارت تقَّبل يدَّي الراهب، وهي تقول:
"أنا أعلم إني خاطئة. صلِ يا أبي عني، لعل اللَّه يرحمني".
ثم ودّعها هي والأم الرئيسة وخرج.
لمن هذا الكرسي؟
عاد الراهب إلى قلايته وقد ملأ السلام قلبه. وكان يمجد اللَّه الذي يعطي توبة للخطاة.
ملك موضوع تائيس على فكر الراهب، وكان منظر دموعها لا يفارقه ، فكرّس صلاته كلها لأجلها نهارًا وليلاً. وكان يصرخ في داخله: "أريد أن أستريح يا رب من جهة أبنتك تائيس".
مرت أيام ليست بكثيرة وقصة تائيس لا تفارق ذهن الراهب، وإذ أراد أن يطمئن بالأكثر، ترك قلايته للمرة الثانية، لكنه لم يذهب هذه المرة إلى تائيس، بل انطلق إلى الصحراء الغربية ليلتقي بأب الرهبان الأنبا أنطونيوس.
بلغ الراهب مغارة القديس، وإذ فتح الأخير باب المغارة سجد كل منهما للآخر، وقبل بعضهما البعض.
- سلام يا أنبا صرابيون.
- سلام يا أبي أنطونيوس.
وإذ روى الراهب صرابيون قصة توبة تائيس، أخذ الأنبا أنطونيوس يشكر اللَّه.
بدأ الأنبا أنطونيوس يطمَّئن الأنبا صرابيون أن تائيس الآن في يد اللَّه محب البشر، الذي يشتهي خلاصنا، ويود ألا يذكر خطايانا ، ثم ختم القديس كلامه، قائلا:
"لكي تطمئن بالأكثر على هذه الابنة، نصلي نحن وبعض الآباء الرهبان حتى يكشف لنا ما آلت إليه هذه الابنة".
وبالفعل نادى الأنبا أنطونيوس بعضًا من أولاده الرهبان، وروى لهم عمل اللَّه مع تائيس، وطلب أن يصلي الكل من أجلها هذه الليلة حتى تستريح قلوبهم نحوها.
اللَّه مع تائيس، وطلب أن يصلي الكل من أجلها هذه الليلة حتى تستريح قلوبهم نحوها. في الليل صلى الرهبان من أجل هذا الأمر. ومع منتصف الليل رأى أحدهم كأن السموات قد انفتحت، وظهر كرسي عظيم غاية في الجمال، تحمله ثلاث ملائكة. تطلع الراهب إلى الكرسي، وكان يتأمله في دهشة.
سأل أحد الملائكة الراهب: "لماذا أنت مندهش؟ أتعرف لمن هذا الكرسي؟"
أجاب الراهب: إنه بلاشك لأبينا العظيم الأنبا أنطونيوس.
أما الملاك فقال: إنه كرسي تائيس!
ففرح الراهب بهذه الرؤيا، وفي الصباح روى ما قد رآه للأنبا أنطونيوس والأنبا صرابيون وأخوته الرهبان. فكانوا يمجدون اللَّه ويشكرونه. عندئذ أستأذن الأنبا صرابيون وترك الصحراء الشرقية متجهًا نحو دير العذارى ليطمِّئن الأم الرئيسة على تائيس.
ألتقي الأنبا صرابيون بالرئيسة التي أخبرته أن تايس قد انتقلت، فروى لها ما حدث، وكانا يمجدان اللَّه.
جمعت الرئيسة الراهبات وروى لهن الأنبا صرابيون قصة هذه القديسة التي كسبت بتوبتها الصادقة هذا الكرسي العظيم .
سمعت الفتاة الباب يقرع، وكم كان دهشتها إذ رأت على الباب راهبًا غريبًا. ارتبكت الفتاة، ولم تعرف ماذا تفعل. لكن الراهب أدرك ارتباكها فابتسم قليلاً، وهو يقول لها: "أتسمحين لي بالدخول؟"
أجابت الفتاة: "تفضل يا أبي".
دخل الراهب مع الفتاة حجرة الاستقبال، وساد الجو نوعًا من الهدوء، لكن فكر الفتاة بدأ يجول هنا وهناك:
"ترى ماذا يريد هذا الراهب مني؟ ألا يعلم إني أفتح بيتي للخطية؟
ألعل الشهوة قد ألهبته؟ أم جذبه جمالي؟ ألا يخاف من ألسنة الناس ونظراتهم؟
لكنني أرى ملامح العفة واضحة على محياه، فأنا أعرف الرجال تمامًا، ولن تخيب نظرتي فيهم.
ألعله جاء ليوبخني وينتهرني؟ وهل يتجاسر ويفعل هذا في بيتي؟
إني لن أسمح له؟ ليفعل ذلك في ديره أو كنيسته، لكنه لا يقتحم بيتي ليوبخني".
وبينما كانت الفتاة الجميلة تسترسل في أفكارها، قطع الراهب تفكيرها تمامًا، ففي رقة ولطف سألها عن حالها. أجابته: "بخير". وقبل أن تسأله عن اسمه وديره، وضع الراهب يده في جيبه ليقدم لها دينارًا.
بدأت الفتاة تدرك سرّ حضوره. أدركت أن جمالها يجتذب حتى أحد الرهبان. أمسكت الفتاة بيده، ودخلت به إلى حجرة نومها ، والرجل ينقاد إليها. وإذ جلسا سألها الراهب: "ألا توجد حجرة أخرى داخلية لا يرانا فيها أحد؟" وبالفعل دخلت معه حجرة داخلية. وللمرة الثانية سألها الراهب:
- ألا توجد حجرة داخلية أخرى حتى لا يرانا أحد؟
- لماذا يا راهب؟
- أريد ألا يرانا أحد.
- ليس أحد في الحجرة غيرنا، ولن يدخل إنسان علينا هنا.
- أريد حجرة أكثر أمانًا، لا أريد أن يرانا أحد.
- ماذا تقصد بقولك: لن يرانا أحد؟
- أريد حجرة لا يرانا فيها اللَّه.
- ماذا تقول يا أبي؟ لا يرانا اللَّه! كيف يكون ذلك؟ اللَّه يرانا أينما كنا.
عندئذ بدأت الدموع تنهمر من عينيْ الراهب، وهو يقول: "لا أستطيع يا ابنتي أن أرتكب هذا الفعل أمام عينيْ من أحبني، وأسلم ابنه الحبيب لخلاصي. لا أقدر أن أحزن قلبه. إني لا أخاف الناس. ليقولوا ما يريدون، لكنني أخاف اللَّه وحده الذي خلقني على صورته ومثاله، عندما سقطت لم يحتمل موتي وهلاكي، بل مات هو ليحييني".
استرسل الراهب في حديثه عن محبة اللَّه اللانهائية وعمله الخلاصي حتى بدأت الدموع تتساقط من عيني الفتاة.
فجأة قطعت الفتاة حديثه، إذ انهمرت عيناها بالدموع، قالت له:
- وما هو الحل يا أبي؟ هل يقبلني اللَّه؟
- نعم يا ابنتي، إنه يريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون.
- إني زانية يا أبي.
- الرب يقدس الخطاة.
- لقد أفسدتُ حياة الكثيرين، وحطمت بيوتًا.
- لا تخافي، فإن السماء كلها تفرح بتوبتك.
- لعلك لا تعرف يا أبي كم أنا شريرة؟ أنا لست إنسانة. أنا شيطان! لقد أمتزج دمي بالشهوة، وجسدي بالخطية. صرت مع الخطية شيئًا واحدًا. هل يحتمل اللَّه شيطانًا مثلي؟ لقد قاومت طريقه، وأفسدت خليقته.
انهارت الفتاة عند قدمي الأب، وإذ لم يحتمل الراهب دموعها بكي هو أيضًا، وأمسك بها ليرفعها، وهو يقول لها: "لا تخافي يا ابنتي... ترجي الرب. إنه يحبك! لقد أرسلني إليك لأجل خلاصك!"
تمالكت الفتاة نفسها قليلاً لتقول للأب الراهب:
"لا تتركنني يا أبي حتى تخرج بي من بهجة الخطية هذه. أخرج بي من هنا فإني لا أطيق الوضع".
أجابها الراهب: "لن أتركك يا ابنتي حتى تطمئن نفسي عليكِ".
سألته الفتاة: "هل يوجد مكان خارج هذه المدينة أكمل فيه بقية أيام غربتي في طريق التوبة؟"
أجابها الراهب: "سأعد لكِ مكانًا".
في وسط السوق
انتفضت الفتاة وقامت وهي تقول للأب الراهب: "احتمل يا أبي ضعفي واسمح أن تنتظر بضع ساعات، فإني أريد أن أتخلص من كل ما قد جمعته بواسطة النجاسة والخطية".
استأذن الراهب منها وخرج إلى الصالة وترك الفتاة تجمع كل ما لديها من ملابس وأدوات زينة ومقتنيات، وكانت تلقي بها في حقائبها. وبعد قرابة ساعة واحدة، استأجرت الفتاة بعض الحمّالين، وخرجت معهم، تاركة الأب الراهب في الصالة بمفرده.
سارت الفتاة نحو سوق المدينة ومعها الحمّالون، وكان أهل المدينة يتعجبون من تصرفاتها ويتهامسون فيما بينهم متسائلين:
"ما الذي حدث؟ إلى أين ترحل الجميلة تائيس؟
هل تترك الدعارة؟ ألعها وجدت مكانًا أكثر إغراءً؟
لكن لماذا خلعت عنها ثيابها الخليعة؟
لقد تغيرت حتى في حركات سيرها... إذ تسير في جدية لم نعهدها فيها من قبل.
العلها قدمت توبة؟ ولكن كيف تقدر أن تكف عن زناها التي عاشت فيه زمانًا هذا مقداره؟"
على أي الحالات، كان الكثير يرقبونها، بل وسار البعض من بعيد وراءها ليعرفوا أين تذهب. وإذ بلغت وسط المدينة جاءت إلى موضع مهمل وطلبت من الحمالين أن يلقوا حقائبها، ومع أنها دفعت لهم أجرتهم لكنهم وقفوا مندهشين، بل وتجمَّع معهم كثيرون دون أن يسأل أحد تائيس شيئًا.
تطلعت تائيس إلى الجمهور، وكادت تختنق من الدموع، لكنها تمالكت نفسها وهي تقول:
"هلموا جميعًا يا من تاجرتم معي، انظروا. هاأنذا أحرق أمام أعينكم كل كسب جمعته خلال الخطية".
ثم أشعلت تائيس النار في حقائبها قبل أن تسمع تعليقًا واحدًا من الواقفين حولها. ثم تركت النيران مشتعلة والجمع يتزايد، وتسللت إلى بيتها.
قرعت تائيس الباب، وفي هدوء فتحته لتجد الأب الراهب واقفًا نحو الشرق وقد بسط يديه يصلي، وقد ظهرت ملامح الفرح على وجهه. لم تنتظر تائيس الراهب ينهي صلاته بل ارتمت عند قدميه، وهي تقول: "ها أنا بين يديك يا أبي، لا تتركني حتى تعمل نعمة اللَّه فيّ، أفعل بي ما تشاء".
توقف الراهب عن صلاته، وحاول أن يقيم تائيس عن الأرض، لكنها أصرت ألا تجلس على كرسي.
سألها الراهب: ما هي خطتك يا ابنتي؟
- ليس لي خطة يا أبي. اللَّه الذي أرشدك إلىّ يتكلم على فمك، ويعمل بك حتى تطلقني من هذا الموضع.
- لا أعرف مكانًا غير أديرة العذارى.
- وهل يقبلونني يا أبي؟
- إن كان اللَّه يقبلك، فهل يرفضك أحد؟
- أنا إنسانة نجسة، كيف أعيش بين العذارى؟
- لا تخافي، فإن اللَّه هو مقدس الجميع.
- لعلك يا أبي لا تعرف نجاسات قلبي الداخلية.
- أنا أعلم أن اللَّه محب الخطاة الذي يخلصنا بدمه.
وبعد حديث ليس بكثير خرج الاثنان معًا، وكان أهل المدينة يتطلعون من بعيد وهم يتعجبون: من هو هذا الجبار الذي غيَّر حياة هذه الشريرة؟ أما هي فكانت تسير بهدوء، قلبها منكسر، ورأسها منحنية، والدموع تنهمر من عينها. كانت ترافق الأب الراهب لا تنظر يمينًا أو يسارًا، حتى وصل الاثنان إلى أحد أديرة العذراء.
سلم الراهب الفتاة تائيس لرئيسة الدير وأوصاها بها. أما تائيس فنظرت إلى الرئيسة، وهي تقول:
"لي طلب واحد يا أمي. إني نجسة القلب والفكر والجسد. أنا محتاجة أن أعيش في حجرة صغيرة بمفردي أبكي بقية أيام غربتي على ما اقترفته يداي".
حاولت الأم أن تربت على كتفي الفتاة وهي تقول: "أنت إبنتي وأختي الصغيرة. الرب غافر خطايانا جميعًا".
لكن تائيس قاطعتها لتقول لها:
"أرجوك لا تعامليني هكذا يا أمي.
لا تترفقي بي، ولا يحنو قلبكِ علي.
أنا محتاجة إلى تأديبات قاسية.
قلبي متعب، وأفكاري شريرة، وجسدي تربي في الخطية.
أنا لا أقدر أن أعيش بين القديسات.
اتركيني أعيش وحدي. أنا لست إنسانة".
أصرت تائيس على طلبها، ووافقها الأب الراهب، عندئذ قدمت الأم الرئيسة قلاية صغيرة لتائيس، بها نافذة ضيقة، من خلالها يقدم لها القليل من الخبز الجاف والماء.
وإذ أراد الأب الراهب أن يستأذن ليعود إلى ديره، سألته تائيس: لم تقل يا أبي كيف أصلي؟
صمت الأب طويلاً وهو يفكر، لكنه إذ أراد لها أن تعيش في مشاعر التوبة الصادقة، أجابها: "أنتِ لا تستحقين أن تصلي إلى اللَّه، ولا أن تذكري اسمه بشفتيكِ، ولا أن تبسطي يديكِ نحوه، لأن شفتيك نجستان، ويديك غير طاهرتين، إنما يجب عليكِ أن تجلسي وتثبتي نظرك نحو الشرق، وترددين: يا من خلقتني ارحمني".
فرحت تائيس بهذه الكلمات، وصارت تقَّبل يدَّي الراهب، وهي تقول:
"أنا أعلم إني خاطئة. صلِ يا أبي عني، لعل اللَّه يرحمني".
ثم ودّعها هي والأم الرئيسة وخرج.
لمن هذا الكرسي؟
عاد الراهب إلى قلايته وقد ملأ السلام قلبه. وكان يمجد اللَّه الذي يعطي توبة للخطاة.
ملك موضوع تائيس على فكر الراهب، وكان منظر دموعها لا يفارقه ، فكرّس صلاته كلها لأجلها نهارًا وليلاً. وكان يصرخ في داخله: "أريد أن أستريح يا رب من جهة أبنتك تائيس".
مرت أيام ليست بكثيرة وقصة تائيس لا تفارق ذهن الراهب، وإذ أراد أن يطمئن بالأكثر، ترك قلايته للمرة الثانية، لكنه لم يذهب هذه المرة إلى تائيس، بل انطلق إلى الصحراء الغربية ليلتقي بأب الرهبان الأنبا أنطونيوس.
بلغ الراهب مغارة القديس، وإذ فتح الأخير باب المغارة سجد كل منهما للآخر، وقبل بعضهما البعض.
- سلام يا أنبا صرابيون.
- سلام يا أبي أنطونيوس.
وإذ روى الراهب صرابيون قصة توبة تائيس، أخذ الأنبا أنطونيوس يشكر اللَّه.
بدأ الأنبا أنطونيوس يطمَّئن الأنبا صرابيون أن تائيس الآن في يد اللَّه محب البشر، الذي يشتهي خلاصنا، ويود ألا يذكر خطايانا ، ثم ختم القديس كلامه، قائلا:
"لكي تطمئن بالأكثر على هذه الابنة، نصلي نحن وبعض الآباء الرهبان حتى يكشف لنا ما آلت إليه هذه الابنة".
وبالفعل نادى الأنبا أنطونيوس بعضًا من أولاده الرهبان، وروى لهم عمل اللَّه مع تائيس، وطلب أن يصلي الكل من أجلها هذه الليلة حتى تستريح قلوبهم نحوها.
اللَّه مع تائيس، وطلب أن يصلي الكل من أجلها هذه الليلة حتى تستريح قلوبهم نحوها. في الليل صلى الرهبان من أجل هذا الأمر. ومع منتصف الليل رأى أحدهم كأن السموات قد انفتحت، وظهر كرسي عظيم غاية في الجمال، تحمله ثلاث ملائكة. تطلع الراهب إلى الكرسي، وكان يتأمله في دهشة.
سأل أحد الملائكة الراهب: "لماذا أنت مندهش؟ أتعرف لمن هذا الكرسي؟"
أجاب الراهب: إنه بلاشك لأبينا العظيم الأنبا أنطونيوس.
أما الملاك فقال: إنه كرسي تائيس!
ففرح الراهب بهذه الرؤيا، وفي الصباح روى ما قد رآه للأنبا أنطونيوس والأنبا صرابيون وأخوته الرهبان. فكانوا يمجدون اللَّه ويشكرونه. عندئذ أستأذن الأنبا صرابيون وترك الصحراء الشرقية متجهًا نحو دير العذارى ليطمِّئن الأم الرئيسة على تائيس.
ألتقي الأنبا صرابيون بالرئيسة التي أخبرته أن تايس قد انتقلت، فروى لها ما حدث، وكانا يمجدان اللَّه.
جمعت الرئيسة الراهبات وروى لهن الأنبا صرابيون قصة هذه القديسة التي كسبت بتوبتها الصادقة هذا الكرسي العظيم .
tweetmeme_url = 'http://heavencom.com/vb/'; tweetmeme_source = 'http://www.twitter.com/smoraaaaa' target="popup window"; |