مـنـتـديـات الـمـحـبـه الـمـقـدسـه

كيف عرفت المسيح Wellcome
عزيزى الزائر / عزيزتى الزائرة :- يرجى التكرم بتسجيل الدخول اذا كنت عضو معنا او التسجيل ان لم تكن عضو
وترغب فى الانضمام الى أسرة المنتدى
ونتشرف بتسجيلك معنا

مع تحيات ادارة منتديات المحبه المقدسه




انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مـنـتـديـات الـمـحـبـه الـمـقـدسـه

كيف عرفت المسيح Wellcome
عزيزى الزائر / عزيزتى الزائرة :- يرجى التكرم بتسجيل الدخول اذا كنت عضو معنا او التسجيل ان لم تكن عضو
وترغب فى الانضمام الى أسرة المنتدى
ونتشرف بتسجيلك معنا

مع تحيات ادارة منتديات المحبه المقدسه


مـنـتـديـات الـمـحـبـه الـمـقـدسـه

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    كيف عرفت المسيح

    فرايم حبيب
    فرايم حبيب
    مشرف عام المنتديات
    مشرف عام المنتديات


    عدد المساهمات : 549
    عدد النقاط : 11907
    تاريخ التسجيل : 14/03/2010
    العمر : 74

    كيف عرفت المسيح Empty كيف عرفت المسيح

    مُساهمة من طرف فرايم حبيب الأحد 3 أكتوبر 2010 - 9:48




    كيف عرفت المسيح


    مساء أن انتابني شعور غريب عندما كنت اذرع الطرقات في حديقة منزلي. وكان الغسق قد بان في الأفق، وانتشر عبير الأزهار في كل مكان. لقد جرى شئ غريب فسألت نفسي: ماذا جرى حتى ارتعبت هكذا؟
    توقفت لحظة في مسيري وتطلعت حولي فشاهدت الخدام داخل المنزل يهيئون الطعام، ويوقدون الأضواء. أما أنا فما زلت في الحديقة اتلمس طريقي، وأقف مشدوهة ومنذهلة، بعد أن ظهر لي ذلك الشئ المريع. كل شئ في الخارج بدأ عاديا وهادئا فَلِمَ الخوف والارتباك الذي لازمني؟ سأستنشق عبير الأزهار، وأجمع باقة من النرجس أحملها إلى غرفتي وأتابع مسيرتي. لكني شعرت فجأة أن شيئا غريبا أخذ يمس رأسي. فذعرت وخلت المكان مسكونا بالأرواح، وصرخت مذعورة: ما هذا؟ وماذا جرى؟
    أسرعت نحو المنزل وأنا مذعورة، وإذا غمامة باردة من الضباب تغمر رأسي. وتحركت الغمامة ثم توارت، وتطلعت حولي فإذا البستان يبدو قائما أمام نظري. وهبت نسمات باردة داعبت أوراق الصفصاف المنتشرة في الحديقة ولازمني شعور من الخوف والحيرة، فأخذت ارتجف وبت مشدوهة وحائرة.
    خاطبت نفسي قائلة: ما لك يا بلقيس! اضبطي عواطفك! ليست تلك الغمامة سوى صورة ابتدعها خيالك ليداعبك. وكان لا بد من دخول البيت لأن وقت العشاء كان قد اقترب، فحملت باقة النرجس وتثاقلت بخطواتي أقصد باب المنزل.
    كانت نوافذ البيت تعكس أنوار الحب الدافئ في الداخل. وقلت في نفسي أن هذه الحجارة البيضاء التي تكوّن الجدران، والأبواب الخشبية للمنزل ستقدم لي حماية من كل شئ غريب. ففي الداخل يقين واطمئنان.
    ولما أوشكت دخول المنزل شاهدت شيئا غريبا يهبط على مقربة مني، وكاد يمس كتفي. ومن عادتي أنني لا اكترث للأمور غير الطبيعية واهزأ بها، لكن الآن غمرني شعور بأن شيئا غريبا قد حصل، وإن أمرا غير طبيعي قد تراءى لي. إذ حالما وطئت قدماي أرض المنزل إذا بلمسة غريبة تمس يدي اليمني فصرخت وأغلقت الباب ورائي.
    وللحال هرع الخدام نحوي وهم خائفون أن يظهروا أية ملاحظ أو يوجهوا أي انتقاد لأني ظهرت كشبح أمامهم. ولم أجرأ على الكلام إلا ساعة حان ميعاد نومي. عند ذلك تحدثت مع الجاريتين وأخبرتهما عن الشيء الغريب الذي تراءى لي. وسألت: هل تعتقدان بوجود أرواح؟ وكانت إحدى الجواري مسلمة وإسمها نورجان، والثانية مسيحية وإمسها ريشام، وحاولتا في بادئ الأمر تحاشي الإجابة على سؤالي إلا أن نورجان تجرأت وقالت: أتريدين يا سيدتي أن استدعي الملأ، وهو الأمام في أحد مساجد البلدة. فقد يحضر جالبا معه بعض الماء المقدس الذي به يظهر الحديقة ويطرد الأرواح.
    وكنت حينذاك قد استعدت وعيي الكامل، وتأثرت في أعماق قلبي بأنني استسلمت للاعتقاد بالخرافات. ولم أشأ أن ينشر هذا الحادث في البلدة، فاتسمت وقلتُ لنورجان: لا أريد أن يدخل هذا المكان أي رجل ليطرد الأرواح منها. وعلى الأثر تناولت نسخة من القران الكريم الذي كان بجانبي ضمن غلاف جلدي أزرق، وقلبت بعض صفحاته ثم استسلمت للنوم.


    أنه مازال ينزف, من أجلى ومن أجلك



    مسيحيتنا فوق الزمان






    أفقت عند الصباح على صوت المؤذن وهو يدعو للصلاة وكان صوته مثل السابح الذي يجاهد للخلاص من الغرق, كان صوتا ناعما ورقيقا وقد اخترق الفضاء وأعاد إلى الوعي السليم. وهذا النداء للصلاة يتكرر خمس مرات كل يوم من المآذن في البلاد الإسلامية. ويبدو أن نداءه للصلاة انتعش روحي، لا سيما بعد ما حدث لي ذلك الحادث الغريب البارحة، وبعد تلك الليلة المزعجة التي مرت بي. وأني أذكر أنني سمعت هذا النداء يتكرر طوال الست والأربعين سنة من حياتي. وبالطبع انتقل تفكيري إلى مصدر النداء، وإلى الآله العلي الذي ترفع الناس الصلاة إليه صبحا ومساء.




    قبل بضعة دقائق كان مؤذن قرية وان الباكستانية يفتح باب المئذنة المطلة على منزلنا. ودخلها ليتسلق إدراجها الملتوية البالية، التي أفنت نعال المئات من أحذية المؤذنين الذين تسلقوها عبر الأجيال. وأتصوره يتريث عند الباب الأعلى المطل على الناس ليلتقط أنفاسه بعد تسلق الإدراج العديدة. ومشى بضع خطوات على الشرفة ثم هتف بذلك النداء الذي اعتاد المؤذنون أن يدعو فيه الناس للصلاة طوال الأربع عشر قرنا من ظهور الإسلام. حيُ على الصلاة حيُ على الفلاح.




    أجل لقد تجاوب صوت المؤذن مع ضباب الصباح ونسيمه العليل، وتماوج الصوت في الطرقات والأزقة، وسمع بجلاء في ليلة نوفمبر الباردة. وكان قد وصل الصوت نوافذ غرفتي واخترق جدرانها الحجرية التي تلونت بلون فضي من أشعة الشمس المشرقة. وعندما سمعت آخر مقطع من نداء المؤذن تذكرت الاختبار المريع، والمظهر الغريب الذي حصل لي الليلة الماضية في حديقة منزلي. وقد حاولت أن أنساه بأن أجعل تفكيري يتجه إلى أعمالي الروتينية. وهكذا نهضت من نومي، وقرعت الجرس الذهبي الموضوع على مائدتي الرخامية قرب فراشي.




    ولدي سماع رنات الجرس وقرعاته الموسيقية العذبة هرعت نورجان مسرعة. والمعروف أن الجاريتين نورجان وريشام تنامان في الغرفة المجاورة لغرفتي وكانت قد نهضتا قبل ساعة وهما تنتظران ندائي وأوامري لهما. ومن عادتي أن أتناول شاي الصباح وأنا في السرير. وتعده لي ريشام. أما نورجان فهيأت المشط والفرضاة وأخذت تستعد لترتيب شعر رأسي. في حين أن ريشام دخلت الغرفة تحمل صينية عليها إبريق شاي من الفضة وفنجان اعتدت أن أشرب الشاي منه.




    ولا بد من كلمة عن أوصاف الجاريتين، فنورجان كانت في مقتبل العمر وهي قصيرة وسمينة، أما ريشام فكانت أكبر سنا، وأطول قامة وأهدأ سلوكا. شربت الشاي المنعش، وعلى الأثر شعرت ببعض الراحة. وسولت لي نفسي بأن تفكر بأن الشاي ربما كان أفضل من الصلاة في تهدئة أعصابي. ولو عرفت أمي أني لا أقدّر للصلاة قيمتها لاضطربت وحزنت في قلبها، لأنها كانت من دعاة الصلاة. وكثيرا ما رأيتها تفرش سجادة الصلاة على أرض الغرفة وتتجه بوجهها تجاه مكة المكرمة، ثم تقوم بعد ذاك بالفرض المقدس، وتؤدي الصلاة على الطريقة الإسلامية المعهودة، وفيما أنا أفكر بأمي حانت مني التفاته إلى خزانة الملابس التي ورثتها عنها. وكانت مصنوعة من خشب الصندل، ومغشاة بالفضة. وكانت رحمها الله قد ورثتها عن أمها من قبلها. من أجل ذلك اعتبرت هذه الخزانة ذكري محببة لي من أمي الراحلة، وكنزا ثمينا يجدر بي أن أحتفظ بي مدى الحياة. وبعد أن شربت فنجان الشاي بدأت الجاريتان عملهما، واحدة في تقليم إظفاري والأخرى في تمشيط شعري. وفيما هما تشتغلان تحدثتا عن إختبار القرية وكانت ريشام تعطي بعض الملاحظات عن الحديث الذي دار بينهما.




    فقد ذكرت ريشام أن ولداً ترك بيته في القرية ليذهب إلى المدينة ليحظى بفتاة يتزوجها هناك. ثم ذكرت أن جريمة قتل حدثت في بلدة قريبة من مسكن عمتها، وارتجفت ريشام عند ذكر ذلك لأن الفتاة المقتولة كانت مسيحية. وقالت إنها كانت تعمل خادمة في بيت أحد المرسلين وقد عثر على جثمانها في أحد أزقة تلك القرية.




    وسألت: هل جرى تحقيق لمعرفة القاتل؟




    أجابت ريشام: لا يا سيدي! وأدركت أن ريشام لكونها مسيحية لم تشأ أن تتكلم عن جريمة القتل وربما كانت تعرف من قتل الفتاة. ويبدو أن أخاها لما عرف أنها تعمدت وغيرت دينها ثارت حميته ورغب أن يمحو هذا العار عن العائلة فقتلها. وكان هذا شائعا لكل من يترك الإسلام ويعتنق دينا جديدا.




    قد تكون الشريعة قاسية نوعًا ما في هذا الشأن، أنما جماعة المتحمسين للدين، وإتباع التقاليد يأخذون القانون بأيديهم، ويثأرون بشدة لمن تسوّل له نفسه ترك الإسلام واعتناق دين جديد.




    والغريب أن الأثيرية كانت تعلم من قتل تلك الفتاة التي اعتنقت المسيحية، أنما لم يستطع أحد أن يثأر لها أو يحرك ساكنا، لأن هذه كانت العادة المتبعة أن أحد المقربين يمحو العار عن العائلة بقتل من يشذ عن التقاليد المرعية. وقد حدث قبل سنة أن أحد الخدام عند أحد المرسلين المسيحيين وجد مذبوحا وجثته مطروحة في أحد الخنادق، لكن لم تتخذ أية إجراءات عدلية في هذه القضية.




    لقد حاولت أن أنسى هذه القصص الأليمة لذلك نهضت من فراشي وللحال جلبت لي الجارية بعض الفساتين من خزانتي لاختار أيها أشاء، فأشرت إلى فستان مطرز بالجواهر. وبعد أن لبسته تركت الجاريتان غرفتي. وكانت الشمس قد ملأت جوانب الغرفة بنورها المشرق الوضاء، وانعكست تحلي صورة كانت على المائدة ضمن إطار ثمين. وكانت الصورة تمثل شخصية في أحد مطاعم لندن الأنيقة.




    مثلت الصورة رجلا في مقتبل العمر شديد البأس ذا شارب أسود وعينين متقدتين بالحماسة، وقد مثلت زوجي السابق القائد خالد الشيخ. وسألت نفسي: لماذا أبقيت هذه الصورة في غرفتي لأنني أخذت أكرهه، ومتلات نفسي حقدا عليه لأني كنت أتصور أنني لا أستطيع العيش بدونه, أنه في ريعان الشباب وهو الجنرال خالد وزير داخلية الباكستان. ويظهر بجانبه سيدة مرحة هي أنا. وكنت منحدرة من عائلة إسلامية محافظة، وكانت عائلتي طوال سبعة قرون أسياد تلك المنطقة من ولاية هندية في الشمال الغربي مما كان يعرف قبلا ببلاد الهند. وقد أخذت تلك الصورة قبل ست سنوات، وكنت في ذلك الوقت أعيش بين باريس ولندن وأعمل مضيقة للسياسيين والصناعيين من كل إنحاء العالم.




    وقابلت نفسي الآن بما كانت عليه في ذلك العهد، فوجدت أن الابتسامة الندية فارقت محياي. وهذه البشرة الناعمة قد تحولت إلى بشرة قاسية، وذلك الشعر اللامع الجميل قد خطة الشيب، وذلك الوجه الأملس قد تجعد من كثرة العناء ووفرة الهموم ومرارة العزلة والوحدة. أجل لقد تحطم ذلك العالم السعيد الذي كنت أنعم به كما تمثله الصورة عندما تركني زوجي خالد قبل خمس سنوات. وتأثرت من حياة المدن الكبيرة والعيش في لندن وباريس أو راولبندي الهندية، من أجل ذلك قصدت الإنعزال والسكن في هذا المكان الهادئ وضمن أملاك سكنها أجدادي.




    آثرت السكن في هذه البقعة من الأرض الواقعة على سفوح جبال الهملايا. وقد قامت قرية بالقرب من ممتلكات أجدادي على إحدى التلال الجميلة عرفت بإسم واه، وكنت قد قضيت أيام طفولتي في تلك القرية، ووسط الحدائق التي غرسها أفراد من أسرتنا من الجيل السابق. وكانت منازل القرية بقبابها العالية وغرفها الجميلة قديمة العهد وأثرية، وهي تشبه البيوت المبنية على جبل صفدكو المكسو بالثلوج والمجاور لقريتنا.




    وسكنت عمتي معي في أحد المنازل الرئيسية التابعة للعائلة ولما كنت أنشد العزلة اخترت مسكنا متواضعا في ضواحي قرية واه. وكان البيت مثل الجوهرة، مبنيا وسط أرش تبلغ مساحتها 12 فدانا، وضم حدائق غناء، وأراض واسعة، يتوسطه ذلك المنزل المتواضع الذي اخترته مسكنا لي. ويتألف من طابقين العلوي للنوم والسفلي للأكل والاستقبالات، وتوفقت لأني حظيت بمثل هذا الجو الذي يقدم لي الراحة والهناء والإستقرار والسكينة.















    وقدم لي المنزل أكثر ما كنت أتمني لأن الحديقة تحتاج من يرعاها، وكانت هذه تسلية لي، أقضي معظم أوقاتي في العمل مع الطبيعة الخيرة وفي الأرض الطيبة. ومع الوقت حولت الإثني عشر فدانا إلى حدائق غناء إذ ملأت تلك الرقعة من الأرض بالمياه الجارية، والحدائق بالأزهار الجميلة النادرة. وهكذا غدت تلك البقعة من الأرض والمنزل الذي اخترته واحتي المفضلة، والفردوس الأرضي الذي أنشده. وقد لقبت بالمتنسكة، وبالسيدة المتوحدة، وبالفعل فأني انعزلت عن حياة المدن، وآثرت العيش مع الطبيعة الجميلة وبالقرب من حدائق منزلي وأزهارها.




    وحولت نظري عن الصورة التي كانت على المائدة، وتطلعت من النافذة المطلة على قرية واه. وأعاد إسم القرية ذكريات جميلة إلى نفسي، فقبل عدة قرون كانت تلك المحلة خربة إلى أن مرّ أحد أباطرة المغول بقافلته منها. فتوقفت القافلة تنشد الراحة. ونام الإمبراطور قرب أحد الينابيع التي تتفجر في ممتلكات أرضنا. وفيما هو مرتاح تحت إحدى شجرات الصفصاف هتف من شدة فرحه وإرتياحه بالكلمة واه. وعلى الأثر أطلق إسم واه على تلك الناحية. ومع الوقت نمت وترعرت فغدت قبلة للزائرين، ومحطة للقوافل الذاهبة والايبة في تلك منطقة.




    وحالا تذكرت ما حدث لي الليلة الماضية من اختبار غريب. وحاولت طرد تلك الأفكار من ذاكرتي، إلا أن تلك الرؤيا ظلت تتراءى أمي. وقلت لأطوي صفحًا عما حدث، فهذا يوم ثان، وهذا صباح جميل. ولدي كثير من الأشغال والأعمال التي تلهيني عما حدث.




    استنشقت نسيم الصباح العليل، وأنا واقفة بالقرب من نافذة غرفتي، وشاهدت الخدام وهم يكنسون ساحة الدار، وتصاعدت رائحة الطعام الموضوع فوق المواقد، وكانت دواليب طاحونة الماء وهي تدور وتدفع بالماء تسمع من بعيد، فتأوهت وقلت هذه قرية واه، وأنا أسكن فيها. وها هو منزلي يقدم لي الراحة ويعيد السكينة إلى نفسي. فما أحلى هذه البقعة من الأرض! وما أجمل السكن في هذه القرية!




    في هذه البقعة من الأرض عاش الأمير الإقطاعي نواب محمود حياة خان قبل سبع مئة سنة. ونحن من سلالة ذلك الأمير العظيم. ومنذ ذلك الزمان وعائلتنا تعرف في بلاد الهند بآل حياة من قرية واه، ومنذ ذلك العهد، والقوافل تمر من الطريق المجاورة لقريتنا، وما أكثر القواد والأباطرة الذين سلكوا ذلك الطريق أثناء أسفارهم، لما كانوا يعرجون علينا لزيارة أحد من أصلافنا. وحتى في أيام صباي كان النبلاء والزوار من أوروبا وأسيا يسلكون نفس الطريق قاصدين زيارة أمراء قرية واه، وبعضا من أسلافنا الغابرين؟ أما الآن فلا يستعمل تلك الطريق سوى البعض من أفراد أسرتي الذين يفدون لزيارتي. ومعنى هذا أنني لا أرى أناسا أغرابًا، وجل من أراهم هم من أفراد عائلتنا الكبيرة.




    لم أكن لأبالي بحياة العزلة لأن الخدام الأربعة عشر الذين كوّنوا حاشيتي كانوا كفاية لتسليتي. وأسلافهم وآباؤهم من قبلهم خدموا أسرة آل حياة لأجيال طويلة، أنما تسليتي الكبرى في عزلتي كان حفيدي محمود. وهو يبلغ الآن الرابعة من عمره. وأمه كانت توني إحدى بناتي الثلاث، وهي نحيفة وجذابة المنظر واشتغلت كطبيبة في مستشفى العائلة المقدسة في مدينة راولبندي المجاورة. وكان زوجها من أصحاب الأملاك الشهرين في تلك الناحية، بيد أن حياتهما الزوجية لم تكن هينة، وكل سنة كانت العلاقات الزوجية تتدهور بين ابنتي وزوجها. وكثيرا ما كانت توني ترسل محمود عندي عندما تكون مشغولة. وزاد ترددها علي عندما استاءت العلاقات الزوجية بين الوالدين، ويوما ما جاء الوالدان يعرضان عليّ أن أعتني بمحمود، وكان يبلغ سنة واحدة من العمر، وريثما يسويان أمر خلافاتهما. قلت لهما: لا أريد أن يكون محمود مثل الكرة تتقاذفه الأيدي هنا وهناك، فإذا شئتما تبنيته واعتبرته ولدي. ولما لم تستطع توني أن تسوّي علاقاتها مع زوجها طُلقت منه، وكانا قد وافقا أن أتبنّى محمود. وفي البداية كانت توني تسكن قريبة مني فتحضر بين الآن والأخر لترى محمود. وهكذا عشنا نحن الثلاثة على مقربة من بعضنا البعض، لأن ابنتي الثانيتين كانتا بعيدتين عني.




    ولشدما غدا محمود تسليتي الكبرى. وها قد مضى عليه ثلاث سنوات في رعايتي: وهذا الفتى الناشئ بطلعته الملائكيه وعينيه العسليتين كان مجلبة للفرح والسعادة لي. وكانت ضحكته تشيع السرور بين سكان المنزل وترفع من معنوياتي وتبدد سحابة كابتي. وكثيرا ما فكرت في مصيره للمستقيل، وفي شعوره تجاهي، وهو يعيش مع جدة منكسرة القلب ومعزولة عن الناس. أما أنا فخصصت له ثلاثة من الخدام ولبيت جميع حاجاته، وحاولت دوما أن أجلب السرور إلى قلبه.












    وذات يوم انزعجت كثيرا لما علمت من الخدام أن محمود غير راغب في الأكل خلافا لعادته. فهو دائما يتردد على الخبز ويتناول ما شاء من الحلوى والكعك الشهي. ولما علمت من الخادمة أنه يرفض تناول الطعام سألته عن سبب ذلك قال: إنني لست جائعًا. وقالت نورجان ربما كان محمود يشكو من أرواح شريرة تهاجمه. فأنبّتها على هذا القول، وقلت نحن لا نؤمن بمثل هذه الخرافات. ولكني عدت فتذكرت الحادث الغريب الذي حصل لي في الليلة سابقة وقلت ربما كان في المسألة سرّ مستغلق علينا، والأفضل أخذه عند طبيبه الخاص للمعالجة.



    عدت فعرضت على محمود أقراصا من الحلوى اللذيذة التي كان يحبها والتي كنت قد استوردتها له من الخارج خصيصا. وعلى الأثر فاضت عيناه بالدموع وقال: أحب هذه الشوكلاتا يا ماما، لكني عندما أحاول ازدراد أي شئ يعروني ألم شديد. فسرت في جسمي قشعريرة باردة عندما تطلعت إلى حفيدي وهو منكمش ويائس مع أنه كان على الدوام روحا مشتعلة، وفتى مملوءًا بالحيوية والنشاط.


    وللحال استدعيت منصور سائق السيارة، وكان مسيحيا، وقلت له أن يعد السيارة لنأخذ محمود فيها عند الطبيب في بلدة راولبندي المداورة. وعندما فحص الطبيب الفتى قال: إنه لا يرى فيه أي مرضي. فزاد انزعاجي إذ لا علاج يستطيع إعادة هذه الحيوية المرحة إلى شخصية محمود الفتية. وقلت في نفسي ربما كانت نورجان مصيبة في ادعائها بأن أرواحا شريرة تطارد هذا الصبي الناشئ. ولما كان ما يشكو منه محمود هو فوق طاقة الأطباء فلا بد أن ما أصابه جاءه من عالم الروح. وفيما أنا أفكر بمثل هذا تذكرت ما قاله مرة والدي عن قديس سكن في تلك الناحية شاع عنه أنه يصنع عجائب. وعند ذاك ضحكت من مثل هذه الادعاءات، انما الآن بدأت نفسي نسول لي بتصديقها: وعندما اقتربنا من المنزل بعد عودتنا من زيارة الطبيب قلت في نفسي: ألا يمكن أن تكون قضية محمود لها علاقة بما تراءى لي من غيمة مفاجئة في الحديقة، ومن شبح مس أهداب شعري، وأنا أطأ عتبة المنزل في تلك الليلة التي ظهرت لي تلك الرؤيا المريعة وحصل لي ذلك الاختبار الغريب؟!


    وعندما تحدثت مع نورجان عن مسألة محمود طلبت مني أن أستدعي إمام المسجد ليصلّي من أجله ويرش جنبات الحديقة بالماء المقدس.وبدأ الخوف على وجه نورجان وتطاير غبار الحتاء عن أصابعها وهي تصر على استدعاء الملآ لتطهر البت من الأرواح الشريرة. كنت في الماضي أعتقد ببعض ما كانت به نورجان، أما الآن فقد تركت هذه الأفكار القديمة وهجرت بعض العادات المتوارثة التي كان يمارسها أبناء قومي، حتى أنني ابتعدت عن القيام بالمراسيم الدينية، كالصوم والصلاة خمس مرات في اليوم. انما القضية التي أمامنا الآن هي قضية هامة وتمس صحة الحفيد محمود، وهو الولد الذي تبنيته والعزير لديّ. والحبيب إلى قلبي. وما كان مني بعد جدال بسيط مع نورجان أن فوضتها بإستتدعاء إمام المسجد لمعالجة هذه المشكلة.





    جلست في اليوم التالي مع محمود قرب نافذة غرفتي بإنتظار قدوم الملا. قرع الباب ودخل المنزل وعباءته تتطاير مع هبات الهواء. وتأسفت في قلبي لأني استدعيت مثل هذا الرجل الوقور في مثل هذا الطقس المضطرب. وما أن استقر به المجلس حتى فتح المصحف الشريف وكان محمود يراقب حركاته بلهفة فائقة. وكان لون بشرة الإمام يشبّه لون غلاف المصحف. وما هي إلا برهة قصيرة حتى تناول يد محمود وأخذ يتلو آيات من القرآن الكريم. وهي آيات يستعملها المسلمون المؤمنون عند المرض، أو عند الشروع في عمل خطير أو القيام بأشغال تجارية أو ركوب البحر للسفر.


    ثم وضع الإمام يده على رأس محمود وهو يتلو بصوته الرخيم بعض الآيات الكريمة. وبالطبع فان تلاوته للآيات كان باللغة العربية لأن لا أحد يحبذ ترجمة القرآن إلى لغات أجنبية ويفضل المسلمون إستعمال القرآن بالعربية. ثم وجه الإمام القرآن نحوي وقال: هذه آيات من سورتي الفلق والناس، أريدك أن تعيدي تلاوتها. قلت: لا أريد لأن الله نسيني وأنا بدوري نسيته. وتطلع الإمام إليّ محدقا وحدجني بنظرات مؤنبة فتغيرت لهجة كلامي لا سيما وأنا التي استدعيته إلى منزلي، وغايتي مصلحة الحبيب محمود وصحته الغالية. وما كان مني إلا أن تناولت المصحف الشريف وقرأت الآيات التي أشار إليها الإمام.


    وتردد الإمام علينا لمدة ثلاثة أيام متتالية، وكان في كل مرة يتلو آيات من القرآن الكريم. ولحسن الحظ تحسنت صحة محمود، وما عتم أن استعاد نشاطه وحيويته. وأصبحت في حيرة من أمري هل أصدّق ما جرى، وهل حقيقة أن تلك الآيات الكريمة هي التي شفت محمود؟! وهكذا أخذت تبرز حوادث خفية وأحداث غريبة، وهذه بدأت تتحرك لتغير دنيا أفكاري وتحطم الجو الفكري الذي عشت فيه طوال حياتي، لا سيما بعد ذلك المظهر الغريب الذي تراءى لي، والإختبار المريع الذي مرّ بي في إحدى الليالي الماضية.



    بعد تلك الإختبارات التي مرّت بي، وجدت نفسي مدفوعة إلى كتاب الله العجيب القرآن الكريم. وقلت في نفسي علني أجد في مطالعة هذا الكتاب تفسيرا للحوادث الغريبة التي مرّت به، وعساني أجد فيه ما يملأ فراغ نفسي. والغريب أن اللغة الباكستانية (الأوردو) تستعمل نفس حروف الهجاء العربية. ويفضّل وجود القرآن الكريم باللغة العربية خشية التشويه لدي الترجمة.


    وكنت وأنا صغيرة قد بدأت أتعلم العربية ليتسني لي مطالعة القرآن. وأذكر أن ذلك كان لما بلغت من العمر أربع سنوات وأربعة أشهر وأربعة أيام. وهذا هو العمر المناسب للناشئين لدراسة القرآن الكريم. واحتفلت عائلتنا بهذه المناسبة حيث دُعي جميع الأقارب إلى حفلة خاصة. وأذكر أن زوجة الملآ الذي كان إماما للمسجد هي التي بدأت تعلمني الحروف العربية.


    وأتذكر بنوع خاص العم فتح. وكان هذا عمي بالفعل، لا لقبا يستعمله الناس للدلالة على احترام الشيوخ والمسنين إذ يلقبون كل رجل محترم بكلمة عم، مع أنهم بالفعل لا يمتون بصلة قرابة لهم. وكان عمي فتح يراقب حركاتي في تلك الحفلة. وقد طفح وجوهه بالفرح عندما تلوت قصة الملاك جبريل وهو يهبط بالوحي على النبي محمد وهو في غار حيراء عام 610 بعد الميلاد. واستغرقت دراستي لكتاب الله فترة سبعة أعوام وعندما أنهيت هذه دراسة أقيمت لي حفلة كبيرة تفوق سابقتها عند بدايتي بالدراس.


    أجل لما كنت في السابعة من عمري كنت أقرأ القرآن الكريم كواجب وفرض محتم. أما اليوم فقد أقصده عند الحاجة وفي المناسبات. والآن أخذت أفتش عن بعض الآيات التي ربما تقودني لمعرفة ذلك الاختبار الغريب الذي حصل لي في الحديقة في تلك الأمسية التاريخية. فتناولت نسختي من القرآن التي ورثتها عن والدتي، واستلقيت على فراشي وقرأت سورة العلق، وهي أول سورة نزلت على النبي وهو في غار حراء. وتهت بعذوبة الكلام وأعجبت ببلاغة التعبير. وعندما طالعت ما ورد عن طلاق لم أجد منفرجا لحالتي لأني تذكرت زوجي وهو ينطق بكلمة الطلاق ثلاث مرات ويتركني. وتصورته والشرر يتطاير من عينيه وهو يقول: لم أعد أحبك. وتساءلت في أعماق نفسي ماذا جرى لتتركني بعد تلك السنوات الطويلة التي عشناها بالمحبة سوية؟ وهل انتهى أمر زواجي وأصبحت مطلقة؟ وهل هذا ما كتبه القدر لي أن أعيش وحيدة بقية أيام حياتي؟


    وفي اليوم التالي تناولت المصحف الشريف، وأخذت أقلب صفحاته عساي أجد بعض الآيات التي تعيد اليقين والاطمئنان إلى نفسي. وما أكثر الانذارات والتحذيرات التي مرّت أمام نظري. وفي القرآن الكريم تشريع وإرشادات لحياة طاهرة ومستقيمة. ولما قرأت الآيات من سورة مريم عن يسوع دهشت أن القرآن الكريم يعترف به أنه مولود من عذراء وأنه من روح الله. لكنه لا ينعته بابن الله كالإنجيل خشية أن تشوه عقيدة التوحيد. والإسلام لا يرضى بمشاركة أحد لله في الألوهية، وفكرة الثالوث تدعو إلى الشرك، والإبتعاد عن الوحدانية. وكنت أكرر العودة إلى هذا الكتاب عساي أجد فيه منفرجا لما يجول في أعماق نفسي من اضطراب وانزعاج وعساي أجل ضمن صفحاته السلام القلبي الذي كنت أنشده.


    ولشد ما قصدت الحديقة وبدأت أتجول في دروبها، وأراقب أزهارها ورياحينها عساني أجد السلام المنشود وسكينة النفس في الطبيعة الجميلة وفي الأرض الطيبة، أو في الذكريات الماضية. وكان محمود يرافقني في تلك الجولات وكثيرا ما كنت أراه يقفز ويركض في تلك الطرقات التي أحببتها منذ صفري. ورغم أن الفصل كان خريفا فأننا شعرنا بالدفء وسحرنا بجمال الطبيعة الفتان.



    وتصورت في تلك الغدوات والدي، وهو يسير بجانبي، لابسا عمامته البيضاء وبزّته الرسمية، لأنه كان وزيرا للدولة الباكستانية الناشئة حديثا. وأسمع نداءه لي يتجاوب في أعماق نفسي، وكان يدعوني ببلقيس السلطانة. وكانت بلقيس ملكة سبأ المشهورة، وأضاف إلى إسمي السلطانة، ليذكرني بتلك الملكة العربية، وليسبغ على هذا اللقب الملوكي.


    وما أكثر الأحاديث القيّمة التي دارت بيني وبين والد عند ذاك. وقد ذكرنا دولة الباكستان التي نشأت من جديد بعد التقسيم. فقد خُلقت هذه الجمهورية الإسلامية الجديدة المعروفة بباكستان بعد انفصالها عن الهند، لتكون موطنا للمسلمين في جنوب أسيا. وأذكر أن والدي صرّح بأن باكستان هي أكبر دولة في العالم تسير بموجب الشريعة الإسلامية. وأشار إلى أن 96 في المائة فمن سكان الباكستان مسلمون. في حين أن البقية أقليات بوذية وهندية ومسيحية.


    ورفعت عيني إلى ما وراء أشجار حديقتنا الوارفة، ورانت مني التفاته إلى الأزهار الجميلة، والأعشاب اليانعة التي تكسو التلال المجاورة، وكنت جد متلهفة أن أحتفظ بتلك الذكريات الجميلة. وهذه الأحاديث مع والدي كانت تهئ لي تسلية ومتعة بالغتي الأثر. وكان والدي يشعر أنني أتجاوب معه في الحديث لا سيما عندما ذكرنا التغير السريع المفاجئ الذي طرأ على بلادنا. والآن قد توارى والدي من الوجود ولم تبق لي إلا هذه الذكريات.


    وأذكر عندما وفقت عند قبره في المقبرة الإسلامية في ضواحي لندن وكان قد سافر لعاصمة أنكلترا ليجري عملية جراحية لكنها للأسف لم تنجح. ومن عادة المسلمين أن يدفن الجثمان خلال 24 ساعة من الوفاة. وعندما وصلت إلى المقبرة كان القبر ما زال مفتوحا، وكأن المسؤولين تريثوا ريثما أحضر. وعندما تطلعت إلى الجثمان لم أصدّق أنني أرى والدي، وكانوا قد فتحوا التابوت لالقي نظرة أخيرة على ذلك الوالد الطيب الذكر. وتعجبت كيف أن هيئته تغيرت، وفارقته تلك الحيوية التي كانت تلازمه إثناء حياته. وفقدت والدتي بعد سبع سنوات من وفاة والدي. وهكذا بقيت وحيدة في هذه الدنيا بعد أن فقدت الوالدين الحبيبين.


    أنا الآن وسط حديقتي أعيش على ذكريات الماضي، وقد نمت الأشجار، وأينعت النباتات وازدادت الظلال في جنبات الحديقة. وكل هذه التغيرات لم تجلب لي راحة وتوفر لي سكينة النفس، بل ان الذكريات الماضية ما برحت تزيد في الأمي النفسية، واضطراب أفكاري. وفيما أنا في غمرة تأملاتي في الحديقة، سمعت صوت المؤذن يدعو إلى صلاة المساء. وتأوهت في أعماق قلبي وقلت: يا إلهي اين تلك السكينة التي وعدتني بها؟!


    وعلى الأثر عدت إلى غرفتي وتناولت المصحف الشريف الذي ورثته عن أمي، وأخذت أقلب صفحاته، فتأثرت من تلك المقاطع العديدة والآيات الوفيرة التي تشير إلى اليهود والمسيحيين الذين وجدوا قبل ظهور القرآن الكريم والنبي العربي. وقلت في نفسي لماذا لا أقرأ تلك الكتب المقدسة التي أشار إليها القرآن الكريم والخاصة بهؤلاء المؤمنين؟! ومعنى ذلك أنه لا بد من مطالعة التوراة والإنجيل. وظلت هذه الفكرة تشغل بالي ودفعني الشوق لأعرف فكرة الكتاب المقدس عن الله. وماذا يقول الإنجيل عن المسيح. لذلك فكان لا بد من الحصول على نسخة من الكتاب المقدس لالبي رغبة نفسي المتعطشة لهذه المعرفة.


    وغدت مشكلتي من أين أحصل على نسخة من الكتاب المقدس، ولا حانوت في ناحيتنا يتعاطى بيع مثل هذه الكتب. وقلت في نفسي ما دامت ريشام جاريتي مسيحية فلا بد وأن تكون لديها نسخة من هذا الكتاب السماوي. لكن ريشام لم تتجاسر أن تظهر بمظهر الحائز على نسخة من الكتاب المقدس خشية أن يحدث لها ما حدث لغيرها ممن تركوا الإسلام واعتنقوا الدين المسيحي. وفكرت في بقية الخدام المسيحيين. وكانت عائلتنا لا تحبذ استخدام من هم مسيحيون لعدم الثقة بولائهم. أما أنا فلم أكترث لهذا، إذ المهم عندي كان أن يقوم هؤلاء بواجباتهم بأمانة وإخلاص. لذلك أنا لم أتزعج من هذه الناحية واستخدمت عددا منهم من بينهم ريشام جاريتي الأمينة ومنصور سائق سيارتي النشيط.









    كان المرسلون المسيحيون قد قدموا للبلاد لنشر بشارة الإنجيل، وأدركوا أنهم يستطيعون اكتساب بعض المهتدين إلى المسيحية من الطبقات الفقيرة. وفعلا فان معظم الذين اعتنقوا المسيحية عند ذاك كانوا ممن يكنسون الشوارع أو ينظفون المجاري. ودعي هؤلاء المهتدون (بمسيحيي الأرز) لأنهم في اعتناقهم الذين الجديد كانوا يقصدون الحصول على طعام وملابس وتعليم. وكان المرسلون على استعداد ليوفروا لهم هذه الحاجات. وكثيرا ما استغربنا من المرسلين كيف أنهم يعنون بمثل هؤلاء الناس المعدمين، والفقراء المساكين.




    تذكرت أن منصور سائق سيارتي كان قد طلب مني قبل مدة أن أسمح لبعض المرسلين أن يتجولوا في حديقتي. وكان أحدهم قد أعجب بترتيبها وجمالها، وهو يطل عليها من وراء السياج. فسمحت لمنصور أن يجلب من يروم من هؤلاء المرسلين للتجوال في حديقة منزلي. وذات يوم شاهدت شخصين أمريكيين يجوبان أطراف الحديقة ويتجولان في جنباتها. وعرفت أن أحدهما كان القس داود متشل ترافقه زوجته. وقد ارتديا ملابس أوروبية، وكنت قد أوصيت البستاني أن يزودهما ببعض البذور إذا هما شاءا ذلك.




    ولمستها فرصة سانحة للحصول على كتاب مقدس. وطلبت من منصور أن يقوم بهذه المهمة. فاستدعيته لغرفتي فوقف أمامي بسرواله الأبيض العريض، وكان متهيج الأعصاب ومذعورا. فقلت له: هدئ من روعك يا منصور! كل ما في الأمر أني أريد منك أن تحصل لي على نسخة من الكتاب المقدس من أصحابك المرسلين. وكان منصور يجهل الكتابة والقراءة، ولم يملك كتابا لنفسه. فأستغرب هذا الطلب. ولما ألححت عليه هز رأسه ووعد بإتمام المهمة.




    كان جلب كتاب مقدس وإعطاؤه لأحد أفراد عائلة إسلامية عريقة مسألة خطيرة، لأن ذلك قد يكون له عواقب وخيمة، ولذلك تريث منصور باستجابة الطلب، لا سيما وانه سمع عن الذين كانوا يقتلون بسبب انتمائهم للدين المسيحي. وفيما أنا معه في السيارة في طريقنا إلى مدينة راولبندي المجاورة قلت له: لم أحصل يا منصور بعد على نسخة من الكتاب المقدس! أجاب: سأحضر لك يا سيدتي نسخة قريبا. ومرّت ثلاثة أيام فلم يلبّ طلبي فاستدعيته إلى غرفتي وقلت له: سأطردك من خدمتي إن لم تجلب لي نسخة من الكتاب المقدس من أحد أصحابك المرسلين.




    وأمتقع لون وجهه إصفرارًا من شدة الخوف، وقد أدرك أنني جادة فيما أقول. وفي اليوم الثاني وجدت نسخة صغيرة من الكتاب المقدس على مائدتي، ومطبوعة باللغة الأردية وهي لهجة هندية تستخدم حروف الهجاء العربية في الكتابة. ويبدو أن مرسلا إنكليزيا كان قد ترجمها إلى الأوردو قبل 180 سنة. وكانت لغة الكتاب صعبة وقديمة وعسيرة الفهم. وربما كان منصور قد حصل على تلك النسخة من أحد أصدقائه. فقلّبت الكتاب وحاولت أن أقرأ بعض السطور فتعذر عليّ ذلك عندئذ تركت الكتاب المقدس جانبا.




    وما هي إلا لحظات حتى جاءت إبنتي توني لتزورني. وشاهدت محمود يركض وراءها ويتناول هديته منها. وبعد برهة كان محمود يطير الطيارة التي جلبتها له أمه. وجلست مع توني لنتناول الشاي معًا. ولاحظت إبنتي الكتاب المقدس على المائدة أمامي. فتعجبت وقالت هل هذا هو الكتاب المقدس المختص بالمسيحيين؟! ليتك تقرأين لنا ماذا يقول هذا الكتاب؟! وكانت عائلتنا تنظر باحترام إلى أي كتاب مقدس. وكانت عادتنا أن نفتح الكتاب بدون تعيين صفحات خاصة. وعندما تناولت الكتاب حدث شئ غريب إذ فتحته على بعض الآيات من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية. فقرأت رومية 25:9-26: "سادعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي". وعلى الأثر انتابتني رجفة، لكني تماسكت في أنفاصي وجعلت أسائل نفسي: لماذا أثرت هذه الآيات عليّ لهذا الحد؟!




    وخيم صمت رهيب على الغرفة، وتطلعت إلى إبنتي توني وكانت تتوق لتعرف ما عثرت عليه من كلام الله الذي أثار عواطفي. لكنني لم أستطع قراءة تلك الآيات بصوت عال، لأن شيئا غريبا استحوذ على مشاعري وجعلني أتطلع إليها ككلمات هابطة من السماء لا مجرد كلمات للتسلية بل للتفكير والتأمل.




    وسألتني توني: ماذا جرى يا أماه؟!




    لكنني أقفلت الكتاب وتمتمت بعض العبارات، وقلت أن هذا الكلام هو كلام وحي صادق. وعلى الأثر غيرا مجري الحديث في حين أن تلك الآيات الكريمة أخذت تذكي نارًا في قلبي، وكأنها تمهد لحدث خطير في حياتي. وسرعان ما غدت ممهدة لأحلام عجيبة، ولأعظم اختبار روحي سيحصل لي.








    وثاني يوم تناولت كتابي المقدس، ولم أكن لأذكره أمام توني لأني غيرت مدري الحديث عند ذلك. لكن الآيات التي قرأتها من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ظلت تتفاعل مع وعيي، وفي عمق تفكيري. وعند المساء انعزلت في غرفة نومي، حيث نشدت الراحة وعدت للتأملات الهادئة. ثم تناولت ذلك الكتاب وجلست بين وسائدي الناعمة البيضاء وأعدت تلاوة تلك الآيات الثمينة. ثم تابعت ما ورد في رومية 31:9 فقرأت ما يلي "لكن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر."


    [b][size=21][font=arial][color=darkgreen]وقلت في نفسي أن اليهود ضلوا السبيل، وبهذا يصرح أيضا القرآن الكريم. وقد يتصور المرء أن كاتب الرسائل كان مسلما لأنه يستمر في الحديث عن إسرائيل بأنهم لم يعرفوا صلاح الله. وتابعت قراءة ال





    [b]

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت 27 أبريل 2024 - 19:48